الباحث القرآني

ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وصاحِبْهُما في الدُّنْيا مَعْرُوفًا واتَّبِعْ سَبِيلَ مَن أنابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكم فَأُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿يابُنَيَّ إنَّها إنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في السَّماواتِ أوْ في الأرْضِ يَأْتِ بِها اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ يَعْنِي أنَّ خِدْمَتَهُما واجِبَةٌ وطاعَتَهُما لازِمَةٌ ما لَمْ يَكُنْ فِيها تَرْكُ طاعَةِ اللَّهِ. أمّا إذا أفْضى إلَيْهِ فَلا تُطِعْهُما، وقَدْ ذَكَرْنا تَفْسِيرَ الآيَةِ في العَنْكَبُوتِ، وقالَ هَهُنا: ﴿واتَّبِعْ سَبِيلَ مَن أنابَ إلَيَّ﴾، يَعْنِي صاحِبْهُما بِجِسْمِكَ فَإنَّ حَقَّهُما عَلى جِسْمِكَ، واتَّبِعْ سَبِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِعَقْلِكَ، فَإنَّهُ مُرَبِّي عَقْلِكَ، كَما أنَّ الوالِدَ مُرَبِّي جِسْمِكَ. قالَ تَعالى: ﴿يابُنَيَّ إنَّها إنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في السَّماواتِ أوْ في الأرْضِ يَأْتِ بِها اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ لَمّا قالَ: ﴿فَأُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقَعَ لِابْنِهِ أنَّ ما يَفْعَلُ في خُفْيَةٍ يَخْفى، فَقالَ: ﴿يابُنَيَّ إنَّها﴾ أيِ الحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ إنْ كانَتْ في الصِّغَرِ مِثْلَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وتَكُونُ مَعَ ذَلِكَ الصِّغَرِ في مَوْضِعٍ حَرِيزٍ كالصَّخْرَةِ لا تَخْفى عَلى اللَّهِ، وفِيهِ مَسائِلُ: (p-١٣٠)المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿فَتَكُنْ﴾ بِالفاءِ لِإفادَةِ الِاجْتِماعِ يَعْنِي إنْ كانَتْ صَغِيرَةً ومَعَ صِغَرِها تَكُونُ خَفِيَّةً في مَوْضِعٍ حَرِيزٍ كالصَّخْرَةِ لا تَخْفى عَلى اللَّهِ؛ لِأنَّ الفاءَ لِلِاتِّصالِ بِالتَّعْقِيبِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لَوْ قِيلَ الصَّخْرَةُ لا بُدَّ مِن أنْ تَكُونَ في السَّماواتِ أوْ في الأرْضِ فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِها ؟ ولِأنَّ القائِلَ لَوْ قالَ: هَذا رَجُلٌ أوِ امْرَأةٌ أوِ ابْنُ عَمْرٍو. لا يَصِحُّ هَذا الكَلامُ؛ لِكَوْنِ ابْنِ عَمْرٍو داخِلًا في أحَدِ القِسْمَيْنِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ هَذا ؟ فَنَقُولُ الجَوابَ عَنْهُ مِن أوْجُهٍ. أحَدُها: ما قالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، وهو أنَّ المُرادَ بِالصَّخْرَةِ صَخْرَةٌ عَلَيْها الثَّوْرُ، وهي لا في الأرْضِ ولا في السَّماءِ. والثّانِي ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو أنَّ فِيهِ إضْمارًا تَقْدِيرُهُ: فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في مَوْضِعٍ آخَرَ في السَّماواتِ أوْ في الأرْضِ. والثّالِثُ: أنْ نَقُولَ: تَقْدِيمُ الخاصِّ وتَأْخِيرُ العامِّ في مِثْلِ هَذا التَّقْسِيمِ جائِزٌ، وتَقْدِيمُ العامِّ وتَأْخِيرُ الخاصِّ غَيْرُ جائِزٍ. أمّا الثّانِي: فَلَمّا بَيَّنْتُمْ أنَّ مَن قالَ هَذا في دارِ زَيْدٍ أوْ في غَيْرِها أوْ في دارِ عَمْرٍو لا يَصِحُّ لِكَوْنِ دارِ عَمْرٍو داخِلَةً في قَوْلِهِ أوْ في غَيْرِها، وأمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ قَوْلَ القائِلِ: هَذا في دارِ زَيْدٍ أوْ في دارِ عَمْرٍو أوْ في غَيْرِها صَحِيحٌ غَيْرُ قَبِيحٍ، فَكَذَلِكَ هَهُنا قَدَّمَ الأخَصَّ أوْ نَقُولُ: خَفاءُ الشَّيْءِ يَكُونُ بِطُرُقٍ؛ مِنها أنْ يَكُونَ في غايَةِ الصِّغَرِ ومِنها أنْ يَكُونَ بَعِيدًا، ومِنها أنْ يَكُونَ في ظُلْمَةٍ، ومِنها أنْ يَكُونَ مِن وراءِ حِجابٍ، فَإنِ انْتَفَتِ الأُمُورُ بِأسْرِها بِأنْ يَكُونَ كَبِيرًا قَرِيبًا في ضَوْءٍ مِن غَيْرِ حِجابٍ، فَلا يَخْفى في العِبادَةِ، فَأثْبَتَ اللَّهُ الرُّؤْيَةَ والعِلْمَ مَعَ انْتِفاءِ الشَّرائِطِ. فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّها إنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ﴾ إشارَةٌ إلى الصِّغَرِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ﴾ إشارَةٌ إلى الحِجابِ، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ في السَّماواتِ﴾ إشارَةٌ إلى البُعْدِ فَإنَّها أبْعَدُ الأبْعادِ، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ في الأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى الظُّلُماتِ فَإنَّ جَوْفَ الأرْضِ أظْلَمُ الأماكِنِ. وقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بِها اللَّهُ﴾ أبْلَغُ مِن قَوْلِ القائِلِ: يَعْلَمُها اللَّهُ؛ لِأنَّ مَن يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءُ ولا يَقْدِرُ عَلى إظْهارِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ حالُهُ في العِلْمِ دُونَ حالِ مَن يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءَ، ويُظْهِرُهُ لِغَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بِها اللَّهُ﴾ أيْ يُظْهِرُها اللَّهُ لِلْإشْهادِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾ أيْ نافِذُ القُدْرَةِ، ﴿خَبِيرٌ﴾ أيْ عالِمٌ بِبَواطِنِ الأُمُورِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب