الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ حِينَ شَرِبَ طائِفَةٌ مِنَ الأنْصارِ والمُهاجِرِينَ فَتَفاخَرُوا، فَقالَ (p-١٣)سَعْدٌ: المُهاجِرُونَ خَيْرٌ، فَرَماهُ أنْصارِيٌّ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَفَزَرَ أنْفَهُ، وقِيلَ: بِسَبَبِ قَوْلِ عُمَرَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا في الخَمْرِ بَيانًا شافِيًا، وقِيلَ: بِسَبَبِ قِصَّةِ حَمْزَةَ وعَلِيٍّ حِينَ عَقَرَ شارِفَ عَلِيٍّ. وقالَ: هَلْ أنْتُمْ إلّا عَبِيدٌ لِأبِي، وهي قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وقِيلَ: كانَ أمْرُ الخَمْرِ ونُزُولُ الآياتِ بِتَدْرِيجٍ فَنَزَلَ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] . وقِيلَ: بِسَبَبِ قِراءَةِ بَعْضِ الصَّحابَةِ وكانَ مُنْتَشِيًا في صَلاةِ المَغْرِبِ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] عَلى غَيْرِ ما أُنْزِلَتْ ثُمَّ عَرَضَ ما عَرَضَ بِسَبَبِ شُرْبِها مِنَ الأُمُورِ المُؤَدِّيَةِ إلى تَحْرِيمِها حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَيَّيْنِ مِنَ الأنْصارِ ثَمِلُوا وعَرْبَدُوا، فَلَمّا صَحَوْا جَعَلَ كُلُّ واحِدٍ يَرى أثَرًا بِوَجْهِهِ وبِجَسَدِهِ فَيَقُولُ: هَذا فِعْلُ فُلانٍ، فَحَدَثَتْ بَيْنَهم ضَغائِنُ، ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها؛ أنَّهُ لَمّا أمَرَ تَعالى بِأكْلِ ما رَزَقَهم حَلالًا طَيِّبًا، ونَهاهم عَنْ تَحْرِيمِ ما أحَلَّهُ لَهم مِمّا لا إثْمَ فِيهِ، وكانَ المُسْتَطابُ المُسْتَلَذُّ عِنْدَهُمُ الخَمْرَ والمَيْسِرَ، وكانُوا يَقُولُونَ: الخَمْرُ تَطْرُدُ الهُمُومَ، وتُنَشِّطُ النَّفْسَ، وتُشَجِّعُ الجَبانَ، وتَبْعَثُ عَلى المَكارِمِ، والمَيْسِرُ يَحْصُلُ بِهِ تَنْمِيَةُ المالِ، ولَذَّةُ الغَلَبَةِ. بَيَّنَ تَعالى تَحْرِيمَ الخَمْرِ والمَيْسِرِ؛ لِأنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ يُقارِنُها مَفاسِدُ عَظِيمَةٌ فَفي الخَمْرِ إذْهابُ العَقْلِ، وإتْلافُ المالِ؛ ولِذَلِكَ ذَمَّ بَعْضُ حُكَماءِ الجاهِلِيَّةِ إتْلافَ المالِ بِها، وجَعَلَ تَرْكَ ذَلِكَ مَدْحًا فَقالَ:
؎أخِي ثِقَةٍ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مالَهُ ولَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المالَ نائِلُهُ
وتَنْشَأُ عَنْها مَفاسِدُ أُخَرُ مِن قَتْلِ النَّفْسِ، وشِدَّةِ البَغْضاءِ وارْتِكابِ المَعاصِي؛ لِأنَّ مَلاكَ هَذِهِ كُلِّها العَقْلُ، فَإذا ذَهَبَ العَقْلُ أتَتْ هَذِهِ المَفاسِدُ. والمَيْسِرُ فِيهِ أخْذُ المالِ بِالباطِلِ، وهَذا الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. والَّذِي مُنِعُوا مِنهُ في هَذِهِ الآيَةِ؛ هي شَهَواتٌ وعاداتٌ، فَأمّا الخَمْرُ فَكانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ، وإنَّما نَزَلَ تَحْرِيمُها بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ، سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وأمّا المَيْسِرُ فَفِيهِ لَذَّةٌ، وغَلَبَةٌ، وأمّا الأنْصابُ فَإنْ كانَتِ الحِجارَةُ الَّتِي يَذْبَحُونَ عِنْدَها ويَنْحَرُونَ؛ فَحُكِمَ عَلَيْها بِالرِّجْسِ؛ دَفْعًا لِما عَسى أنْ يَبْقى في قَلْبِ ضَعِيفِ الإيمانِ مِن تَعْظِيمِها، وإنْ كانَتِ الأنْصابُ الَّتِي تُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ؛ فَقُرِنَتِ الثَّلاثَةُ بِها مُبالَغَةً في أنَّهُ يَجِبُ اجْتِنابُها كَما يَجِبُ اجْتِنابُ الأصْنامِ، وأمّا الأزْلامُ الَّتِي كانَ الأكْثَرُونَ يَتَّخِذُونَها في أحَدِها (لا) وفي الآخَرِ (نَعَمْ) والآخَرِ (غُفْلٌ)، وكانُوا يُعَظِّمُونَها، ومِنها ما يَكُونُ عِنْدَ الكُهّانِ، ومِنها ما يَكُونُ عِنْدَ قُرَيْشٍ في الكَعْبَةِ، وكانَ فِيها أحْكامٌ لَهم. ومِن هَذا القَبِيلِ الزَّجْرُ بِالطَّيْرِ وبِالوَحْشِ، وبِأخْذِ الفَأْلِ في الكُتُبِ ونَحْوِهِ مِمّا يَصْنَعُهُ النّاسُ اليَوْمَ. وقَدِ اجْتَمَعَتْ أنْواعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ في الآيَةِ، مِنها التَّصْدِيرُ بِإنَّما وقِرانُ الخَمْرِ والمَيْسِرِ بِالأصْنامِ إذا فَسَّرْنا الأنْصابَ بِها. وفي الحَدِيثِ «مُدْمِنُ الخَمْرِ كَعابِدِ وثَنٍ» والإخْبارُ عَنْها بِقَوْلِهِ رِجْسٌ. وقالَ تَعالى: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠]، ووَصَفَهُ بِأنَّهُ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، والشَّيْطانُ لا يَأْتِي مِنهُ إلّا الشَّرُّ البَحْتُ. والأمْرُ بِالِاجْتِنابِ وتَرْجِيَةِ الفَلاحِ، وهو الفَوْزُ بِاجْتِنابِهِ، فالخَيْبَةُ في ارْتِكابِهِ. وبُدِئَ بِالخَمْرِ لِأنَّ سَبَبَ النُّزُولِ إنَّما وقَعَ بِها مِنَ الفَسادِ؛ ولِأنَّها جِماعُ الإثْمِ. وكانَتْ خَمْرُ المَدِينَةِ حِينَ نُزُولِها الغالِبُ عَلَيْها كَوْنُها مِنَ العَسَلِ ومِنَ التَّمْرِ ومِنَ الزَّبِيبِ ومِنَ الحِنْطَةِ ومِنَ الشَّعِيرِ، وكانَتْ قَلِيلَةً مِنَ العِنَبِ، وقَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى تَحْرِيمِ القَلِيلِ والكَثِيرِ مِن خَمْرِ العِنَبِ الَّتِي لَمْ تَمَسَّها نارٌ ولا خالَطَها شَيْءٌ، والأكْثَرُ مِنَ الأُمَّةِ عَلى أنَّ ما أسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرامٌ. والخِلافُ فِيما لا يُسْكِرُ قَلِيلُهُ ويُسْكِرُ كَثِيرُهُ مِن غَيْرِ خَمْرِ العِنَبِ، مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدْ خَرَّجَ قَوْمٌ تَحْرِيمَ الخَمْرِ مِن وصْفِها بِرِجْسٍ، وقَدْ وصَفَ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ بِأنَّها رِجْسٌ، فَيَجِيءُ مِن ذَلِكَ أنَّ كُلَّ رِجْسٍ حَرامٌ، وفي هَذا نَظَرٌ. والِاجْتِنابُ أنْ تَجْعَلَ الشَّيْءَ جانِبًا وناحِيَةً انْتَهى.
ولَمّا كانَ الشَّيْطانُ هو الدّاعِي إلى التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ المَعاصِي والمُغْرِي بِها؛ جُعِلَتْ مِن عَمَلِهِ وفِعْلِهِ، ونُسِبَتْ إلَيْهِ عَلى جِهَةِ المَجازِ والمُبالَغَةِ في كَمالِ (p-١٤)تَقْبِيحِهِ، كَما جاءَ ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ﴾ [القصص: ١٥] قالَ هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، والضَّمِيرُ في (فاجْتَنِبُوهُ) عائِدٌ عَلى الرِّجْسِ المُخْبَرِ عَنْهُ مِنَ الأرْبَعَةِ، فَكانَ الأمْرُ بِاجْتِنابِهِ مُتَناوِلًا لَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ إلامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿فاجْتَنِبُوهُ﴾ ؟ قُلْتُ إلى المُضافِ المَحْذُوفِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّما شَأْنُ الخَمْرِ والمَيْسِرِ أوْ تَعاطِيهِما أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ؛ ولِذَلِكَ قالَ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ انْتَهى. ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ هَذا المُضافِ، بَلِ الحُكْمُ عَلى هَذِهِ الأرْبَعَةِ أنْفُسِها أنَّها رِجْسٌ أبْلَغُ مِن تَقْدِيرِ ذَلِكَ المُضافِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] .
﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ذَكَرَ تَعالى في الخَمْرِ والمَيْسِرِ مَفْسَدَتَيْنِ إحْداهُما دُنْيَوِيَّةٌ، والأُخْرى دِينِيَّةٌ، فَأمّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَإنَّها تُثِيرُ الشُّرُورَ والحُقُودَ، وتَئُولُ بِشارِبِها إلى التَّقاطُعِ. وأكْثَرُ ما تُسْتَعْمَلُ في جَماعَةٍ يَقْصِدُونَ التَّآنُسَ بِاجْتِماعِهِمْ عَلَيْها والتَّوَدُّدَ والتَّحَبُّبَ، فَتَعْكِسُ عَلَيْهِمُ الأمْرَ، ويَصِيرُونَ إلى التَّباغُضِ؛ لِأنَّها مُزِيلَةٌ لِلْعَقْلِ الَّذِي هو مَلاكُ الأشْياءِ. قَدْ يَكُونُ في نَفْسِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ الَّذِي يَكْتُمُهُ بِالعَقْلِ، فَيَبُوحُ بِهِ عِنْدَ السُّكْرِ، فَيُؤَدِّي إلى التَّلَفِ؛ ألا تَرى إلى ما جَرى إلى سَعْدٍ وحَمْزَةَ ؟ وما أحْسَنَ ما قالَ قاضِي الجَماعَةِ أبُو القاسِمِ أحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ بَقِيٍّ، وكانَ فَقِيهًا عالِمًا عَلى مَذْهَبِ أهْلِ الحَدِيثِ، فِيما قَرَأْتُهُ عَلى القاضِي العالِمِ أبِي الحَسَنِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أبِي الأحْوَصِ، عَنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، بِكَرَمِهِ:
؎ألا إنَّما الدُّنْيا كَراحٍ عَتِيقَةٍ ∗∗∗ أرادَ مُدِيرُوها بِها جَلْبَ الأُنْسِ
؎فَلَمّا أدارُوها أنارَتْ حُقُودَهم ∗∗∗ فَعادَ الَّذِي رامُوا مِنَ الأُنْسِ بِالعَكْسِ
وأمّا المَيْسِرُ فَإنَّ الرَّجُلَ لا يَزالُ يُقامِرُ حَتّى يَبْقى سَلِيبًا لا شَيْءَ لَهُ ويَنْتَهِي مِن سُوءِ الصَّنِيعِ في ذَلِكَ أنْ يُقامِرَ حَتّى عَلى أهْلِهِ ووَلَدِهِ، فَيُؤَدِّي بِهِ ذَلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ أعْدى عَدُوٍّ لِمَن قَمَرَهُ وغَلَبَهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنهُ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والغَلَبَةِ، ولا يُمْكِنُ امْتِناعُهُ مِن ذَلِكَ؛ ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُ الجاهِلِيَّةِ:
؎لَوْ يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِها ∗∗∗ وكُلُّ ما يَسَرَ الأقْوامُ مَغْرُومُ
وأمّا الدِّينِيَّةُ فالخَمْرُ؛ لِغَلَبَةِ السُّرُورِ بِها، والطَّرَبِ عَلى النُّفُوسِ، والِاسْتِغْراقِ في المَلاذِ الجِسْمانِيَّةِ؛ تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وعَنِ الصَّلاةِ. والمَيْسِرُ إنْ كانَ غالِبًا بِهِ؛ انْشَرَحَتْ نَفْسُهُ، ومَنَعَهُ حُبُّ الغَلَبِ والقَهْرِ والكَسْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وإنْ كانَ مَغْلُوبًا فَما حَصَلَ لَهُ مِنَ الِانْقِباضِ والنَّدَمِ والِاحْتِيالِ عَلى أنَّهُ يَصِيرُ غالِبًا، لا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ ذِكْرُ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لا يَذْكُرُهُ إلّا قَلْبٌ تَفَرَّغَ لَهُ واشْتَغَلَ بِهِ عَمّا سِواهُ. وقَدْ شاهَدْنا مَن يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ والشَّطْرَنْجِ، يَجْرِي بَيْنَهم مِنَ اللَّجاجِ والحَلِفِ الكاذِبِ وإخْراجِ الصَّلاةِ عَنْ أوْقاتِها، ما يَرْبَأُ المُسْلِمُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ، هَذا وهم يَلْعَبُونَ بِغَيْرِ جَعْلِ شَيْءٍ لِمَن غَلَبَ، فَكَيْفَ يَكُونُ حالُهم إذا لَعِبُوا عَلى شَيْءٍ فَأخَذَهُ الغالِبُ ؟ وأفْرَدَ الخَمْرَ والمَيْسِرَ هُنا وإنْ كانا قَدْ جُمِعا مَعَ الأنْصابِ والأزْلامِ؛ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ (p-١٥)الخَمْرِ والمَيْسِرِ وتَبْعِيدًا عَنْ تَعاطِيهِما، فَنَزَلا في التَّرْكِ مَنزِلَةَ ما قَدْ تَرَكَهُ المُؤْمِنُونَ مِنَ الأنْصابِ والأزْلامِ. والعَداوَةُ تَتَعَلَّقُ بِالأُمُورِ الظّاهِرَةِ، وعُطِفَ عَلى هَذا ما هو أشَدُّ، وهو البَغْضاءُ؛ لِأنَّ مُتَعَلِّقَها القَلْبُ؛ لِذَلِكَ عُطِفَ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ ما هو ألْزَمُ وأوْجَبُ وآكَدُ، وهو الصَّلاةُ. وفِيما يُنْتِجُهُ الخَمْرُ والمَيْسِرُ مِنَ العَداوَةِ والبَغْضاءِ والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ، أقْوى دَلِيلٍ عَلى تَحْرِيمِها، وعَلى أنْ يَنْتَهِيَ المُسْلِمُ عَنْهُما؛ ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَهُ ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ وهَذا الِاسْتِفْهامُ مِن أبْلَغِ ما يَنْهى عَنْهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: قَدْ تُلِيَ عَلَيْكم ما فِيهِما مِنَ المَفاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ والدِّينِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْتِهاءَ، فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ أمْ باقُونَ عَلى حالِكم مَعَ عِلْمِكم بِتِلْكَ المَفاسِدِ ؟ وجَعْلُ الجُمْلَةِ اسْمِيَّةً، والمُواجَهَةُ لَهم بِأنْتُمْ، أبْلَغُ مِن جَعْلِها فِعْلِيَّةً. وقِيلَ: هو اسْتِفْهامٌ يَضْمَنُ مَعْنى الأمْرِ؛ أيْ فانْتَهُوا؛ ولِذَلِكَ قالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنا يا رَبِّ. وذَكَرَ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أنَّ جَماعَةً كانُوا يَشْرَبُونَها بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ويَقُولُونَ: إنَّما قالَ تَعالى: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ فَقالَ بَعْضُهم: انْتَهَيْنا. وقالَ بَعْضُهم: لَمْ نَنْتَهِ، فَلَمّا نَزَلَ ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ﴾ [الأعراف: ٣٣] حُرِّمَتْ؛ لِأنَّ الإثْمَ اسْمٌ لِلْخَمْرِ، ولا يَصِحُّ هَذا. وقالَ التَّبْرِيزِيُّ هَذا اسْتِفْهامُ ذَمٍّ مَعْناهُ الأمْرُ؛ أيِ انْتَهُوا مَعْناهُ اتْرُكُوا وانْتَقِلُوا عَنْهُ إلى غَيْرِهِ مِنَ المُوَظَّفِ عَلَيْكُمُ انْتَهى. ووَجْهُ ما ذُكِرَ مِنَ الذَّمِّ أنَّهُ نَبَّهَ عَلى مَفاسِدَ تَتَوَلَّدُ مِنَ الخَمْرِ والمَيْسِرِ يَقْضِي العَقْلُ بِتَرْكِهِما مِن أجْلِها لَوْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ وقَدْ ورَدَ الشَّرْعُ بِالتَّرْكِ ؟ وقَدْ تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ في البَقَرَةِ؛ أنَّ جَماعَةً مِنَ الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَشْرَبُوا الخَمْرَ؛ صَوْنًا لِعُقُولِهِمْ عَمّا يُفْسِدُها، وكَذَلِكَ في الإسْلامِ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِها.
﴿وأطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ واحْذَرُوا﴾ هَذا أمْرٌ بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، وطاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، في امْتِثالِ ما أمَرَ بِهِ، واجْتِنابِ ما نَهى عَنْهُ. وأمَرَ بِالحَذَرِ مِن عاقِبَةِ المَعْصِيَةِ، وناسَبَ العَطْفُ في (وأطِيعُوا) عَلى مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ إذْ تَضَمَّنَ هَذا مَعْنى الأمْرِ، وهو قَوْلُهُ (فانْتَهُوا) . وقِيلَ: الأمْرُ بِالطّاعَةِ هَذا مَخْصُوصٌ؛ أيْ أطِيعُوا فِيما أُمِرْتُمْ بِهِ مِنِ اجْتِنابِ ما أُمِرْتُمْ بِاجْتِنابِهِ، واحْذَرُوا ما عَلَيْكم في مُخالَفَةِ هَذا الأمْرِ، وكُرِّرَ (وأطِيعُوا) عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، والأحْسَنُ أنْ لا يُقَيَّدَ الأمْرُ هُنا، بَلْ أُمِرُوا أنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ دائِمًا حَذِرِينَ خاشِينَ؛ لِأنَّ الحَذَرَ مَدْعاةٌ إلى عَمَلِ الحَسَناتِ واتِّقاءِ السَّيِّئاتِ.
﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّما عَلى رَسُولِنا البَلاغُ المُبِينُ﴾ أيْ فَإنْ أعْرَضْتُمْ فَلَيْسَ عَلى الرَّسُولِ إلّا أنْ يُبَلِّغَ أحْكامَ اللَّهِ، ولَيْسَ عَلَيْهِ خَلْقُ الطّاعَةِ فِيكم، ولا يَلْحَقُهُ مِن تَوَلِّيكم شَيْءٌ، بَلْ ذَلِكَ لاحِقٌ بِكم. وفي هَذا مِنَ الوَعِيدِ البالِغِ ما لا خَفاءَ بِهِ، إذْ تَضَمَّنَ أنَّ عِقابَكم إنَّما يَتَوَلّاهُ المُرْسِلُ، لا الرَّسُولُ، وما كُلِّفَ الرَّسُولُ مِن أمْرِكم غَيْرَ تَبْلِيغِكم. ووَصْفُ البَلاغِ بِالمُبِينِ إمّا لِأنَّهُ بَيِّنٌ في نَفْسِهِ واضِحٌ جَلِيٌّ، وإمّا لِأنَّهُ مُبَيِّنٌ لَكم أحْكامَ اللَّهِ تَعالى، وتَكالِيفَهُ بِحَيْثُ لا يَعْتَرِيها شُبْهَةٌ، بَلْ هي واضِحَةٌ نَيِّرَةٌ جَلِيَّةٌ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى تَحْرِيمِ الخَمْرِ، وهو الظّاهِرُ، وقَدْ حَلَفَ عُمَرُ فِيها، وبَلَغَهُ أنَّ قَوْمًا شَرِبُوها بِالشّامِ، وقالُوا هي حَلالٌ، فاتَّفَقَ رَأْيُهُ ورَأْيُ عَلِيٍّ عَلى أنْ يُسْتَتابُوا، فَإنْ تابُوا وإلّا قُتِلُوا؛ لِأنَّهُمُ اعْتَقَدُوا حَلَّها، والجُمْهُورُ عَلى أنَّها نَجِسَةُ العَيْنِ؛ لِتَسْمِيَتِها رِجْسًا، والرِّجْسُ النَّجِسُ المُسْتَقْذَرُ. وذَهَبَ رَبِيعَةُ واللَّيْثُ والمُزَنِيُّ وبَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِنَ البَغْدادِيِّينَ؛ إلى أنَّها ظاهِرَةٌ، واخْتَلَفُوا هَلْ كانَ المُسْكِرُ مِنها مُباحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أمْ لا.
{"ayahs_start":90,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ","إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ وَیَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ","وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُوا۟ۚ فَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ"],"ayah":"إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ وَیَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق