الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ فيها قراءات: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾، و﴿لَا تَحْسِبَنَّ﴾ بكسر السين، وفيها قراءة: ﴿لَا يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء بدل التاء، فالقراءة ثلاثة: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾، ﴿لَا تَحْسِبَنَّ﴾ ، ﴿لَا يَحْسبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ ، فعلى قراءة التاء يكون الخطاب موجهًا إما للنبي ﷺ وإما لكل من يصح أن يتوجه إليه الخطاب، والمعنى الثاني أعم وأشمل، يعني: لا تحسبن أيها المخاطب. وقوله: ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ الذين: محلها من الإعراب أنها مفعول أول لـ(تحسبن)، فأين المفعول الثاني؟ * طالب: (فلا تحسبن). * الشيخ: فعل (فلا تحسبن). * الطالب: جملة (فلا تحسبن). * الشيخ: ما تصح، المفعول الثاني إما أن نقول: إنه محذوف قبل الجملة ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ﴾، ويكون المعنى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ناجين، ثم فرع عليه قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾. ويحتمل أن قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ جملة مؤكدة لقوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾، وعلى هذا فيكون قوله: ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ هو المفعول الثاني. والأول أقرب؛ أي: لا تحسبنهم ناجين، فلا تحسبنهم بمفازة. وقوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ فيها قراءتان أيضًا، بل ثلاث قراءات: ﴿فَلَا تَحْسِبَنَّهُمْ﴾ و﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾، و﴿فَلَا يَحْسِبُنَّهُمْ﴾ ، يعني لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب. نرجع الآن إلى التفسير: يقول عز وجل: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾، أي: يفرحون فرح أشر وبطر ومنّة على الله وعلى رسول الله ﷺ، ﴿بِمَا أَتَوْا﴾، أي بما أتوا من الأعمال التي يتقربون بها إلى الله، على زعمهم، ولكنهم يفرحون بها منةً على الله ورسوله. وقوله: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أي يحبون أن الناس يحمدونهم على شيء لم يفعلوه، مثل أن يتظاهروا للناس بالصلاح من أجل أن يثنى عليهم، وهم لم يفعلوا الصلاح، ومثل ما فعل أهل الكتاب؛ كتموا صفة النبي ﷺ ولم يبينوها، فقالوا: الآن غلبنا محمدًا، حيث قلنا: إنه ليس هو المبشَّر به. ففرحوا بما أتوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. كذلك المنافقون يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فأما المسلم إذا فرح بما أنعم الله عليه من العمل، وأحب أن يحمَد بما لم يفعل، لا رياءً، ولكن من طبيعة البشر أنه يحب أن يحمده الناس، فإن هذا لا يدخل في الآية، فالذي يدخل في الآية الصنفان: الصنف الأول: أهل الكتاب الذين فرحوا بما أتوا من كتمان صفة النبي ﷺ وعدم الإيمان به، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، حيث يتظاهرون للناس بأنه لو جاء الرسول الذي بشر به عيسى لآمنّا به. والصنف الثاني من؟ المنافقون، فإن المنافقين يفرحون بما أتوا، ويقولون: نحن أسلمنا أمام محمد وأصحابه، وهم على العكس من ذلك، ولهذا قال: ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ من الإخلاص والمحبة لله ورسوله واتباع رسوله ﷺ. قال: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ المفازة مكان الفوز، أي لا تحسبنهم بمكان يفوزون به وينجون به من العذاب، بل هم منغمسون في العذاب، والعياذ بالله. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الجملة هذه استئنافية، لمّا بيّن أنهم ليسوا بمفازة من العذاب وليسوا ناجين أكد هذا بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أليم: بمعنى مؤلم، فهي فعيل بمعنى مُفعِل، وفعيل بمعنى مفعل تأتي في اللغة العربية كثيرًا، ومنه قول الشاعر: ؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ السميع بمعنى المسمع. * في هذه الآية الكريمة فوائد، وهي: تحذير من يفرح بما أتى فرح مِنة وإدلال على الله عز وجل، أو فرح غدر وخيانة كالمنافقين. * وفيها أيضًا: التحذير من محبة الإنسان أن يُحمد بما لم يفعل، وهذا يقع كثيرًا، أحيانًا يصرح الإنسان وهو كاذب، وأحيانًا يوري، فيظن السامع أنه فاعل وهو لم يفعل، أما الأول فأن يقول مثلًا: صليت البارحة آخر الليل، ودعوت الله، وهو كاذب، لكن من أجل أن يحمد على ذلك، أو يقول: رأيت فقيرًا فتصدقت عليه، أو يقول: طبعت كتابًا، أو أنقذت غريقًا، أو ما أشبه ذلك، وهو كاذب، هذا قسم صرح بما لم يفعل، وأحيانًا يوري؛ يتظاهر أمام الناس أنه فعل وهو لم يفعل، فالذي يسمع كلامه يقول: هذا هو الفاعل، وهو لم يفعل، وكلاهما مذموم. أما من أحب أن يُحمد بما لم يفعل ولكنه لم يتظاهر أمام الناس بالشيء ليحمد عليه، فهذا لا يضر؛ لأن كل واحد يحب أن يُحمد وإن لم يفعل، ولكن إذا حمد أن يفعل وهو متظاهر للناس بأنه فاعل؛ هذا المذموم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من كان على هذا الحال فلن ينجو من العذاب؛ لقوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾. * ومن فوائدها: إثبات العذاب الأليم لمن هذه حاله، وقد عرفتم أنها منطبقة على صنفين من الناس: أهل الكتاب الذين كتموا صفة الرسول عليه الصلاة والسلام، والثاني: المنافقون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب