الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾.
﴿بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾: أرسله، والغراب هو الطائر المعروف، ولا يقال: لم اختاره الله عز وجل من بين سائر الطيور؟ لأن مثل هذه المسائل لا يمكن تعليلها، ولا يمكن الإحاطة فيها.
وقوله: ﴿يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾ ذكر المفسرون أن غرابين اقتتلَا فقتل أحدهما الآخر، فبحث القاتل في الأرض، ثم دفن الغراب، ولكن ظاهر الآية خلاف ذلك؛ لأن الله يقول: ﴿بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾، ولم يقل: غرابين، والظاهر أن الغراب إنما رأى هذا كيف يبحث في الأرض من أجل أن يدفن أخاه، وكأن هذا القاتل لقوة ما وقع في نفسه كأنه ذهل عن هذا الأمر، فبعث الله هذا الغراب يبحث في الأرض أي: يحرثها، حتى يرى هذا القاتل ماذا يصنع في أخيه.
قال: ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾، ﴿يُرِيَهُ﴾ أي: ليجعله يرى بعينه.
﴿كَيْفَ يُوَارِي﴾ كيف يغطي؟
﴿سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ أي: عورته؛ لأن الميت كله عورة، ولهذا أمر النبي ﷺ أن يكفَّن الميت كله لا يخرج منه شيء إلا مَن كان محرمًا من الرجال فإنه يجب أن يُكشف رأسه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٢٦٥)، ومسلم (١٢٠٦ / ٩٣) من حديث عبد الله بن عباس.]].
قال الرجل: ﴿يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ﴾، ﴿يَا وَيْلَتَا﴾، الويل: هو الثبور والتعب والإعياء، ويقال في كل حال يقع فيها الندم، وأصل ﴿يَا وَيْلَتَا﴾: يا ويلتي، لكن قُلِبَت الياء ألفًا من أجل المد ﴿يَا وَيْلَتَا﴾ مدها عند الصياح، وهنا نادى الويل كأنه يقول: يا ويلتا احضري فإني نادم.
وقوله: ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾، الاستفهام هنا للتوبيخ، يعني: كيف أعجز أن أكون مثل هذا الغراب؟! لأن بني آدم أكرم من الحيوانات، وهذا صرح بأنه عجز أن يساوي أو يماثل الغراب، ﴿فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾.
وقوله: ﴿أَعَجَزْتُ﴾ ﴿فَأُوَارِيَ﴾ منصوبة هنا؛ لأنها جواب الاستفهام.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة ٣٢].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ﴾ إلى آخره.
* في هذه الآية من الفوائد: أن أفعال الحيوان غير الإنسان مخلوقة لله وبإرادته؛ لقوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾، فهل أفعال البشر مخلوقة لله وبإرادته؟
الجواب: نعم، أفعالنا مخلوقة لله وبإرادة الله عز وجل، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة خلافًا للقدرية المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، ولكن مع ذلك نقول: إن فعل الإنسان يقع باختياره وإرادته؛ فللإنسان اختيار وإرادة خلافًا لمن؟ خلافًا للجبرية الذين قالوا: إن الإنسان ليس له إرادة ولا اختيار؛ أهل السنة والجماعة وفّقهم الله -عز وجل- للأخذ بالنصوص من جميع الجوانب، والمعتزلة أخذوا بنصوص، والجبرية الجهمية أخذوا بنصوص، فصاروا ينظرون إلى النصوص نظر الأعور الذي ينظر بعين واحدة، أما أهل السنة -والحمد لله، جعلنا الله وإياكم منهم- فإنهم ينظرون إلى النصوص بالعينين جميعًا.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الحيوانات قد تكون مرشدة للبشر، كما في هذه القصة، فالغراب أرشد ابن آدم إلى أن يحفر لأخيه ويدفنه، وصارت سُنّة البشر إلى يومنا هذا إلا من ضل عن الصراط المستقيم كالذين يحرقون موتاهم ويذرونه في اليم وما أشبه ذلك، وإلا فهذا بقي سُنّة البشر إلى اليوم، وهل الميزة بشيء معين يقتضي التفضيل المطلق؟
الجواب: لا، وهذه قاعدة ينبغي أن نعرفها، أنه إذا امتاز أحد بشيء فإنه لا يقتضي التمييز المطلق عليه، ومن ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يكون في آخر الزمان أيام الصبر للعامل فيهن أجر خمسين من الصحابة[[أخرجه أبو داود (٤٣٤١)، وابن ماجه (٤٠١٤) من حديث أبي ثعلبة الخشني.]]، فهل يقال: إن هؤلاء الذي يكونون في هذه الأيام أفضل من الصحابة على سبيل الإطلاق؟
لا، لكن يتميزون بميزة، كذلك نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أحيانًا يفضّل بعض الصحابة على بعض في قضية معينة، فلا يلزم من ذلك التفضيل المطلق، كما في قوله: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٠٠٩)، ومسلم (٢٤٠٦ / ٣٤) من حديث سهل بن سعد.]]، فأعطاها من؟ علي بن أبي طالب، وهذا لا يقتضي أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأمثال هذا كثير، فيجب أن نعرف الفرق بين الفضل المطلق والفضل المعين، فهل نقول: إن الغربان أفضل من بني آدم؟ لا، وإن كان للغربان فضل في كيفية مواراة الأموات، لكن هذا لا يقتضي التفضيل.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى ييسر للإنسان إذا ضاقت به الأرض ما لم يطرأ له على بال؛ فإن هذا الرجل ضاقت عليه الأرض، ماذا يصنع بأخيه الذي قتَلَه؟! ففرّج الله عنه ببعث هذا الغراب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الواجب في الدفن ما توارى به السوءة، أي: يغطى به الجسم، لكن العلماء -رحمهم الله- زادوا على ذلك شرطًا لا بد منه، وهو أن يكون الدفن مواريًا للسوءة ومانعًا للسباع وللرائحة، يعني معناه: لا بد أن يمنع السباع أن لا تحفر القبر، وأن يمنع الرائحة أن لا تخرج من القبر، فلو أن الإنسان حفر حفرة يسيرة، ثم وارى عليها التراب، لكنه يسهل على السباع أن تحفره، وتخرج رائحته فإن هذا لا يجزئ، لا بد من تعميق القبر على وجه يمنع السباع والرائحة، وكلما كان أعمق في الأرض فهو أحسن.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن بدن الميت كله عورة؛ لأن القبر يوارِي البدن كله، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن بدن الميت كله عورة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن قتل العمد لا يخرج من الإيمان؛ لقوله: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾، ولقوله في هذه الآية: ﴿كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾، وهذا هو الحق؛ أن قتل العمد لا يخرج من الإيمان خلافًا لطائفتين مبتدعتين زائغتين، وهما الخوارج والمعتزلة؛ فالمعتزلة قالوا: إن قاتل النفس عمدًا يخرج من الإيمان، لكن لا يدخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين، هذا حكمه في الدنيا، أما في الآخرة فإنه مخلَّد في النار، أما الخوارج فقالوا: إنه يكفر؛ لأنه ليس هناك إلا كافر ومؤمن، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن ٢]، وإحداث منزلة بين منزلتين هذه بدعة، والخوارج أشجع من المعتزلة؛ لأنهم صرّحوا بما يقتضيه الدليل على زعمهم، وصرّحوا بأنه كافر، وأما المعتزلة فلاذوا بهذه الحيلة أنه لا يكفر، لكنه في منزلة بين منزلتين، وكلا القولين خطأ.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إظهار الندم الشديد من هذا الذي قتل أخاه؛ لقوله: ﴿يَا وَيْلَتَا﴾، وأصله: يا ويلي، ويا ويلتي، وهي كلمة تحسّر وتحزّن، فنأخذ من هذه الفائدة فائدة أخرى، وهي أن فاعل المعصية إذا لم يتُب منها فإنه يجازَى بالخسران والندم وضيق النفس.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إقرار هذا الإنسان القاتل بما اقتضته الحال مع ما فيه ذلك من لومه والقدح فيه؛ لقوله: ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي﴾.
* ومن فوائد الآية: أن هذا القاتل أصبح من النادمين، على أيش؟ على قتل أخيه، وعلى عجزه أن يكون عارفًا كيف يواري سوأة أخيه، فجمع الندم للأمرين جميعًا.
{"ayah":"فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابࣰا یَبۡحَثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُرِیَهُۥ كَیۡفَ یُوَ ٰرِی سَوۡءَةَ أَخِیهِۚ قَالَ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَـٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَ ٰرِیَ سَوۡءَةَ أَخِیۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق