الباحث القرآني

الْمَعْنَى: وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ لُقْمَانَ إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إِعْلَامَ ابْنِهِ بِقَدْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي أَمْكَنَهُ أَنْ يُفْهِمَهُ، لِأَنَّ الْخَرْدَلَةَ يُقَالُ: إِنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ لَهَا ثِقَلًا، إِذْ لَا تُرَجِّحُ مِيزَانًا أَيْ لَوْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ رِزْقُ مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَاءَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى يَسُوقَهَا إِلَى مَنْ هِيَ رِزْقُهُ، أَيْ لَا تَهْتَمُّ لِلرِّزْقِ حَتَّى تَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (لَا تُكْثِرْ هَمَّكَ مَا يُقَدَّرُ يَكُونُ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِيكَ). وَقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِأَنَّ اللَّهَ تعالى قد أحاط بكل شي علما، وأحصى كل شي عَدَدًا، سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تَقَعُ فِي سُفْلِ الْبَحْرِ أَيَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَرَاجَعَهُ لُقْمَانُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ الْأَعْمَالَ، الْمَعَاصِيَ وَالطَّاعَاتِ، أَيْ إِنْ تَكُ الْحَسَنَةُ أَوِ الْخَطِيئَةُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، أَيْ لَا تَفُوتُ الْإِنْسَانَ الْمُقَدَّرُ وُقُوعُهَا مِنْهُ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَصَّلُ فِي الْمَوْعِظَةِ تَرْجِيَةٌ وَتَخْوِيفٌ مُضَافٌ [ذَلِكَ [[زيادة عن ابن عطية.]]] إِلَى تَبْيِينِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيَةٌ وَلَا تَخْوِيفٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِثْقالَ حَبَّةٍ﴾ عِبَارَةٌ تَصْلُحُ لِلْجَوَاهِرِ، أَيْ قَدْرَ حَبَّةٍ، وَتَصْلُحُ لِلْأَعْمَالِ، أَيْ مَا يَزِنُهُ عَلَى جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ قَدْرَ حَبَّةٍ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ هِيَ مِنَ الْجَوَاهِرِ: قِرَاءَةُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ [[في ج: (الجوزي).]] "فَتَكُنْ" بِكَسْرِ الْكَافِ وَشَدِّ النُّونِ، مِنَ الْكِنِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ الْمُغَطَّى. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: "إِنْ تَكُ" بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ "مِثْقالَ" بِالنَّصْبِ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَاسْمُهَا مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: مَسْأَلَتُكَ، عَلَى مَا رُوِيَ، أَوِ الْمَعْصِيَةُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُ ابْنِ لُقْمَانَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنْ عَمِلْتُ الْخَطِيئَةَ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ كَيْفَ يَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَقَالَ لُقْمَانُ له: "يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ" الْآيَةَ. فَمَا زَالَ ابْنُهُ يَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالضَّمِيرُ فِي "إِنَّها" ضَمِيرُ الْقِصَّةِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّهَا هِنْدٌ قَائِمَةٌ، أَيِ الْقِصَّةُ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ. وَالْبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ: إِنَّهَا زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ، بِمَعْنَى إِنَّ الْقِصَّةَ. وَالْكُوفِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ هَذَا إِلَّا فِي الْمُؤَنَّثِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ: "مِثْقالَ" بِالرَّفْعِ، وَعَلَى هَذَا "تَكُ" يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى خَرْدَلَةٍ، أَيْ إِنْ تَكُ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ. وَقِيلَ: أَسْنَدَ إِلَى الْمِثْقَالِ فِعْلًا فِيهِ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ مِنْ حَيْثُ انْضَافَ إِلَى مُؤَنَّثٍ هُوَ مِنْهُ، لِأَنَّ مِثْقَالَ الْحَبَّةِ مِنَ الْخَرْدَلِ إِمَّا سَيِّئَةً أَوْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها﴾[[في ج: (الجوزي). راجع ج ٧ ص ١٥٠.]] [الانعام: ١٦٠] فَأَنَّثَ وَإِنْ كَانَ الْمِثْلُ مُذَكَّرًا، لِأَنَّهُ أَرَادَ الْحَسَنَاتِ. وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمُ [[البيت لذي الرمة. و (تسفهت): استخفت والسفه خفة العقل وضعفه. و (النواسم): الضعيفة الهبوب. وصف نساء فيقول: إذا مشين اهتززن في مشيهن وتثنين فكأنهن رماح نصبت فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت.]] وَ "تَكُ" هَاهُنَا بِمَعْنَى تَقَعُ فَلَا تَقْتَضِي خَبَرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ قِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُبَالَغَةُ وَالِانْتِهَاءُ فِي التَّفْهِيمِ، أَيْ أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى تَنَالُ مَا يَكُونُ فِي تَضَاعِيفِ صَخْرَةٍ وَمَا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّخْرَةُ تَحْتَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَعَلَيْهَا الْأَرْضُ. وَقِيلَ: هِيَ الصَّخْرَةُ عَلَى ظَهْرِ الْحُوتِ. وَقَالَ السُّدِّيَّ: هِيَ صَخْرَةٌ لَيْسَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَلْ هِيَ وَرَاءَ سَبْعِ أَرَضِينَ عَلَيْهَا مَلَكٌ قَائِمٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: "أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ" وَفِيهِمَا غُنْيَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: "فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ"، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُمْكِنٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: "فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ" تَأْكِيدٌ، كَقَوْلِهِ:" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ [[راجع ج ٢٠ ص ١١٧.]] عَلَقٍ" [العلق: ٢ - ١]، وقوله:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [[راجع ج ١٠ ص ٢٠٤.]] لَيْلًا" [الاسراء: ١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب