الباحث القرآني

(p-٣٨)سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَدَنِيَّةٌ في قَوْلِ الجَمِيعِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ أرادَ بِذَلِكَ المَرْأةَ الَّتِي وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَقْبَلْها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهُ عَسَلٌ شَرِبَهُ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ بَعْضِ نِسائِهِ، واخْتُلِفَ فِيها فَرَوى عُرْوَةُ (p-٣٩) عَنْ عائِشَةَ أنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ حَفْصَةَ ورَوى ابْنُ أبِي مَلِيكَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ سَوْدَةَ. وَرَوى أسْباطٌ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقالَ يَعْنِي نِساؤُهُ عَدا مَن شَرِبَ ذَلِكَ عِنْدَها: إنّا لِنَجِدُ مِنكَ رِيحَ المَغافِيرِ، وكانَ يَكْرَهُ أنْ يُوجَدَ مِنهُ الرِّيحُ، وقُلْنَ لَهُ: جَرَسْتَ نَحْلَةَ العُرْفُطِ، فَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلى نَفْسِهِ، وهَذا قَوْلُ مَن ذَكَرْنا. الثّالِثُ: أنَّها مارِيَةُ أُمُّ إبْراهِيمَ خَلا بِها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في بَيْتِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وقَدْ خَرَجَتْ لِزِيارَةِ أبِيها، فَلَمّا عادَتْ وعَلِمَتْ عَتَبَتْ عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَحَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ أرِضاءً لِحَفْصَةَ، وأمَرَها أنْ لا تُخْبِرَ أحَدًا مِن نِسائِهِ، فَأخْبَرَتْ بِهِ عائِشَةَ لِمُصافاةٍ كانَتْ بَيْنَهُما وكانَتْ تَتَظاهَرانِ عَلى نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ أيْ تَتَعاوَنانِ، فَحَرَّمَ مارِيَةَ وطَلَّقَ حَفْصَةَ واعْتَزَلَ سائِرَ نِسائِهِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، وكانَ جَعَلَ عَلى نَفْسِهِ أنْ يُحَرِّمَهُنَّ شَهْرًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَراجَعَ حَفْصَةَ واسْتَحَلَّ مارِيَةَ وعادَ إلى سائِرِ نِسائِهِ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ والشَّعْبِيُّ ومَسْرُوقٌ والكَلْبِيُّ وهو ناقِلُ السِّيرَةِ. واخْتَلَفَ مَن قالَ بِهَذا، هَلْ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ بِيَمِينٍ آلى بِها أمْ لا، عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ حَلَفَ يَمِينًا حَرَّمَها بِها، فَعُوتِبَ في التَّحْرِيمِ وأُمِرَ بِالكَفّارَةِ في اليَمِينِ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ والشَّعْبِيُّ. الثّانِي: أنَّهُ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ مِن غَيْرِ يَمِينٍ، فَكانَ التَّحْرِيمُ مُوجِبًا لِكَفّارَةِ اليَمِينِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكم تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمُ المَخْرَجَ مِن أيْمانِكم.(p-٤٠) الثّانِي: قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ لَكُمُ الكَفّارَةَ في الحِنْثِ في أيْمانِكم. ﴿وَإذْ أسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أزْواجِهِ حَدِيثًا﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أسَرَّ إلى حَفْصَةَ تَحْرِيمَ ما حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ، فَلَمّا ذَكَرَتْهُ لِعائِشَةَ وأطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلى ذَلِكَ عَرَّفَها بَعْضَ ما ذَكَرَتْ، وأعْرَضَ عَنْ بَعْضِهِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: أسَرَّ إلَيْها تَحْرِيمَ مارِيَةَ، وقالَ لَها: اكْتُمِيهِ عَنْ عائِشَةَ وكانَ يَوْمَها مِنهُ، وأُسِرُّكِ أنَّ أبا بَكْرٍ الخَلِيفَةُ مِن بَعْدِي، وعُمَرَ الخَلِيفَةُ مِن بَعْدِهِ، فَذَكَرَتْها لِعائِشَةَ، فَلَمّا أطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ فَكانَ الَّذِي عَرَّفَ ما ذَكَرَهُ مِنَ التَّحْرِيمِ، وكانَ الَّذِي أعْرَضَ عَنْهُ ما ذَكَرَهُ مِنَ الخِلافَةِ لِئَلّا يَنْتَشِرَ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وَقَرَأ الحَسَنُ: (عَرَفَ بَعْضَهُ) بِالتَّخَفُّفِ، وقالَ الفَرّاءُ: وتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: عَرَفَ بَعْضَهُ بِالتَّخْفِيفِ أيْ غَضِبَ مِنهُ وجازى عَلَيْهِ، ﴿إنْ تَتُوبا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ اللَّتَيْنِ تَظاهَرَتا وتَعاوَنَتا مِن نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ عَلى سائِرِهِنَّ وهُما عائِشَةُ وحَفْصَةُ. وَفي (صَغَتْ) ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: يَعْنِي زاغَتْ، قالَهُ الضَّحّاكُ. الثّانِي: مالَتْ، قالَهُ قَتادَةُ، قالَ الشّاعِرُ ؎ تُصْغِي القُلُوبُ إلى أغَرَّ مُبارَكٍ مِن نَسْلِ عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ والثّالِثُ: أثِمَتْ، حَكاهُ ابْنُ كامِلٍ. وَفِيما أُوخِذَتا بِالتَّوْبَةِ مِنهُ وجْهانِ: أحَدُهُما: مِنَ الإذاعَةِ والمُظاهَرَةِ. الثّانِي: مِن سُرُورِهِما بِما ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ التَّحْرِيمِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. ﴿وَإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ﴾ يِعْنِي تَعاوُنًا عَلى مَعْصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ﴾ يَعْنِي ولَيَّهُ ﴿وَجِبْرِيلُ﴾ يَعْنِي ولَيَّهُ أيْضًا.(p-٤١) ﴿وَصالِحُ المُؤْمِنِينَ﴾ فِيهِمْ خَمْسَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُمُ الأنْبِياءُ، قالَهُ قَتادَةُ وسُفْيانُ. الثّانِي: أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، قالَ الضَّحّاكُ وعِكْرِمَةُ: لِأنَّهُما كانا أبَوَيْ عائِشَةَ وحَفْصَةَ وقَدْ كانا عَوْنًا لَهُ عَلَيْهِما. الثّالِثُ: أنَّهُ عَلِيٌّ. الرّابِعُ: أنَّهُمُ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الخامِسُ: أنَّهُمُ المَلائِكَةُ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَيَحْتَمِلُ سادِسًا: أنَّ صالِحَ المُؤْمِنِينَ مَن وقى دِينَهُ بِدُنْياهُ. ﴿والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ يَعْنِي أعْوانًا لِلنَّبِيِّ ﷺ، ويَحْتَمِلُ تَحْقِيقُ تَأْوِيلِهِ وجْهًا ثانِيًا: أنَّهُمُ المُسْتَظْهَرُ بِهِمْ عِنْدَ الحاجَةِ إلَيْهِمْ. ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ﴾ أمّا نِساؤُهُ فَخَيْرُ نِساءِ الأُمَّةِ. وَفي قَوْلِهِ ﴿خَيْرًا مِنكُنَّ﴾ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: يَعْنِي أطْوَعَ مِنكُنَّ. والثّانِي: أحَبَّ إلَيْهِ مِنكُنَّ. والثّالِثُ: خَيْرًا مِنكُنَّ في الدُّنْيا، قالَهُ السُّدِّيُّ. ﴿مُسْلِماتٍ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: يَعْنِي مُخْلِصاتٍ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ ونَرى ألّا يَسْتَبِيحَ الرَّسُولُ إلّا مُسْلِمَةً. الثّانِي: يُقِمْنَ الصَّلاةَ ويُؤْتِينَ الزَّكاةَ كَثِيرًا، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّالِثُ: مَعْناهُ مُسَلِّماتٌ لِأمْرِ اللَّهِ وأمْرِ رَسُولِهِ، حَكاهُ ابْنُ كامِلٍ. ﴿مُؤْمِناتٍ﴾ يَعْنِي مُصَدِّقاتٍ بِما أُمِرْنَ بِهِ ونُهِينَ عَنْهُ. ﴿قانِتاتٍ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مُطِيعاتٌ. الثّانِي: راجِعاتٌ عَمّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إلى ما يُحِبُّهُ.(p-٤٢) ﴿تائِباتٍ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مِنَ الذُّنُوبِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: راجِعاتٌ لِأمْرِ الرَّسُولِ تارِكاتٌ لِمَحابِّ أنْفُسِهِنَّ. ﴿عابِداتٍ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: عابِداتٌ لِلَّهِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. الثّانِي: مُتَذَلِّلاتٌ لِلرَّسُولِ بِالطّاعَةِ، ومِنهُ أُخِذَ اسْمُ العَبْدِ لِتَذَلُّلِهِ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. ﴿سائِحاتٍ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: صائِماتٌ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّي الصّائِمُ سائِحًا لِأنَّهُ كالسّائِحِ في السَّفَرِ بِغَيْرِ زادٍ. وَقالَ الزُّهْرِيُّ: قِيلَ لِلصّائِمِ سائِحٌ لِأنَّ الَّذِي كانَ يَسِيحُ في الأرْضِ مُتَعَبِّدًا لا زادَ مَعَهُ كانَ مُمْسِكًا عَنِ الأكْلِ، والصّائِمُ يُمْسِكُ عَنِ الأكْلِ، فَلِهَذِهِ المُشابَهَةِ سُمِّيَ الصّائِمُ سائِحًا، وإنَّ أصْلَ السِّياحَةِ الِاسْتِمْرارُ عَلى الذَّهابِ في الأرْضِ كالماءِ الَّذِي يَسِيحُ، والصّائِمُ مُسْتَمِرٌّ عَلى فِعْلِ الطّاعَةِ وتَرْكِ المُشْتَهى، وهو الأكْلُ والشُّرْبُ والوِقاعُ. وَعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ الإنْسانَ إذا امْتَنَعَ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ والوِقاعِ وسَدَّ عَلى نَفْسِهِ أبْوابَ الشَّهَواتِ انْفَتَحَتْ عَلَيْهِ أبْوابُ الحِكَمِ وتَجَلَّتْ لَهُ أنْوارُ المُتَنَقِّلِينَ مِن مَقامٍ إلى مَقامٍ ومِن دَرَجَةٍ إلى دَرَجَةٍ فَتَحْصُلُ لَهُ سِياحَةٌ في عالَمِ الرُّوحانِيّاتِ. الثّانِي: مُهاجِراتٌ لِأنَّهُنَّ بِسَفَرِ الهِجْرَةِ سائِحاتٌ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ. ﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ أمّا الثَّيِّبُ فَإنَّما سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها راجِعَةٌ إلى زَوْجِها إنْ أقامَ مَعَها، أوْ إلى غَيْرِهِ إنْ فارَقَها، وقِيلَ لِأنَّها ثابَتْ إلى بَيْتِ أبَوَيْها، وهَذا أصَحُّ لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ثَيِّبٍ تَعُودُ إلى زَوْجٍ. وَأمّا البِكْرُ فَهي العَذْراءُ سُمِّيَتْ بِكْرًا لِأنَّها عَلى أوَّلِ حالَتِها الَّتِي خُلِقَتْ بِها. قالَ الكَلْبِيُّ: أرادَ بِالثَّيِّبِ مِثْلَ آسِيَةَ امْرَأةِ فِرْعَوْنَ، والبِكْرِ مِثْلَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرانَ. رَوى خِداشٌ عَنْ حَمِيدٍ عَنْ أنَسٍ «قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: وافَقْتُ رَبِّي في (p-٤٣)ثَلاثٍ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مَقامَ إبْراهِيمَ مُصَلّى، وقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ يَدْخُلُ إلَيْكَ البَرُّ والفاجِرُ فَلَوْ حَجَبْتَ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الحِجابِ، وبَلَغَنِي عَنْ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ شَيْءٌ [فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ]: لَتَكُفُّنَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللَّهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ حَتّى دَخَلْتُ عَلى إحْدى أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ فَقالَتْ: يا عُمَرُ أما في رَسُولِ اللَّهِ ما يَعِظُ نِساءَهُ حَتّى تَعِظَهُنَّ أنْتَ، فَأمْسَكْتُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ الآيَةَ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب