قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ﴾ يَعْنِي عُلَمَاءَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ. وَمَعْنَى "أَنْزَلَ": أَظْهَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [[راجع ج ٧ ص ٤٠.]] " [الانعام: ٩٣] أَيْ سَأُظْهِرُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنَ النُّزُولِ، أَيْ مَا أَنْزَلَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ عَلَى رُسُلِهِ. "وَيَشْتَرُونَ بِهِ" أَيْ بِالْمَكْتُومِ "ثَمَناً قَلِيلًا" يَعْنِي أَخْذَ الرِّشَاءِ. وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَاءِ كَانَ قَلِيلًا. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَخْبَارِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ مُخْتَارًا لِذَلِكَ بِسَبَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ١ ص ٣٣٤، ص ٩ من هذا الجزء.]] هَذَا الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ ذَكَرَ الْبُطُونَ دَلَالَةً وَتَأْكِيدًا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ، إِذْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِثْلِ أَكَلَ فُلَانٌ أَرْضِي وَنَحْوِهِ. وَفِي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وَأَنَّهُمْ بَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْمَطْعَمِ الَّذِي لَا خَطَرَ لَهُ. وَمَعْنَى "إِلَّا النَّارَ" أَيْ إِنَّهُ حَرَامٌ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، فَسُمِّيَ مَا أَكَلُوهُ مِنَ الرِّشَاءِ نَارًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ، هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّهُ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ فِي جَهَنَّمَ حَقِيقَةً. فَأَخْبَرَ عَنِ الْمَآلِ بِالْحَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [[راجع ج ٥ ص ٥٣.]] " [النساء: ١٠] أي أن عاقبته تؤول إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ [[اختلف في أنه حديث أو غير حديث. راجع كشف الخفاء ج ٢ ص ١٤٠.]]
قَالَ:
فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَةُ
آخَرُ:
وَدُورنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةُ الرِّضَا عَنْهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى "وَلا يُكَلِّمُهُمُ" بِمَا يحبونه. وفي التنزيل:" اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [[راجع ج ١٢ ص ١٥٣.]] " [المؤمنون: ١٠٨]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ. "وَلا يُزَكِّيهِمْ" أَيْ لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ فَيُطَهِّرُهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ خَيْرًا ولا يسميهم أزكياء. و "أَلِيمٌ" بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ١ ص ١٩٨.]]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ (. وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِأَلِيمِ الْعَذَابِ وَشِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِمَحْضِ الْمُعَانَدَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي، إِذْ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، وَلَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَمَا تَدْعُو مَنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ. وَمَعْنَى "لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ" لَا يَرْحَمُهُمْ وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ. وَسَيَأْتِي فِي" آلِ عِمْرَانَ [[راجع ج ٤ ص ١١٩.]] " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلًا أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَلَا یُزَكِّیهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ"}