الباحث القرآني

ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَدْرِ ما يَصْنَعُ بِهِ؛ إذْ كانَ أوَّلَ مَيْتٍ؛ فَلَمْ يَكُنِ الدَّفْنُ مَعْرُوفًا“؛ سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ كَمالُ القُدْرَةِ؛ والعَظَمَةِ؛ والحِكْمَةِ؛ ولَمّا كانَ المَعْنى يَحْصُلُ بِالغُرابِ الباحِثِ فَقَطْ؛ قالَ: ﴿غُرابًا يَبْحَثُ﴾؛ أيْ: يُوجِدُ البَحْثَ؛ وهو التَّفْتِيشُ في التُّرابِ؛ بِتَلْيِينِ ما تَراصَّ مِنهُ؛ وإزاحَتِهِ مِن مَكانِهِ؛ لِيُبْقِيَ مَكانَهُ حَوْزَةً خالِيَةً. (p-١٢٣)ولَمّا كانَ البَحْثُ مُطْلَقَ التَّفْتِيشِ؛ دَلَّ عَلى ما ذَكَرْتُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي الأرْضِ﴾؛ لِيُوارِيَ غُرابًا آخَرَ ماتَ؛ ولَمّا كانَ الغُرابُ سَبَبَ عِلْمِ ابْنِ آدَمَ القاتِلِ لِلدَّفْنِ؛ كانَ كَأنَّهُ بَحَثَ لِأجْلِ تَعْلِيمِهِ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿لِيُرِيَهُ﴾؛ أيْ: الغُرابُ يُرِي ابْنَ آدَمَ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ لِلَّهِ (تَعالى)؛ والأوَّلُ أوْلى؛ لِتَوْقِيفِهِ عَلى عَجْزِهِ؛ وجَهْلِهِ بِأنَّ الغُرابَ أعْلَمُ مِنهُ؛ وأقْرَبُ إلى الخَيْرِ؛ ﴿كَيْفَ يُوارِي﴾؛ ولَمّا كانَتِ السَّوْءَةُ واجِبَةَ السَّتْرِ؛ وكانَ المَيْتُ يَصِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ كُلُّهُ سَوْءَةً؛ قالَ - مُنَبِّهًا عَلى ذَلِكَ؛ وعَلى أنَّها السَّبَبُ في الدَّفْنِ؛ بِالقَصْدِ الأوَّلِ -: ﴿سَوْءَةَ﴾؛ أيْ: فَضِيحَةَ؛ ﴿أخِيهِ﴾؛ أيْ: أخِي قابِيلَ؛ وهو هابِيلُ المَقْتُولُ؛ وصِيغَةُ المُفاعَلَةِ تُفِيدُ أنَّ الجُثَّةَ تُرِيدُ أنْ يَكُونَ القاتِلُ وراءَها؛ والقاتِلُ يُرِيدُ كَوْنَ الجُثَّةِ وراءَهُ؛ فَيَكُونانِ بِحَيْثُ لا يَرى واحِدٌ مِنهُما الآخَرَ؛ ولَعَلَّ بَعْثَ الغُرابِ إشارَةٌ إلى غُرْبَةِ القاتِلِ؛ بِاسْتِيحاشِ النّاسِ مِنهُ؛ وجَعْلِهِ مِمّا يُنْفَرُ عَنْهُ؛ ويَقْتُلُهُ كُلُّ مَن يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ ومِن ثَمَّ سُمِّيَ الغُرابُ البَيْنَ؛ وتَشاءَمَ بِهِ مَن يَراهُ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ هَذا لِعَجَبٌ؛ فَما قالَ؟ قِيلَ: ﴿قالَ﴾؛ الكَلِمَةَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الدّاهِيَةِ العَظِيمَةِ؛ لِما نَبَّهَهُ ذَلِكَ؛ مُتَعَجِّبًا؛ مُتَحَيِّرًا؛ مُتَلَهِّفًا؛ عالِمًا أنَّ الغُرابَ أعْلَمُ مِنهُ؛ وأشْفَقُ؛ مُنْكِرًا عَلى نَفْسِهِ؛ ﴿يا ويْلَتا﴾ (p-١٢٤)؛ أيْ: احْضُرْنِي يا ويْلُ؛ هَذا أوانُكَ ألّا يَكُونَ لِي نَدِيمٌ غَيْرُكَ؛ ولَمّا تَفَجَّعَ غايَةَ الفَجِيعَةِ؛ وتَأسَّفَ كُلَّ الأسَفِ؛ أنْكَرَ عَلى نَفْسِهِ؛ فَقالَ: ﴿أعَجَزْتُ﴾؛ أيْ: مَعَ ما جُعِلَ لِي مِنَ القُوَّةِ القاطِعَةِ؛ ﴿أنْ أكُونَ﴾؛ مَعَ ما لِي مِنَ الجَوارِحِ الصّالِحَةِ لِأعْظَمَ مِن ذَلِكَ؛ ﴿مِثْلَ هَذا الغُرابِ﴾؛ وقَوْلُهُ - مُسَبِّبًا عَنْ ذَلِكَ -: ﴿فَأُوارِيَ سَوْءَةَ﴾؛ أيْ: عَوْرَةَ وفَضِيحَةَ؛ ﴿أخِي﴾؛ نُصِبَ عَطْفًا عَلى ”أكُونَ“؛ لا عَلى جَوابِ الِاسْتِفْهامِ؛ لِأنَّهُ إنْكارِيٌّ؛ فَمَعْناهُ النَّفْيُ؛ لِأنَّهُ لَمْ تَكُنْ وقَعَتْ مِنهُ مُواراةٌ لِيُنْكِرَ عَلى نَفْسِهِ؛ ويُوَبِّخَها بِسَبَبِها؛ ولَوْ كانَتْ وقَعَتْ لَمْ يَصِحَّ إنْكارُها عَلى تَقْدِيرِ عَدَمِ العَجْزِ؛ الَّذِي أفادَتْهُ الهَمْزَةُ؛ ﴿فَأصْبَحَ﴾؛ بِسَبَبِ قَتْلِهِ؛ ﴿مِنَ النّادِمِينَ﴾؛ أيْ: عَلى ما فَعَلَ؛ لِأنَّهُ فَقَدَ أخاهُ؛ وأغْضَبَ رَبَّهُ؛ وأباهُ؛ ولَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ ما كانَ سَبَبَ غَيْظِهِ؛ بَلْ زادَهُ بُعْدًا؛ وذُكِرَ أنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا عَلِمَ قَتْلَهُ رَثاهُ بِشِعْرٍ؛ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - رَدَّ ذَلِكَ؛ وأنَّ الأنْبِياءَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - كُلُّهم في النَّهْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَواءٌ؛ وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وقَدْ صَحَّ أنَّ الأنْبِياءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّعْرِ: «”ولا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ هَذا كِفْلٌ مِن دَمِها؛ بِما سَنَّ“؛» رَواهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ وكَذا: ”كُلُّ مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً“؛ ولِهَذا قالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: «”إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عَلى أُمَّتِي الأئِمَّةُ المُضِلُّونَ“؛» وهَذا لِأنَّ الآدَمِيَّ (p-١٢٥)لِنُقْصانِهِ أسْرَعُ شَيْءٍ إلى الِاقْتِداءِ في النَّقائِصِ؛ وهَذا ما لَمْ يَتُبِ الفاعِلُ؛ فَإذا تابَ؛ أوْ كانَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِلْفِعْلِ؛ كَآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ يَكُنْ سانًّا لِذَلِكَ؛ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ مِمَّنْ عَمِلَ بِذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب