الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٢] ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكم واللَّهُ مَوْلاكم وهو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ أيْ: شَرَعَ تَحْلِيلَها -وهُوَ حَلُّ ما عَقَّدْتَهُ- بِالكَفّارَةِ. والتَّحِلَّةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى التَّحْلِيلِ.
﴿واللَّهُ مَوْلاكُمْ﴾ أيْ: مُتَوَلِّي أُمُورِكم ﴿وهُوَ العَلِيمُ﴾ أيْ: بِمَصالِحِكم ﴿الحَكِيمُ﴾ أيْ: في تَدْبِيرِهِ إيّاكم بِما شَرَعَهُ وحَكَمَ بِهِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ قُدامَةَ في "الرَّوْضَةِ": دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ حُكْمَ خِطابِهِ ﷺ لا يَخْتَصُّ بِهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا عاتَبَهُ في تَحْرِيمِ ما أحَلَّ لَهُ قالَ عَقِيبَهُ:
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ (p-٥٨٥٧)وابْتَدَأ الخِطابَ بِمُناداتِهِ وحْدَهُ، ثُمَّ تَمَّمَهُ بِلَفْظِ الجَمْعِ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١] والمَسْألَةُ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ في الأُصُولِ.
الثّانِي: قالَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: التَّحِلَّةُ مَصْدَرُ حَلَّلْتُ الشَّيْءَ تَحْلِيلًا وتَحِلَّةً، كَما يُقالُ: كَرَّمْتُهُ تَكْرِيمًا وتَكْرِمَةً، وهَذا المَصْدَرُ يُسَمّى بِهِ المُحَلِّلُ نَفْسُهُ، الَّذِي هو الكَفّارَةُ؛ فَإنْ أُرِيدَ المَصْدَرُ فالمَعْنى: فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحْلِيلَ اليَمِينِ، وهو حَلُّها الَّذِي هو خِلافُ العَقْدِ.
ولِهَذا اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِن أصْحابِنا وغَيْرِهِمْ كَأبِي بَكْرِ عَبْدِ العَزِيزِ، بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الحِنْثِ؛ لِأنَّ التَّحِلَّةَ لا تَكُونُ بَعْدَ الحِنْثِ، فَإنَّهُ بِالحِنْثِ يَنْحَلُّ اليَمِينُ، وإنَّما تَكُونُ التَّحِلَّةُ إذا أُخْرِجَتْ قَبْلَ الحِنْثِ لِيَنْحَلَّ اليَمِينُ، وإنّا هي بَعْدَ الحِنْثِ كَفّارَةٌ، لِأنَّها كَفَرَّتْ ما في الحِنْثِ مِن سَبَبِ الإثْمِ لِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ. فَإذا تَبَيَّنَ أنَّ ما اقْتَضَتِ اليَمِينُ وُجُوبَ الوَفاءِ بِها، رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالكَفّارَةِ الَّتِي جَعَلَها بَدَلًا مِنَ الوَفاءِ في جُمْلَةِ ما رَفَعَهُ عَنْها مِنَ الآصارِ.
الثّالِثُ: شَمِلَ قَوْلُهُ تَعالى:
" أيْمانِكم " تَحْرِيمِ الحَلالِ المَذْكُورِ قَبْلُ، وهو الزَّوْجَةُ، لِدُخُولِهِ فِيهِ دُخُولًا أوَّلِيًّا، بَلْ كُلُّ يَمِينٍ.
قالَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ في "فَتاوِيهِ": قَوْلُهُ تَعالى:
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ نَصٌّ عامٌّ في كُلِّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِها المُسْلِمُونَ، أنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ لَها تَحِلَّةً. وذَكَرَهُ سُبْحانَهُ بِصِيغَةِ الخِطابِ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الخِطابِ بِصِيغَةِ الإفْرادِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، مَعَ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِأنَّ الأُمَّةَ يَحْلِفُونَ بِأيْمانٍ شَتّى: فَلَوْ فُرِضَ يَمِينٌ واحِدَةٌ لَيْسَ لَها تَحِلَّةٌ، لَكانَ مُخالِفًا لِلْآيَةِ. كَيْفَ وهَذا عامٌّ لَمْ تُخَصَّ فِيهِ صُورَةٌ واحِدَةٌ، لا بِنَصٍّ ولا بِإجْماعٍ، بَلْ هو عامٌّ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا، مَعَ عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ؟ فَإنَّ اليَمِينَ مَعْقُودٌ يُوجِبُ مَنعَ المُكَلَّفِ مِنَ الفِعْلِ، فَشَرْعُ التَّحِلَّةِ لِهَذِهِ العُقْدَةِ مُناسِبٌ لِما فِيهِ مِنَ التَّخْفِيفِ والتَّوْسِعَةِ، وهَذا مَوْجُودٌ في اليَمِينِ بِالعِتْقِ والطَّلاقِ، أكْثَرَ مِنهُ في غَيْرِهِما مِن أيْمانِ نَذْرِ اللَّجاجِ والغَضَبِ: فَإنَّ الرَّجُلَ إذا حَلَفَ بِالطَّلاقِ لَيَقْتُلَنَّ النَّفْسَ، أوْ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ، أوْ لَيَمْنَعَنَّ الواجِبَ عَلَيْهِ مِن أداءِ أمانَةٍ ونَحْوِها، فَإنَّهُ يَجْعَلُ الطَّلاقَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ، (p-٥٨٥٨)أنْ يَبَرَّ ويُصْلِحَ بَيْنَ النّاسِ، أكْثَرَ مِمّا يَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً، ثُمَّ إنْ وفى بِيَمِينِهِ، كانَ عَلَيْهِ مِن ضَرَرِ الدُّنْيا والدِّينِ ما قَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى تَحْرِيمِ الدُّخُولِ فِيهِ. وإنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ فَفي الطَّلاقِ أيْضًا مِن ضَرَرِ الدُّنْيا والدِّينِ ما قَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى تَحْرِيمِ الدُّخُولِ فِيهِ. وإنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ، فَفي الطَّلاقِ أيْضًا مِن ضَرَرِ الدُّنْيا والدِّينِ ما لا خَفاءَ بِهِ. وأيْضًا فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أزْواجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: ١] وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّهُ ما مِن تَحْرِيمٍ لِما أحَلَّ اللَّهُ، إلّا واللَّهُ غَفُورٌ لِفاعِلِهِ، رَحِيمٌ بِهِ، وأنَّهُ لا عِلَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ لِأيِّ شَيْءٍ اسْتِفْهامٌ في مَعْنى النَّفْيِ والإنْكارِ والتَّقْدِيرُ: لا سَبَبَ لِتَحْرِيمِكَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ، واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَلَوْ كانَ الحالِفُ بِالنَّذْرِ والعَتاقِ والطَّلاقِ عَلى أنَّهُ لا يَفْعَلُ شَيْئًا لا رُخْصَةَ لَهُ، لَكانَ هُنا سَبَبٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الحَلالِ، ولا يَبْقى مُوجِبُ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ عَلى هَذا الفاعِلِ.
ومِمّا يُوَضِّحُ عُمُومَهُ أنَّهم قَدْ أدْخَلُوا الحَلِفَ بِالطَّلاقِ في عُمُومِ حَدِيثِ: ««مَن حَلَفَ فَقالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَإنْ شاءَ فَعَلَ، وإنْ شاءَ تَرَكَ»»، فَأدْخَلُوا فِيهِ الحَلِفَ بِالطَّلاقِ والعَتاقِ والنَّذْرِ والحَلِفِ بِاللَّهِ. وهَذِهِ الدَّلالَةُ تَنْبِيهٌ عَلى أُصُولِ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ ومَن وافَقَهُما في مَسْألَةِ نَذْرِ اللَّجاجِ والغَضَبِ؛ فَإنَّهُمُ احْتَجُّوا عَلى التَّكْفِيرِ فِيهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وجَعَلُوا قَوْلَهُ: ﴿تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ كَفّارَةَ أيْمانِكم عامًّا في اليَمِينِ بِاللَّهِ واليَمِينِ بِالنَّذْرِ. ومَعْلُومٌ أنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِنَذْرِ اللَّجاجِ والغَضَبِ في الحَجِّ والعِتْقِ ونَحْوِهِما، سَواءٌ.
فَإذا قِيلَ: المُرادُ بِالآيَةِ اليَمِينُ بِاللَّهِ فَقَطْ، فَإنَّ هَذا هو المَفْهُومُ مِن مُطْلَقِ اليَمِينِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ بِالألِفِ واللّامِ والإضافَةِ في قَوْلِهِ:
﴿عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ﴾ [المائدة: ٨٩] و﴿تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ مُنْصَرِفًا إلى اليَمِينِ المَعْهُودَةِ عَلَيْهِمْ، وهي اليَمِينُ بِاللَّهِ، وحِينَئِذٍ فَلا يُعْلَمُ مِنَ اللَّفْظِ (p-٥٨٥٩)إلّا المَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ، والحَلِفُ بِالطَّلاقِ ونَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهم. ولَوْ كانَ اللَّفْظُ عامًّا، فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اليَمِينُ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً، كاليَمِينِ بِالمَخْلُوقاتِ، فَلا يَدْخُلُ الحَلِفُ بِالطَّلاقِ ونَحْوِهِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِنَ اليَمِينِ المَشْرُوعَةِ لِقَوْلِهِ: ««مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وإلّا فَلْيَصْمُتْ»» وهَذا سُؤالُ مَن يَقُولُ: كُلُّ يَمِينٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، فَلا كَفّارَةَ لَها ولا حِنْثَ.
فَيُقالُ: لَفْظُ اليَمِينِ شَمِلَ هَذا كُلَّهُ، بِدَلِيلِ اسْتِعْمالِ النَّبِيِّ ﷺ والصَّحابَةِ والعُلَماءِ اسْمَ اليَمِينِ في هَذا كُلِّهِ. كَقَوْلِهِ ﷺ: ««النَّذْرُ حَلِفٌ»» . وقَوْلِ الصَّحابَةِ لِمَن حَلَفَ بِالهَدْيِ بِالعِتْقِ: كَفِّرْ يَمِينَكَ. وكَذَلِكَ فَهِمَهُ الصَّحابَةُ مِن كَلامِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ولِإدْخالِ العُلَماءِ ذَلِكَ في قَوْلِهِ ﷺ: ««مَن حَلَفَ فَقالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَإنْ شاءَ فَعَلَ، وإنْ شاءَ تَرَكَ»» . ويَدُلُّ عَلى عُمُومِهِ في الآيَةِ أنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] ثُمَّ قالَ: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ فاقْتَضى هَذا أنَّ نَفْسَ تَحْرِيمِ الحَلالِ يَمِينٌ، كَما اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ. وسَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ إمّا تَحْرِيمُهُ العَسَلَ، وإمّا تَحْرِيمُهُ مارِيَةَ القِبْطِيَّةَ. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَتَحْرِيمُ الحَلالِ يَمِينٌ عَلى ظاهِرِ الآيَةِ، ولَيْسَ يَمِينًا بِاللَّهِ، لِهَذا أفْتى جُمْهُورُ الصَّحابَةِ، كَعُمَرَ وعُثْمانَ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِمْ، أنَّ تَحْرِيمَ الحَلالِ يَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ، إمّا كَفّارَةٌ كُبْرى كالظِّهارِ، وإمّا كَفّارَةٌ صُغْرى كاليَمِينِ بِاللَّهِ. ومازالَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ الظِّهارَ ونَحْوَهُ يَمِينًا.
وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ:
﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] إمّا أنْ يُرادَ بِهِ لِمَ تُحَرِّمُ بِلَفْظِ الحَرامِ، وإمّا لِمَ تُحَرِّمُهُ بِاليَمِينِ بِاللَّهِ تَعالى ونَحْوِها، وإمّا لِمَ تُحَرِّمُهُ مُطْلَقًا، فَإنْ أُرِيدَ الأوَّلُ والثّالِثُ فَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِغَيْرِ الحَلِفِ بِاللَّهِ تَعالى، ثُمَّ فَيَعُمُّ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُهُ بِالحَلِفِ بِاللَّهِ، فَقَدْ سَمّى اللَّهُ الحَلِفَ بِاللَّهِ تَحْرِيمًا لِلْحَلالِ. ومَعْلُومٌ أنَّ اليَمِينَ بِاللَّهِ لَمْ يُوجِبِ الحُرْمَةَ الشَّرْعِيَّةَ، لَكِنْ لَمّا أوْجَبَتِ (p-٥٨٦٠)امْتِناعَ الحالِفِ مِنَ الفِعْلِ، فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الفِعْلَ فَيَدْخُلُ في قُوَّةِ قَوْلِهِ:
﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] وحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ:
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ لا بُدَّ أنْ يَعُمَّ كُلَّ يَمِينٍ حَرَّمَتِ الحَلالَ؛ لِأنَّ هَذا حُكْمُ ذَلِكَ الفِعْلِ، فَلا بُدَّ أنْ يُطابِقَ صُوَرَهُ؛ لِأنَّ تَحْرِيمَ الحَلالِ هو سَبَبُ قَوْلِهِ:
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ وسَبَبُ الجَوابِ إذا كانَ عامًّا كانَ الجَوابُ عامًّا؛ لِئَلّا يَكُونَ جَوابًا عَنِ البَعْضِ دُونَ البَعْضِ، مَعَ قِيامِ السَّبَبِ المُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ.
وقالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في "زادِ المَعادِ": الَّذِينَ أوْجَبُوا كَفّارَةَ اليَمِينِ بِالتَّحْرِيمِ أسْعَدُ بِالنَّصِّ مِنَ الَّذِينَ أسْقَطُوها؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ ذَكَرَ تَحِلَّةَ الأيْمانِ عَقِيبَ قَوْلِهِ:
﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ تَحْرِيمَ الحَلالِ قَدْ فُرِضَ فِيهِ تَحِلَّةُ الأيْمانِ، إمّا مُخْتَصًّا بِهِ، وإمّا شامِلًا لَهُ ولِغَيْرِهِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُخْلى سَبَبُ الكَفّارَةِ المَذْكُورَةِ في السِّياقِ عَنْ حُكْمِ الكَفّارَةِ، ويَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، وهَذا ظاهِرُ الِامْتِناعِ.
وأيْضًا فَإنَّ المَنعَ مِن فِعْلِهِ بِالتَّحْرِيمِ، كالمَنعِ مِنهُ بِاليَمِينِ، بَلْ أقْوى؛ فَإنَّ اليَمِينَ، إنْ تَضَمَّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ سُبْحانَهُ، فالتَّحْرِيمُ تَضَمَّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ شَرْعِهِ وأمْرِهِ، فَإنَّهُ إذا شَرَعَ حَلالًا فَحَرَّمَهُ المُكَلَّفُ، كانَ تَحْرِيمُهُ هَتْكًا لِحُرْمَةِ ما شَرَعَهُ.
ونَحْنُ نَقُولُ: لَمْ يَتَضَمَّنِ الحِنْثُ في اليَمِينِ هَتْكَ حُرْمَةِ الِاسْمِ، ولا التَّحْرِيمُ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّرْعِ، كَما يَقُولُهُ مَن يَقُولُهُ مِنَ الفُقَهاءِ، وهو تَعْلِيلٌ فاسِدٌ جِدًّا؛ فَإنَّ الحِنْثَ إمّا جائِزٌ، وإمّا واجِبٌ، أوْ مُسْتَحَبٌّ. وما جَوَّزَ اللَّهُ لِأحَدٍ البَتَّةَ أنْ يَهْتِكَ حُرْمَةَ اسْمِهِ، وقَدْ شَرَعَ لِعِبادِهِ الحِنْثَ مَعَ الكَفّارَةِ. وأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ إذا حَلَفَ عَلى يَمِينٍ، ورَأى غَيْرَها خَيْرًا مِنها كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وأتى (p-٥٨٦١)المَحْلُوفَ عَلَيْهِ. ومَعْلُومٌ أنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ تَبارَكَ وتَعالى لَمْ يُبَحْ في شَرِيعَةٍ قَطُّ، وإنَّما الكَفّارَةُ كَما سَمّاها اللَّهُ تَعالى، تَحِلَّةً، وهي تَفِعْلَةٌ مِنَ الحِلِّ، فَهي تَحِلُّ ما عُقِدَ بِهِ اليَمِينُ لَيْسَ إلّا. وهَذا العَقْدُ، كَما يَكُونُ بِاليَمِينِ، يَكُونُ بِالتَّحْرِيمِ. وظَهَرَ سِرُّ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ عَقِيبَ قَوْلِهِ:
﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١]
وقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ، قَبْلُ: أمّا مَن قالَ: إنَّهُ يَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ بِكُلِّ حالٍ، فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ أنَّ تَحْرِيمَ الحَلالِ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ واللِّباسِ يَمِينٌ يُكَفَّرُ بِالنَّصِّ والمَعْنى وآثارِ الصَّحابَةِ؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قالَ:
﴿يا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ﴾ [التحريم: ١] الآيَةَ... ولا بُدَّ أنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الحَلالِ داخِلًا تَحْتَ هَذا الفَرْضِ؛ لِأنَّهُ سَبَبُهُ، وتَخْصِيصُ مَحَلِّ السَّبَبِ مِن جُمْلَةِ العامِّ، مُمْتَنِعٌ قَطْعًا؛ إذْ هو المَقْصُودُ بِالبَيانِ أوَّلًا، فَلَوْ خُصَّ لَخَلا سَبَبُ الحُكْمِ عَنِ البَيانِ، وهو مُمْتَنِعٌ. وهَذا اسْتِدْلالٌ في غايَةِ القُوَّةِ، فَسَألْتُ عَنْهُ شَيْخَ الإسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: نَعَمْ! التَّحْرِيمُ يَمِينٌ كُبْرى في الزَّوْجَةِ، كَفّارَتُها كَفّارَةُ الظِّهارِ، ويَمِينٌ صُغْرى فِيما عَداها، كَفّارَتُها كَفّارَةُ اليَمِينِ بِاللَّهِ. قالَ: وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ مِنَ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدِهِمْ: إنَّ التَّحْرِيمَ يَمِينٌ يُكَفَّرُ.
وقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ في "أعْلامِ المُوَقِّعِينَ": لا يَجُوزُ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ المُسْلِمِ وبَيْنَ امْرَأتِهِ بِغَيْرِ لَفْظٍ لَمْ يُوضَعْ لِلطَّلاقِ ولا نَواهُ، وتَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينِ حَرَمِهِ لِشِدَّةِ اليَمِينِ؛ إذْ لَيْسَتْ كالحَلِفِ بِالمَخْلُوقِ الَّتِي لا تَنْعَقِدُ، ولا هي مِن لَغْوِ اليَمِينِ، وهي يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، فَفِيها كَفّارَةُ يَمِينٍ.
ثُمَّ قالَ في المَذْهَبِ الثّالِثَ عَشَرَ: إنَّهُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهُ ما كَفَّرَ اليَمِينَ عَلى كُلِّ حالٍ، صَحَّ ذَلِكَ أيْضًا عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وابْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وعِكْرِمَةَ وعَطاءٍ ومَكْحُولٍ وقَتادَةَ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ونافِعٍ والأوْزاعِيِّ وأبِي ثَوْرٍ، وخَلْقٍ (p-٥٨٦٢)سِواهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. وحُجَّةُ هَذا القَوْلِ ظاهِرُ القُرْآنِ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةَ الأيْمانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الحَلالِ، فَلا بُدَّ أنْ يَتَناوَلَهُ يَقِينًا، فَلا يَجُوزُ جَعْلُ تَحِلَّةِ الأيْمانِ لِغَيْرِ المَذْكُورِ قَبْلَها، ويَخْرُجُ المَذْكُورُ عَنْ حُكْمِ التَّحِلَّةِ الَّتِي قُصِدَ ذِكْرُها لِأجْلِهِ.
وقالَ في "زادِ المَعادِ": لا فَرْقَ بَيْنَ التَّحْرِيمِ -فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ- بَيْنَ الأمَةِ وغَيْرِها عِنْدَ الجُمْهُورِ، إلّا الشّافِعِيَّ وحْدَهُ؛ فَإنَّهُ أوْجَبَ في تَحْرِيمِ الأمَةِ خاصَّةً، كَفّارَةَ اليَمِينِ؛ إذِ التَّحْرِيمُ لَهُ تَأْثِيرٌ في الأبْضاعِ عِنْدَهُ، دُونَ غَيْرِها: وأيْضًا فَإنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ تَحْرِيمُ الجارِيَةِ، فَلا يَخْرُجُ مَحَلُّ السَّبَبِ عَنِ الحُكْمِ، ويَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ. ومُنازِعُوهُ يَقُولُونَ: النَّصُّ عَلَّقَ فَرْضَ تَحِلَّةِ اليَمِينِ بِتَحْرِيمِ الحَلالِ، وهو أعَمُّ مِن تَحْرِيمِ الأمَةِ وغَيْرِها، فَتَجِبُ الكَفّارَةُ حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُها. وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ.
{"ayah":"قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَیۡمَـٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق