الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ﴾ المُشْتَمِلِ عَلى فُنُونِ الأحْكامِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها أحْكامُ المُحَلَّلاتِ والمُحَرَّماتِ، والآيَةُ نَزَلَتْ - كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - في عُلَماءِ اليَهُودِ كانُوا يُصِيبُونَ مِن سَفَلَتِهِمْ هَدايا، وكانُوا يَرْجُونَ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ المَبْعُوثُ مِنهُمْ، فَلَمّا بُعِثَ مِن غَيْرِهِمْ كَتَمُوا وغَيَّرُوا صِفَتَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - حَتّى لا يُتَّبَعَ، فَتَزُولُ رِياسَتُهم وتَنْقَطِعُ هَداياهم. ﴿ويَشْتَرُونَ بِهِ﴾ أيْ: يَأْخُذُونَ بَدَلَهُ في نَفْسِ الأمْرِ والضَّمِيرُ – لِلْكِتابِ - أوْ لِما أُنْزِلَ أوْ لِلْكِتْمانِ ﴿ثَمَنًا قَلِيلا﴾ أيْ: عِوَضًا حَقِيرًا. ﴿أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلا النّارَ﴾ إمّا في الحالِ - كَما هو أصْلُ المُضارِعِ- لِأنَّهم أكَلُوا ما يَتَلَبَّسُ بِـ النّار وهو ( الرِّشا ) لكَوْنِها عُقُوبَةً لَها، فَيَكُونُ في الآيَةِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِأنَّ شَبَّهَ الهَيْئَةَ الحاصِلَةَ مِن أكْلِهِمْ ما يَتَلَبَّسُ بِالنّارِ بِالهَيْئَةِ المُنْتَزَعَةِ مِن ( أكْلِهِمُ النّارَ ) مِن حَيْثُ إنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلى ( أكْلِ ) كُلٍّ مِنهُما مِن تَقَطُّعِ الأمْعاءِ والألَمِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى الآخَرِ، فاسْتُعْمِلَ لَفْظُ المُشَبَّهِ بِهِ في المُشَبَّهِ، وإمّا في المَآلِ؛ أيْ: لا يَأْكُلُونَ يَوْمَ القِيامَةِ إلّا النّار فالنّارُ في الِاحْتِمالَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، وقِيلَ: إنَّها مَجازٌ عَنِ ( الرِّشا ) إذا أُرِيدَ الحالُ، والعَلاقَةُ السَّبَبِيَّةُ والمُسَبَّبِيَّةُ وحَقِيقَةٌ إذا أُرِيدَ المَآلُ، ولا يَخْفى أنَّ الأوَّلَ هو الألْيَقُ بِمَقامِ الوَعِيدِ، والجارُّ والمَجْرُورُ حالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ أيْ: ما يَأْكُلُونَ شَيْئًا حاصِلًا في بُطُونِهِمْ إلّا النّار إذِ الحُصُولُ في ( البَطْنِ ) لَيْسَ مُقارَنًا لِلْأكْلِ، وبِهَذا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ ضَعْفُ تَقْدِيمِ الحالِ عَلى الِاسْتِثْناءِ، ولا يَحْتاجُ إلى القَوْلِ بِأنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ يَأْكُلُونَ والمُرادُ في طَرِيقِ بُطُونهمْ كَما اخْتارَهُ أبُو البَقاءِ والتَّقْيِيدُ ( بِالبُطُونِ ) لِإفادَةِ ( المَلْءِ ) لا لِلتَّأْكِيدِ كَما قِيلَ بِهِ، والظَّرْفِيَّةُ بِلَفْظَةِ ( في ) وإنْ لَمْ تَقْتَضِ اسْتِيعابَ المَظْرُوفِ الظَّرْفَ، لَكِنَّهُ شاعَ اسْتِعْمالُ ظَرْفِيَّةِ ( البَطْنِ ) في الِاسْتِيعابِ كَما شاعَ ظَرْفِيَّةُ بَعْضِهِ في عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ: (p-44)كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعْفُوافَإنَّ زَمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيْ: كَلامَ رَحْمَةٍ، كَما قالَ الحَسَنُ، فَلا يُنافِي سُؤالَهُ - سُبْحانَهُ - إيّاهُمْ، وقِيلَ: ﴿لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ أصْلًا لِمَزِيدِ غَضَبِهِ - جَلَّ جَلالُهُ - عَلَيْهِمْ، والسُّؤالُ بِواسِطَةِ المَلائِكَةِ. ﴿ولا يُزَكِّيهِمْ﴾ أيْ: لا يُطَهِّرُهم مِن دَنَسِ الذُّنُوبِ، أوْ يُثْنِي عَلَيْهِمْ. ﴿ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ 174﴾ أيْ: مُؤْلِمٌ، وقَدْ جاءَتْ هَذِهِ الأخْبارُ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ المَعْنى؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - اشْتِراءَهم بِذَلِكَ ( الثَّمَنَ القَلِيلَ ) وكانَ كِنايَةً عَنْ مَطامِعِهِمُ الخَبِيثَةِ الفانِيَةِ بَدَأ أوَّلًا في الخَبَرِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلا النّارَ﴾ ثُمَّ قابَلَ ( كِتْمانُهُمُ الحَقَّ ) وعَدَمَ التَّكَلُّمِ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ تَعالى، وابْتَنى عَلى ( كِتْمانِهِمْ واشْتِرائِهِمْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ثَمَنًا قَلِيلًا ) أنَّهم شُهُودُ زُورٍ وأحْبارُ سُوءٍ آذَوْا بِهَذِهِ الشَّهادَةِ الباطِلَةِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وآلَمُوهُ، فَقُوبِلُوا بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ وبَدَأ أوَّلًا بِما يُقابِلُ فَرْدًا فَرْدًا، وثانِيًا بِما يُقابِلُ المَجْمُوعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب