الباحث القرآني
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، إِذَا كَانَتْ شَهَوَاتٍ وَعَادَاتٍ تَلَبَّسُوا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَغَلَبَتْ عَلَى النُّفُوسِ، فَكَانَ نَفْيٌ [[نفى: بقية.]] مِنْهَا فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ هَوَى الزَّجْرِ بِالطَّيْرِ، وَأَخْذُ الْفَأْلِ فِي الْكُتُبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَصْنَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ. وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهجرة.
وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهَا [[راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.]]. وَأَمَّا "الْمَيْسِرُ" فَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.]] الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقِيلَ: هِيَ الْأَصْنَامُ. وَقِيلَ: هِيَ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ، وَيَأْتِي بَيَانُهُمَا في سورة "يونس" عند قوله تعالى:﴿فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ﴾ [يونس: ٣٢] [[راجع ج ٨ ص ٣٣٥.]]. وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ الْقِدَاحُ، وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْقَوْلُ فِيهَا. وَيُقَالُ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ سَدَنَةِ الْبَيْتِ وَخُدَّامِ الْأَصْنَامِ، يَأْتِي الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَيَقْبِضُ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمَرَنِي رَبِّي خَرَجَ إِلَى حَاجَتِهِ عَلَى مَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ. الثَّانِيَةُ- تَحْرِيمُ الْخَمْرِ كَانَ بِتَدْرِيجٍ وَنَوَازِلَ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُولَعِينَ بِشُرْبِهَا، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شأنها "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ" [[راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.]]] البقرة: ٢١٩] أَيْ فِي تِجَارَتِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا فِيهِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: نَأْخُذُ مَنْفَعَتَهَا وَنَتْرُكُ إِثْمَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ﴾ [النساء: ٤٣] [[راجع ج ٥ ص ١٩١.]] فَتَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبَهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ" الْآيَةَ- فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْخَمْرِ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ عُيُوبَ الْخَمْرِ، وَمَا يَنْزِلُ بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا، وَدَعَا اللَّهُ فِي تَحْرِيمِهَا وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.]] وَ "النِّسَاءِ" [[راجع ج ٥ ص ١٩١.]]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "] النساء: ٤٣]، و "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ"] البقرة: ٢١٩] نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمُكَ وَنَسْقِيكَ خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فِي حُشٍّ- وَالْحُشُّ الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٍّ [عِنْدَهُمْ] [[الزيادة عن (صحيح مسلم).]] وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ لَحْيَيْ جَمَلٍ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ أَنْفِي- وَفَى رِوَايَةٍ فَفَزَرَهُ [[فزره: شقه.]] وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا- فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيَّ- يَعْنِي نَفْسَهُ شَأْنَ الْخَمْرِ- "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ". الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُبَاحًا مَعْمُولًا بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُغَيَّرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ النساء "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى "] النساء: ٤٣] عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَهَلْ كَانَ يُبَاحُ لَهُمْ شُرْبُ الْقَدْرِ الَّذِي يُسْكِرُ؟ حَدِيثُ حَمْزَةَ ظَاهِرٌ فِيهِ حِينَ بَقَرَ خَوَاصِرَ نَاقَتَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَبَّ أَسْنِمَتَهَمَا، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَاءَ إِلَى حَمْزَةَ فَصَدَرَ عَنْ حَمْزَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْقَوْلِ الْجَافِي الْمُخَالِفِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنِ احْتِرَامِ النَّبِيِّ ﷺ وَتَوْقِيرِهِ وَتَعْزِيرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِمَا يُسْكِرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي: فَعَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ ثَمِلٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى حَمْزَةَ وَلَا عَنَّفَهُ، لَا فِي حَالِ سُكْرِهِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ رَجَعَ لَمَّا قَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجَ عَنْهُ. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَوْهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ لَا مَفَاسِدُهُمْ، وَأَصْلُ الْمَصَالِحِ الْعَقْلُ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَفَاسِدِ ذَهَابُهُ، فَيَجِبُ الْمَنْعُ مِنْ كُلِّ مَا يُذْهِبُهُ أَوْ يُشَوِّشُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ حَدِيثُ حَمْزَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِشُرْبِهِ السُّكْرَ لَكِنَّهُ أَسْرَعَ فِيهِ فَغَلَبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رِجْسٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (رِجْسٌ) سُخْطٌ وَقَدْ يُقَالُ لِلنَّتْنِ وَالْعَذِرَةِ وَالْأَقْذَارِ رِجْسٌ. وَالرِّجْزُ بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة لَا غَيْرَ. وَالرِّجْسُ يُقَالُ لِلْأَمْرَيْنِ. وَمَعْنَى "مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ" أَيْ بِحَمْلِهِ عَلَيْهِ وَتَزْيِينِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ مَبَادِئَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتُدِيَ بِهِ فِيهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَاقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ نُصُوصِ الْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَحَصَلَ الِاجْتِنَابُ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ، فَبِهَذَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُورَةَ "الْمَائِدَةِ" نَزَلَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَوَرَدَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ لَا أَجِدُ" [[راجع ج ٧ ص ١١٥.]] وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيِ خَبَرًا، وَفِي الْخَمْرِ نَهْيًا وَزَجْرًا، وَهُوَ أَقْوَى التَّحْرِيمِ وَأَوْكَدُهُ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، مَشَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَجُعِلَتْ عِدْلًا [[عدل: مثل ونظير.]] لِلشِّرْكِ، يَعْنِي أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالذَّبْحِ لِلْأَنْصَابِ وَذَلِكَ شِرْكٌ. ثُمَّ عَلَّقَ "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فَعَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالْأَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَاسْتِخْبَاثِ الشَّرْعِ لَهَا، وَإِطْلَاقِ الرِّجْسِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهَا، الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ فَرَأَوْا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَأَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ شُرْبُهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَتِهَا بِسَفْكِهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ. وَالْجَوَابُ، أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُرُوبٌ [[السرب: حفيرة تحت الأرض.]] وَلَا آبَارٌ يُرِيقُونَهَا فِيهَا، إِذِ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُنُفٌ فِي بُيُوتِهِمْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَذَّرُونَ مِنِ اتِّخَاذِ الْكُنُفِ فِي الْبُيُوتِ، وَنَقْلُهَا إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ مَا وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، فَإِنَّ طُرُقَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَاسِعَةً، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ مِنَ الْكَثْرَةِ بحيث تصير نهرا يَعُمُّ الطَّرِيقَ كُلَّهَا، بَلْ إِنَّمَا جَرَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا- هَذَا- مَعَ مَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ شُهْرَةِ إِرَاقَتِهَا فِي طُرُقِ [[في ج وع وك. وفي ا: طريق.]] الْمَدِينَةِ، لِيَشِيعَ الْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى تَحْرِيمِهَا مِنْ إِتْلَافِهَا، وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: التَّنْجِيسُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، فَكَمْ مِنْ مُحَرَّمٍ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رِجْسٌ﴾ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، فَإِنَّ الرِّجْسَ فِي اللِّسَانِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ لَوِ الْتَزَمْنَا أَلَّا نَحْكُمَ بِحُكْمٍ إِلَّا حَتَّى نَجِدَ فِيهِ نَصًّا لَتَعَطَّلَتِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا قَلِيلَةٌ، فَأَيُّ نَصٍّ يُوجَدُ عَلَى تَنْجِيسِ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا هِيَ الظَّوَاهِرُ وَالْعُمُومَاتُ وَالْأَقْيِسَةُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ "الْحَجِّ" [[راجع ج ١٢ ص ٥٣.]] مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ: "فَاجْتَنِبُوهُ" يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا بِشُرْبٍ وَلَا بَيْعٍ وَلَا تَخْلِيلٍ وَلَا مُدَاوَاةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ [[الرواية: القربة التي فيها الخمر سماها مرة برواية ومرة بمزادة وهما بمعنى. وربما قالوا مزاد بغير (هاء) كما وقع في بعض النسخ.]] رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا [قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَارَّ رَجُلًا [[في ج وع وك: إنسانا.]] فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] بِمَ سَارَرْتَهُ [قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ:] إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا [، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا، فَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْجَائِزَةِ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، كَمَا قَالَ فِي الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ.] هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ [الْحَدِيثَ. الثَّامِنَةُ- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعَذِرَاتِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلِذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَرِهَ مَالِكٌ بَيْعَ زِبْلِ الدَّوَابِّ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْقَاسِمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.
التَّاسِعَةُ- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا لِأَحَدٍ، وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلُهَا مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِيَدَعَ الرَّجُلَ أَنْ يَفْتَحَ الْمَزَادَةَ [[في ب: المزادتين، ما فيهما.]] حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِيهَا، لِأَنَّ الْخَلَّ مَالٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ فِيمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ لَهُ مَالًا. وَقَدْ أَرَاقَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ خَمْرًا لِيَتِيمٍ، وَاسْتُؤْذِنَ ﷺ فِي تَخْلِيلِهَا فَقَالَ:] لَا [وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ بِتَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا تَخَلَّلَ مِنْهَا بِمُعَالَجَةِ آدَمِيٍّ [[أي بممارسة آدمي وعمله.]] أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَرَحَ فِيهَا الْمِسْكَ وَالْمِلْحَ فَصَارَتْ مُرَبًّى وَتَحَوَّلَتْ عَنْ حَالِ الْخَمْرِ جَازَ. وَخَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمُرَبَّى وَقَالَ: لَا تُعَالَجُ الْخَمْرُ بِغَيْرِ تَحْوِيلِهَا إِلَى الْخَلِّ وَحْدَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: احْتَجَّ الْعِرَاقِيُّونَ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ بِأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْمُرَبَّى مِنْهُ، وَيَقُولُ: دَبَغَتْهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ. وَخَالَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ فِي رَأْيِ أَحَدٍ حُجَّةً مَعَ السُّنَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مِنْ تَخْلِيلِهَا كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا، لِئَلَّا يُسْتَدَامَ حَبْسُهَا لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِشُرْبِهَا، إِرَادَةً لِقَطْعِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِهَا حِينَئِذٍ، وَالْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ أَكْلِهَا إِذَا خُلِّلَتْ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِذَا خَلَّلَ النَّصْرَانِيُّ خَمْرًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَلَّلَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي كِتَابِهِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَالِجَ الْخَمْرَ حَتَّى يَجْعَلَهَا خَلًّا وَلَا يَبِيعَهَا، وَلَكِنْ لِيُهْرِيقَهَا. الْعَاشِرَةُ- لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِذَاتِهَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْخَلِّ حَلَالٌ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَبِيصَةَ وَابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مذهبه عند أكثر أصحابه.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- ذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّهَا تُمْلَكُ، وَنَزَعَ إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ بِهَا الْغَصَصُ، وَيُطْفَأَ بِهَا حَرِيقٌ، وَهَذَا نَقْلٌ لَا يُعْرَفُ لِمَالِكٍ، بَلْ يُخَرَّجُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ. وَلَوْ جَازَ مِلْكُهَا لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِإِرَاقَتِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِلْكَ نَوْعُ نَفْعٍ وَقَدْ بَطَلَ بِإِرَاقَتِهَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ أَخْبَرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ" الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: "إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الْآيَةَ. فَكُلُّ لَهْوٍ دَعَا قَلِيلُهُ إِلَى كَثِيرٍ، وَأَوْقَعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الْعَاكِفِينَ عَلَيْهِ، وَصَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا مِثْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُورِثُ السُّكْرَ فَلَا يُقْدَرُ مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِي اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ هَذَا الْمَعْنَى، قِيلَ لَهُ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ، وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا يُوقِعَانِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ. وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ إِنْ أَسْكَرَتْ فَالْمَيْسِرُ لَا يُسْكِرُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ افْتِرَاقُهُمَا فِي ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ لَا يُسْكِرُ كَمَا أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ لَا يُسْكِرُ ثُمَّ كَانَ حَرَامًا مِثْلَ الْكَثِيرِ، فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامًا مِثْلَ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْتِدَاءَ اللَّعِبِ يُورِثُ الْغَفْلَةَ، فَتَقُومُ تِلْكَ الْغَفْلَةُ الْمُسْتَوْلِيَةُ عَلَى الْقَلْبِ مَكَانَ السُّكْرِ [[في ج وع وك: مقام.]]، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا تُسْكِرُ فَتَصُدُّ بِالْإِسْكَارِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَلْيُحَرَّمِ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ لِأَنَّهُ يُغْفِلُ وَيُلْهِي فَيَصُدُّ بِذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- مُهْدِي الرَّاوِيَةِ [[كذا في ج وع وى وا وهـ وفي ك: هذه الرواية تدل. إلخ. ولعل أصل العبارة: حديث مهدي الراوية ... إلخ.]] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، وَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ- كما يقوله بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ- بَلْ بِبُلُوغِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يوبخه،
بَلْ بَيَّنَ لَهُ الْحُكْمَ، وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَصَى بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ، وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ قُبَاءَ [[قباء قرية على بعد ميلين من المدينة.]]، إِذْ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى أَنْ أَتَاهُمُ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ، فَمَالُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) [[راجع ج ٢ ص ١٤٨ وما بعدها.]] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ الْخَمْرِ وَاشْتِقَاقُهَا وَالْمَيْسِرُ [[راجع ج ص ٥١ وما بعدها.]]. وَقَدْ مَضَى فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَوْلُ فِي الْأَنْصَابِ [[راجع ص ٥٧ وما بعدها من هذا الجزء.]] وَالْأَزْلَامِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾. الْآيَةَ. أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [[في ج وك: بيننا.]] بَيْنَنَا بِسَبَبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ، فَحَذَّرَنَا مِنْهَا، وَنَهَانَا عَنْهَا. رُوِيَ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا رَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ [[في ج وع: الرجل.]] يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ بِي هَذَا، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" الْآيَةَ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾ يَقُولُ: إِذَا سَكِرْتُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اللَّهَ وَلَمْ تُصَلُّوا، وَإِنْ صَلَّيْتُمْ خُلِطَ عَلَيْكُمْ كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ: بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي "النِّسَاءِ" [[راجع ج ٥ ص ٢٠٠.]]. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الشِّطْرَنْجِ أَهِيَ مَيْسِرٌ؟ وَعَنِ النَّرْدِ أَهُوَ مَيْسِرٌ؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا صَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ". السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ لَمَّا عَلِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْنَى انْتَهُوا قَالَ: انْتَهَيْنَا. وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَكُسِرَتِ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتِ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ في سكك المدينة.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا﴾ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ، وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ، وَكَفٌّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَحُسْنُ عَطْفٍ "وَأَطِيعُوا اللَّهَ" لَمَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مَعْنَى انْتَهُوا. وَكَرَّرَ "وَأَطِيعُوا" فِي ذِكْرِ الرسول تأكيدا. ثُمَّ حَذَّرَ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ تَوَلَّى بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: "فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ" أَيْ خالفتم (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فِي تَحْرِيمِ مَا أَمَرَ بِتَحْرِيمِهِ وَعَلَى الْمُرْسِلِ أَنْ يُعَاقِبَ أَوْ يُثِيبَ بِحَسَبِ مَا يُعْصَى أو يطاع.
{"ayahs_start":90,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ","إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ وَیَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ","وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُوا۟ۚ فَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ"],"ayah":"إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ وَیَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق