الباحث القرآني
مدنية، وهي ثنتا عشرة آية، ومائتان وسبع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ ؟ .
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله.
وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه، ولما كان خلق السماوات والأرض، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله، فلهذا قال: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ .
* فصل في سبب نزول الآية
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يمكثُ عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليها فلتقل: إني أجد ريح مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، فنزل: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِن تَتُوبَآ﴾ لعائشة وحفصة» .
وعنها أيضاً قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه، فدخل على حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدتْ لها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شربة، فقلت: أما - والله - لنحتالن له، فذكرت ذلك لسَوْدَة، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريحُ، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشتد عليه أن يوجد منه الريح؛ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسلٍ، فقولي: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرفُطَ، وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفيةُ، فلما دخل على سودة قالت سودة: والذي لا إله إلا هو، لقد كدت أن أبادئه بالذي قالت لي، وإنه لعلى الباب، فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جَرسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك، ثم دخل على صفيّة، فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة، قالت له: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة: سبحان الله، لقد حرمناه، قالت: قلت لها: اسكتي» .
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العسل حفصة، وفي الأولى زينب.
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أنه شربه عند سودة.
وقد قيل: إنما هي أمّ سلمة، رواه أسباط عن السديِّ.
وقال عطاء بن أبي مسلم.
قال ابن العربي: «وهذا كله جهل، أو تصور بغير علمٍ» .
فقال باقي نساه حسداً وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير.
والمغافير: بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة، فيها حلاوة، واحدها: مغفور.
وجَرَسَتْ: أكلت، والعُرْفُطُ: نبت له ريح كريح الخمرِ.
وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك.
وقال ابن عبَّاس: أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يقبلها، والمرأة أم شريك، قاله عكرمة.
وقيل: إن التي حرّم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك «الإسكندرية» .
قال ابنُ إسحاق: هي من كورة «أنْصِنا» من بلد يقال له: «حفْن» ، فواقعها في بيت حفصة.
روى الدارقطني عن ابن عباسٍ عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: «دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأم ولده، مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتي؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك، فقال لها: لا تذكري هذا لعائشة، فهي عليّ حرام إن قربتها، قالت حفصة: فكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا تَذْكُرِيهِ لأَحدٍ «، فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلةً، فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ » الآية.
قال القرطبي: أصح هذه الأقوال أولها، وأضعفها أوسطها.
قال ابن العربي: «أما ضعفه في السند، فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموهوبة ليس تحريماً لها؛ لأن من رد ما وُهِبَ له لم يَحْرُمْ عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية، فهو أمثل في السند، وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلاً، وإنما الصحيح أنه كان في العسل، وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة، فحلف أن لا يشربه، وأسر ذلك، ونزلت الآية في الجميع» .
* فصل في هل التحريم يمين؟
قوله تعالى: ﴿لِمَ تُحرِّمُ﴾ إن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرم ولم يحلف، فليس ذلك بيمين، ولا يحرم قول الرجل: «هذَا عليَّ حَرامٌ» شيئاً، حاشا الزوجة.
وقال أبو حنيفة: أذا أطلق حمل على المأكول والمشروب، دون الملبوس، وكانت يميناً توجب الكفارة.
وقال زفر: هو يمين في الكل، حتى في الحركة والسكون، واستدل المخالف بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرَّم العسل، فلزمته الكفَّارة، وقد قال تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ فسماه يميناً.
قال القرطبي: ودليلنا قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا﴾ [المائدة: 87] . وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 59] .
فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال، ولم يوجب عليه كفارة.
قال الزجاجُ: ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله، ولم يجعل لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحرم إلا ما حرم الله عليه.
فمن قال لزوجته أو أمته، أنت عليَّ حرام، فإن لم يَنْوِ طلاقاً، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء، فعليه كفارة واحدة.
ولو حرم على نفسه طعاماً، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
* فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق؟
إذا قال الرَّجُلُ لزوجته: «أنْتِ عليَّ حَرَامٌ» .
قال القرطبيُّ: «فيه ثمانية عشر قولاً:
أحدها: لا شيء عليه، وبه قال الشعبي، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ، وهو عندهم كتحريم الماءِ، والطعام، قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ [المائدة: 87] . والزوجة من الطَّيِّبات، ومما أحل الله.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾ [النحل: 116] .
فما لم يحرمه الله، فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراماً، ولم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لما أحله الله: هو حرام عليَّ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه، وهو قوله: «واللَّهِ لا أقربُهَا بَعْدَ اليَوْمِ» .
وروى البغويُّ في تفسيره: أن حفصة لما أخبرت عائشة، غضبت عائشةُ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها، فقيل له: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ ؟ أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين، يعني: أقدم عليه، وكفِّر.
وثانيها: أنه يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والأوزاعي، وهو مقتضى الآية.
قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمينٌ بكفرها.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ.
يعني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حرم جاريته، فقال تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ فكفَّر عن يمينه، وصيَّر الحرام يميناً، خرجه الدارقطني.
وثالثها: أنه يجب فيها كفَّارة، وليست بيمين، قاله ابن مسعود؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفَّارة على المعنى، والآية ترده.
ورابعها: هي ظهارٌ، ففيها كفارة الظهارِ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق، ولأنه إنما حرم وطؤها، والظهار أقل درجات التحريم.
وخامسها: أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
وسادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب، والزهري، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان، وزيد بن ثابت، ورواه ابن خويزمنداد عن مالك؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة.
وثامنها: أنها ثلاث تطليقات. قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً، وأبو هريرة؛ لأنه التحريم المتيقن.
وتاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في المدخول بها. قاله علي بن زيد والحسن والحكم، وهو مشهور مذهب مالك؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة، وتحرمها.
وعاشرها: هي ثلاث، ولا ينوي بحال، ولا في محل، وإن لم يدخل بها، قاله عبد الملك في «المبسوطة» ، وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ.
وحادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث، قاله أبو مصعب، ومحمد بن الحكم.
وثاني عشرها: أنه إن نوى الطَّلاق، والظهار كان ما نوى، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً، فإن نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها: أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار، وإنما يكون طلاقاً. قاله ابن القاسم.
ورابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقاً، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها، حتى يكفر كفارة الظِّهار.
وخامس عشرها: إن نوى الطلاق، فما أراد من أعداده، وإن نوى واحدة فهي رجعية، وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وساس عشرها: إن نوى ثلاثاً، فثلاثاً، وإن نوى واحدة، فواحدة، وإن نوى يميناً، فهي يمينٌ، وإن لم ينو شيئاً، فلا شيء عليه، وهو قول سفيان، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: لم ينو شيئاً فهي واحدة.
وسابع عشرها: له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة، قاله ابن شهاب، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً.
قال ابن العربي: «ورأيت لسعيد بن جبير، وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً، ولست أعلم لها وجهاً، ولا يبعد في المقالات عندي» .
قال القرطبي: وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً، فقال: كذبت، ليست عليك بحرامٍ، ثم تلا: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة، وقد قال جماعة من المفسرين: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاله زيد بن أسلم وغيره «.
هذا كله في الزوجة، وأما الأمةُ [فليس] فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين.
قال ابن العربي:» والصحيح أنها طلقة واحدة؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله، وهو الواحدة إلا أن يعدده، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول: أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج، فهذا نصف في المراد» .
* فصل في هذا الاستفهام
قال ابن الخطيب: قال صاحب «النظم» : قوله: «لِمَ تُحَرِّمُ» استفهام بمعنى الإنكار، وذلك من اللَّه نهيٌ، وتحريم الحلال مكروه؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى.
فإن قيل: قوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟ .
فالجوابُ: أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل: تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن، فكيف قال: لم تحرم ما أحل الله؟ فالجواب: أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر، فكيف يضاف إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مثل هذا؟ .
قوله: ﴿تَبْتَغِي﴾ .
يجوز أن يكون حالاً من فاعل «تُحَرِّمُ» ، أي: لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك.
ويجوز أن يكون تفسيراً ل «تُحَرِّمُ» .
ويجوز أن يكون مستأنفاً، فهو جواب للسؤال.
و «مَرْضَاتَ» اسم مصدر، وهو الرضا، وأصله «مرضوة» .
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول، أو للفاعل، أي: ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ.
والمعنى: يفعل ذلك طلباً لرضاهن ﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: لما أوجب المعاتبة ﴿رَّحِيمٌ﴾ برفع المُؤاخذةِ.
قال القرطبيُّ: «وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة، ولا كبيرة» .
قوله: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ .
﴿فَرَضَ الله لَكُمْ﴾ أي: بيَّن لكم، كقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: 1] وقيل: قد أوجب الله.
وقال صاحب «النظم» : إذا وصل «فَرَضَ» ب «عَلَى» لم تحتمل غير الإيجاب كقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: 50] ، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين.
قوله: ﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ .
تحليل اليمين كفَّارتها، أي: إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة «المائدة» : ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [الآية: 89] .
قال القرطبيُّ: وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول، أو المشروب لم يحرم عليه؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً، وإن قال: نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال: كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يميناً، ويكون في الكفارة وجهان:
قوله: ﴿تَحِلَّةَ﴾ .
مصدر «حَلّل» مضعفاً، نحو «تكرمة» ، وهذان ليسا [مقيسين] ، فإن قياس مصدر «فَعَّلَ» «التفعيل» إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ.
فأما المعتل اللام نحو «زكَّى» ومهموزها نحو: «نبَّأ» فمصدرهما «تَفْعِلَةٌ» نحو: «تَزْكِيَةٌ، وتَنْبِئَةٌ» .
على أنه قد جاء «التفعيل» كاملاً في المعتل، نحو: [الرجز]
4784 - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا ... وأصلها: «تَحْلِلَة» ك «تَكْرِمَة» فأدغمت، وانتصابها على المفعول به.
* فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين
قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفر عن يمينه.
وقال الحسنُ: لم يكفر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة، والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كفر بعتق رقبةٍ.
وعن مقاتل: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعتق رقبةً في تحريم مارية. والله أعلم.
* فصل في الاستثناء في المين
قبل: قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله﴾ [الأحزاب: 38] ، أي: فيما شرعه له في النساء المحللات، أي: حلل لكم ملك اليمين، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك.
وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي: فرض اللَّهُ لكم الاستثناء المخرج عن اليمين، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء، وإن تخَلَّلَ مُدَّةٌ.
وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلاً، فكأنه قال: «استثن بعد هذا فيما تحلف عليه» وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة.
قال القرطبيُّ: «والأصل» تحللة» ، فأدغمت، و «تَفْعِلَة» من مصادر» فَعَّل «كالتوصية والتسمية، فالتحلية تحليل اليمين، فكأن اليمين عقد، والكفارة حلٌّ وقيل: التحلة الكفارة، أي: أنها تحلُّ للحالف ما حرَّم على نفسه، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف» .
فصل
قال ابن الخطيب: وتحلة القسم على وجهين:
أحدهما: تحليله بالكفارة كما في هذه الآية.
وثانيهما: أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر، كما روي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَنْ تَلِجَ النَّارَ إلا تحِلَّةَ القسمِ» أي: زماناً يسيراً.
وقرىء: «كفَّارة أيمانِكُم» .
قوله: ﴿والله مَوْلاَكُمْ﴾ .
أي: وليّكم وناصركم في إزالة الحظر، فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفَّارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة ﴿وَهُوَ العليم الحكيم﴾ .
{"ayahs_start":1,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِی مَرۡضَاتَ أَزۡوَ ٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ","قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَیۡمَـٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ"],"ayah":"قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَیۡمَـٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق