الباحث القرآني

(p-٢٣)الحُكْمُ الثّانِي ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ مَسائِلَ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في رُؤَساءِ اليَهُودِ؛ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، وكَعْبِ بْنِ أسَدٍ، ومالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وحُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ، وأبِي ياسِرِ بْنِ أخْطَبَ، كانُوا يَأْخُذُونَ مِن أتْباعِهِمُ الهَدايا، فَلَمّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ خافُوا انْقِطاعَ تِلْكَ المَنافِعِ، فَكَتَمُوا أمْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وأمْرَ شَرائِعِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّهم أيَّ شَيْءٍ كانُوا يَكْتُمُونَ ؟ فَقِيلَ: كانُوا يَكْتُمُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ ونَعْتَهُ والبِشارَةَ بِهِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ والأصَمِّ وأبِي مُسْلِمٍ، وقالَ الحَسَنُ: كَتَمُوا الأحْكامَ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الكِتْمانِ، فالمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهم كانُوا مُحَرِّفِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ. وعِنْدَ المُتَكَلِّمِينَ هَذا مُمْتَنِعٌ؛ لِأنَّهُما كانا كِتابَيْنِ بَلَغا في الشُّهْرَةِ والتَّواتُرِ إلى حَيْثُ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِيهِما، بَلْ كانُوا يَكْتُمُونَ التَّأْوِيلَ؛ لِأنَّهُ قَدْ كانَ فِيهِمْ مَن يَعْرِفُ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانُوا يَذْكُرُونَ لَها تَأْوِيلاتٍ باطِلَةً، ويَصْرِفُونَها عَنْ مَحامِلِها الصَّحِيحَةِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَهَذا هو المُرادُ مِنَ الكِتْمانِ، فَيَصِيرُ المَعْنى: الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَعانِيَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الكِنايَةُ في ”بِهِ“ يَجُوزُ أنْ تَعُودَ إلى الكِتْمانِ والفِعْلُ يَدُلُّ عَلى المَصْدَرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ عائِدَةً إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ عائِدَةً إلى المَكْتُومِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] وقَدْ مَرَّ ذَلِكَ. وبِالجُمْلَةِ فَكانَ غَرَضُهم مِن ذَلِكَ الكِتْمانِ: أخْذَ الأمْوالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهَذا هو المُرادُ مِنِ اشْتِرائِهِمْ بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنَّما سَمّاهُ قَلِيلًا إمّا لِأنَّهُ في نَفْسِهِ قَلِيلٌ، وإمّا؛ لِأنَّهُ بِالإضافَةِ إلى ما فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ العَظِيمِ قَلِيلٌ. (p-٢٤)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: كانَ غَرَضُهم مِن ذَلِكَ الكِتْمانِ أخْذَ الأمْوالِ مِن عَوامِّهِمْ وأتْباعِهِمْ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ كانَ غَرَضُهم مِن ذَلِكَ أخْذَهُمُ الأمْوالَ مِن كُبَرائِهِمْ وأغْنِيائِهِمُ الَّذِينَ كانُوا ناصِرِينَ لِذَلِكَ المَذْهَبِ، ولَيْسَ في الظّاهِرِ أكْثَرُ مِنِ اشْتِرائِهِمْ بِذَلِكَ الكِتْمانِ الثَّمَنَ القَلِيلَ، ولَيْسَ فِيهِ بَيانُ مَن طَمِعُوا فِيهِ وأخَذُوا مِنهُ، فالكَلامُ مُجْمَلٌ وإنَّما يَتَوَجَّهُ الطَّمَعُ في ذَلِكَ إلى مَن يَجْتَمِعُ إلَيْهِ الجَهْلُ وقِلَّةُ المَعْرِفَةِ المُتَمَكِّنُ مِنَ المالِ والشُّحُّ عَلى المَأْلُوفِ في الدِّينِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ ما يَلْتَمِسُ مِنهُ، فَهَذا هو مَعْلُومٌ بِالعادَةِ. واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الحِكايَةَ عَنْهم ذَكَرَ الوَعِيدَ عَلى ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّا النّارَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ بَعْضُهم: ذِكْرُ البَطْنِ هَهُنا زِيادَةُ بَيانٍ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: أكَلَ فُلانٌ المالَ إذا بَدَرَهُ وأفْسَدَهُ وقالَ آخَرُونَ: بَلْ فِيهِ فائِدَةٌ فَقَوْلُهُ: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ أيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ يُقالُ: أكَلَ فُلانٌ في بَطْنِهِ وأكَلَ في بَعْضِ بَطْنِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قِيلَ: إنَّ أكْلَهم في الدُّنْيا وإنْ كانَ طَيِّبًا في الحالِ فَعاقِبَتُهُ النّارُ، فَوُصِفَ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا﴾ [النساء: ١٠] عَنِ الحَسَنِ والرَّبِيعِ وجَماعَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا أكَلَ ما يُوجِبُ النّارَ فَكَأنَّهُ أكَلَ النّارَ، كَما رُوِيَ في حَدِيثٍ آخَرَ ”«الشّارِبُ مِن آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ إنَّما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ» “ وقَوْلُهُ: ﴿إنِّي أرانِي أعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف: ٣٦] أيْ عِنَبًا فَسَمّاهُ بِاسْمِ ما يَئُولُ إلَيْهِ، وقِيلَ: إنَّهم في الآخِرَةِ يَأْكُلُونَ النّارَ لِأكْلِهِمْ في الدُّنْيا الحَرامَ عَنِ الأصَمِّ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ فَظاهِرُهُ: أنَّهُ لا يُكَلِّمُهم أصْلًا، لَكِنَّهُ لَمّا أوْرَدَهُ مَوْرِدَ الوَعِيدِ فُهِمَ مِنهُ ما يَجْرِي مَجْرى العُقُوبَةِ لَهم، وذَكَرُوا فِيهِ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يُكَلِّمُهم، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [ الحِجْرِ: ٩٢: ٩٣ ] وقَوْلُهُ: ﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] فَعَرَفْنا أنَّهُ يَسْألُ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُكَلَّفِينَ، والسُّؤالُ لا يَكُونُ إلّا بِكَلامٍ، فَقالُوا: وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى لا يُكَلِّمُهم بِتَحِيَّةٍ وسَلامٍ وإنَّما يُكَلِّمُهم بِما يَعْظَمُ عِنْدَهُ مِنَ الغَمِّ والحَسْرَةِ مِنَ المُناقَشَةِ والمُساءَلَةِ، وبِقَوْلِهِ: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] . الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لا يُكَلِّمُهم، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢] فالسُّؤالُ إنَّما يَكُونُ مِنَ المَلائِكَةِ بِأمْرِهِ تَعالى، وإنَّما كانَ عَدَمُ تَكْلِيمِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ مَذْكُورًا في مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ؛ لِأنَّ يَوْمَ القِيامَةِ هو اليَوْمُ الَّذِي يُكَلِّمُ اللَّهُ تَعالى فِيهِ كُلَّ الخَلائِقِ بِلا واسِطَةٍ فَيَظْهَرُ عِنْدَ كَلامِهِ السُّرُورُ في أوْلِيائِهِ، وضِدُّهُ في أعْدائِهِ، ويَتَمَيَّزُ أهْلُ الجَنَّةِ بِذَلِكَ مِن أهْلِ النّارِ، فَلا جَرَمَ كانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ الوَعِيدِ. الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ﴾ اسْتِعارَةٌ عَنِ الغَضَبِ؛ لِأنَّ عادَةَ المُلُوكِ أنَّهم عِنْدَ الغَضَبِ يُعْرِضُونَ عَنِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِ ولا يُكَلِّمُونَهُ، كَما أنَّهم عِنْدَ الرِّضا يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ بِالوَجْهِ والحَدِيثِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ولا يُزَكِّيهِمْ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: لا يَنْسُبُهم إلى التَّزْكِيَةِ ولا يُثْنِي عَلَيْهِمْ. الثّانِي: لا يَقْبَلُ أعْمالَهم كَما يَقْبَلُ أعْمالَ الأزْكِياءِ. الثّالِثُ: لا يُنْزِلُهم مَنازِلَ الأزْكِياءِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ واعْلَمْ أنَّ الفَعِيلَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الفاعِلِ كالسَّمِيعِ بِمَعْنى السّامِعِ والعَلِيمَ بِمَعْنى العالِمِ، وقَدْ يَكُونُ بِمَعْنى المَفْعُولِ كالجَرِيحِ والقَتِيلِ بِمَعْنى المَجْرُوحِ والمَقْتُولِ، وقَدْ يَكُونُ بِمَعْنى المُفْعِلِ كالبَصِيرِ بِمَعْنى المُبْصِرِ والألِيمِ بِمَعْنى المُؤْلِمِ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى مَسائِلَ: (p-٢٥)المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ عُلَماءَ الأُصُولِ قالُوا: العِقابُ هو المَضَرَّةُ الخالِصَةُ المَقْرُونَةُ بِالإهانَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى الإهانَةِ والِاسْتِخْفافِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ إشارَةٌ إلى المَضَرَّةِ، وقَدَّمَ الإهانَةَ عَلى المَضَرَّةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الإهانَةَ أشَقُّ وأصْعَبُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى تَحْرِيمِ الكِتْمانِ لِكُلِّ عِلْمٍ في بابِ الدِّينِ يَجِبُ إظْهارُهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فالآيَةُ وإنْ نَزَلَتْ في اليَهُودِ لَكِنَّها عامَّةٌ في حَقِّ كُلِّ مَن كَتَمَ شَيْئًا مِن بابِ الدِّينِ يَجِبُ إظْهارُهُ، فَتَصْلُحُ لِأنْ يَتَمَسَّكُ بِها القاطِعُونَ بِوَعِيدِ أصْحابِ الكَبائِرِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب