الباحث القرآني
الشيخ: الجواب: لما حثهم على الاستغفار وبيَّن لهم نتائجه الطيبة كان جوابهم: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ [النمل ٤٧] أعوذ بالله، هذا الجواب؛ يعني: أنت ما أتيت لنا بفائدة، بل صرت شؤمًا علينا أنت وأتباعك، وهذا حال الذين يتطيرون بأهل الخير، والله تبارك وتعالى قد يفتن الناس؛ فقد يقع مثلًا في مجيء الخير أو معه قد يقع بعض الآفات أو بعض الأشياء المكروهة لدى الناس؛ ليكون ذلك فتنة وابتلاء.
ربما مثلًا يحل رجل من أهل العلم والعبادة في بيت ثم يحترق هذا البيت؛ ابتلاء من الله سبحانه وتعالى وامتحانًا، أهل الشر يفرحون ويفرهون، يقولون: يا الله! شوفوا أسباب الطوع، احترق البيت لما جاء هذا الرجل، والله تعالى قد يفتن الناس، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء ٣٥].
هؤلاء يقولون: إنه بمجيء صالح ومعصية قومه عاقبهم الله تبارك وتعالى بالقحط والجدب وغور المياه، فقالوا: أنت يا صالح ومن معك ما جئتمونا بخير، ما جئتمونا إلا بالقحط والجدب وغور المياه، فتطيروا به.
و﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾ أصله: تطيَّرنا؛ أُدغمت التاء في الطاء، وهذا الإدغام على خلاف القاعدة؛ إذ إن الإدغام بين ساكن ومتحرك وهذا بين متحركين، فأدغمت التاء في الطاء، ولما أدغمت التاء في الطاء صار الحرف الأول منهما ساكنًا، ولاحظوا أنه أيضًا بعد الإدغام قُلِبَت التاء طاءً، والساكن ما يمكن الابتداء به، فاجتُلِبَت الهمزة لتسهيل النطق به؛ ولهذا قال المؤلف: (وَاجْتُلِبَتْ همزة الوصل) من أجل؟ لتسهيل النطق بالساكن.
ومعنى ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ أي: تشاءمنا؛ من الشؤم، والشؤم معناه: توقع الشر من مشاهَدٍ أو مسموع أو زمن أو حال؛ ولهذا قالوا: إن التطيُّر مأخوذ من الطير.
وكانوا في الجاهلية يتشاءمون بالطيور؛ يبعثونها، وعندهم قواعد لهذا التشاؤم: إذا ذهبت يمينًا يتفاءلون، أو يسارًا يتشاءمون، أو أمامًا يعيدون، أظن الباعث مرة ثانية، وخلفًا يتشاءمون أكثر، فعندهم لهذا قواعد؛ فلذلك سُمِّي هذا التشاؤم تطيرًا، مأخوذ منين؟ من الطير؛ لأن غالب تشاؤم العرب بها.
فهم يقولون: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾ أي: تشاءمنا، وكان مجيئك شؤمًا علينا أنت وأتباعك.
إذن ما هو التطير؟ هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان أو حال، هذا التطير، التطير هو: التشاؤم شنو؟
* طلبة: بمرئي.
* الشيخ: بمرئيٍ أو مسموع أو زمان أو مكان أو حال، هذا هو التشاؤم.
بمرئي؛ يرى الإنسان شيئًا فيتشاءم، افرض أنه مثلًا أراد أن يسافر فقابله إنسان يكرهه، هو يكره هذا الرجل قال: خلاص رجعنا، هذا ويش لونه؟
* طالب: بمرئي.
* الشيخ: بمرئي.
أو همَّ أن يسافر، فلما خرج سمع رجلًا يقول: مات فلان بن فلان، قال: خلاص رجعنا، هذا تشاؤم؟
* طلبة: بمسموع.
* الشيخ: بمسموع.
أو زمان؛ يتشاءم بيوم من الأيام، يوم الأربعاء، يوم الخميس، أو شهر من الشهور، كشهر شوال، العرب يتشاءمون بشهر شوال في الزواجات، يقولون: من يتزوج في شهر شوال ما يوفّق.
(...) هذا الزواجات في شهر شوال كثيرة، لكن عائشة أبطلت ذلك بالواقع، قالت: «إن الرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها في شوال، وبنى بها في شوال، فأيُّكن كان أحظى عند رسول الله ﷺ»[[أخرجه مسلم (١٤٢٣ / ٧٣) من حديث عائشة. ]]، إذن ينبغي أن نتدارك إن أردنا أن نعمل التشاؤم والتفاؤل، فإننا؟
* طالب: نتفاءل.
* الشيخ: نتفاءل بشهر شوال، ولكن مع ذلك لا نتفاءل بالزمان ولا نتطير به، الخير والشر بيد الله سبحانه وتعالى.
ومنهم من يتشاءم بالمكان، تجده مثلًا يجيء يجلس في هذا المكان (...)، يقول: خلاص، قمنا، هذا ما يمكن نجلس فيه.
أو يتشاءم بالحال؛ حال الشخص مثلًا، التشاؤم بالحال أيضًا هذا تطير ما يجوز، قد مثلًا يعمل إنسان عملًا ويعاكسه في أول أمره، أو مثلًا يهم أن يفعل شيئًا غدًا ولا صار غد وله معه بعض التعب والعجز، فيتشاءم ويعدل بسبب هذه الأحوال التي تعرض له، فنقول: كل هذا لا يجوز، أنت إذا عزمت فتوكل على الله، «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»[[أخرجه أحمد (٧٠٤٥)، والطبراني في المعجم الكبير (٣٨) من حديث عبد الله بن عمرو.]].
الإنسان مثل ما قال القرطبي وكذلك غيره من أهل العلم: اللي يعلِّق تصرفاته بمثل هذه الأمور، فهو من أجهل الناس، ثم إنه ما يمكن ينصلح حاله إذا ينظر إلى هذه الأشياء.
ولكن لاحظوا أن الفأل الذي يعين على فعل الخير لا يدخل في هذا الأمر، الفأل «كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل ولكنه يكره الطِّيَرَة»[[أخرجه ابن ماجه (٣٥٣٦) من حديث أبي هريرة.]]؛ لأن الطِّيَرَة فيها تعلُّق الإنسان بغير الله سبحانه وتعالى بمثل هذه الأمور، وفيها أيضًا منع للإنسان عما يريده من الخير.
لكن التفاؤل فيه التشجيع على الخير، لما جاء سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال النبي عليه الصلاة والسلام: «هَذَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَإِنَّهُ قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»[[أخرجه البخاري مرسلًا (٢٧٣٢) من حديث عكرمة.]]، إذا صحت هذه الكلمة في الحديث، فالحاصل أن التفاؤل غير التشاؤم.
واعلم أن التشاؤم غير الشُّؤم؛ فإن الشؤم قد يكون في بعض الأشياء، مثل ما «أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه يكون في المرأة، ويكون في الدار، ويكون في الدابة»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٧٥٣)، ومسلم (٢٢٢٥ / ١١٦) من حديث عبد الله بن عمر.]]، وهذا شيء مشاهد؛ أن الإنسان قد ينزل بعض الدور وما يتشاءم، لكن يكون فيها شؤم، تكون دائمًا خراب مثلًا، ودائمًا تحتاج إلى أعمال متتابعة، فإذا ارتحل عنها ارتاح ووجد ما يريد.
كذلك بعض السيارات، ما عندنا دواب الآن في غالب الناس، بعض الأحيان هذه السيارة يشتريها الإنسان ويحبها وتتعبه، كل يوم يخرب منها شيء، ثم يبيعها ويشتري ثانية ويرتاح لها.
ومثلها أيضًا بعض الأحيان يشتري الإنسان قلمًا -حتى في الأشياء الصغيرة- يبدأ كل يوم يتعبه؛ يجف المداد، وتلقى الريشة أيضًا ما تستقيم معه، ومرة يضيع منه ويتعبه، ويشتري قلمًا آخر ويبقى عنده مدة ما (...)، لكن هذا ليس تشاؤمًا ولكنه شؤم.
كذلك بعض النساء؛ يتزوج الإنسان امرأة وتتعبه ليلًا ونهارًا، في حياته العامة والخاصة، ومع أهله وأقاربه، ويتزوج أخرى فتكون راحة لنفسيته وقرة عينه.
فالحاصل: أن هذه الأشياء أمرها واقع، ولكن الرسول ما قال: التشاؤم، قال: «الشُّؤْم»، وفرق بين هذا وبين هذا؛ يعني معنى ذلك: أن هذه الأشياء يجد الناس فيها أحيانًا بركة وراحة، وأحيانًا يجدون فيها قلقًا وتعبًا.
* طالب: التشاؤم (...)؟
* الشيخ: لا، (...).
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، إذا كان هذا يتعلق بشيء، بعامل مثلًا ولا شيء، وأما بس مجرد أنه يشوف واحد بالسوق اسمه يزيد ولَّا اسمه صالح ولَّا اسمه راشد، لا، مو هذا، لكن الشيء اللي بما معه معاملة فأنا قد أتفاءل.
سهيل بن عمرو له معاملة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فتفاءل، وهذا يكون من باب فتح الأمور باليسر.
* طالب: ثم يكون بغير هذا الشيء؛ يعني يتفاءل إنسان (...)؟
* الشيخ: ما يخالف، ولكن الإنسان أول الأمر ما يتفاءل، كما هو عادة الناس الآن، أكثر العوام ما يدرون عن المسائل هذه، ويصير فيه خير في معاملة الشخص (...) الشخص الآخر لو أنه يزيد أو صالح مثل شؤم البلد.
* طالب: حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٧٥٣)، ومسلم (٢٢٢٥ / ١١٦) من حديث عبد الله بن عمر.]] (...)؟
* الشيخ: لا، يدل على أن مثلها إنما كان (...).
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي نعم، يعني معناه: ذاك الشؤم في زمان أو في مكان أو ما أشبه ذلك يتشاءم، وأنا أيضًا ذكرت لكم الفرق بين الشؤم والتشاؤم: التشاؤم من فعله، والشؤم من فعل غيره، وهذا واضح أنه قد يكون يجعل الله في هذا الشيء خيرًا وبركة للإنسان، وفي هذا الشيء شؤمًا وبلاء.
* طالب: قال النبي ﷺ: «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ» ثم ذكرها، وقال: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٨٥٢)، ومسلم (١٨٧٣ / ٩٨) من حديث عروة بن الجعد.]]، ألا تتعارض «مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ»؟
* الشيخ: إي، لكن هل معقود بنواصيها الخير مطلقًا أو في حال الجهاد؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا؛ لأنه ذكر بعدها مثال الذي يربطها للجهاد في سبيل الله، «أنها مَا تَسْتَنُّ، وَلَا تَعْلُو شَرَفًا، وَلَا تَأْتِي رَوْضَةً، وَلَا تَشْرَبُ مَاءً، إِلَّا كَانَتْ لَهُ أَجْرًا»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٣٧١)، ومسلم (٩٨٧ / ٢٤) من حديث أبي هريرة.]].
* طالب: إي، لكن بخصوص السبب ما (...).
* الشيخ: لا، نرى أن الحديث هنا وإن كان.. لكن السبب يقتضي ذلك، وإلا الصحيح العبرة بعموم اللفظ، لكنه ما دام أن السبب صالح لإحالة الحكم عليه، فيجب أن يقيد به، مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٤٦)، ومسلم (١١١٥ / ٩٢) من حديث جابر بن عبد الله.]]، وهذا اللفظ عام مع أنه هو نفسه يصوم، إذن يخصص بالسبب الذي ورد فيه وهو أنه إذا كان الصيام يؤدي إلى مثل هذه الحال فليس من البر.
* طالب: ذكر في الحديث أنها قد تكون شؤمًا للإنسان يربطها خيلاء؟
* الشيخ: إي نعم، تكون وزرًا.
* طالب: والحديث (...)؟
* الشيخ: ما أدري، ما أعرف هذا الحديث، ولكن الظاهر لي -والله أعلم- أن الرسول وجد قرينة غير الاسم؛ ولهذا استدعى أن يسأل عن اسمه، كأنه واجد في حال هذا الرجل مثلًا، مع أنه ما أدري.
* طالب: ذكره ابن القيم في أحكام المولود.
* الشيخ: إي، ما أعرف.
* الطالب: الاسم لأول مرة، الثاني اسم شهاب، والثالث اللي (...).
* الشيخ: ما أعرف عن هذا الحديث، قد ينظر في سنده.
* طالب: العلماء يقولون: يحب الفأل على العموم، كما في عدة أحاديث.
* الشيخ: إي، لكن هذا فيه تشاؤم، التفاؤل لا بأس، لو كانت مثلًا (...) ما فيها إشكال؛ ولهذا قال: «سَهُلَ مِنْ أَمْرِكُمْ»[[أخرجه البخاري مرسلًا (٢٧٣٢) من حديث عكرمة.]] إن صحت الكلمة هذه، لكن المشكلة الأول، ما لها تأثير، إلا إذا كان ذلك من طريق الوحي مثلًا، أما التأثير فلا يخاف؛ ولهذا الواقع يشهد بأنه لا حقيقة لذلك، تجد هذا اسمه عبد الله وهو عبد للشيطان، وتجد هذا اسمه شرورة وتجده من أخير الناس، ماله تأثير، إلا على الشيء يكون مثلًا بطريق الوحي، هذا شيء ممكن، مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لما ابن أبي طلحة سماه عبد الله، ولما دعا له بالبركة، بارك الله له، فكان من أولاده عشرة يحفظون القرآن[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٠١)، ومسلم (٢١٤٤ / ٢٣) من حديث أنس بن مالك.]].
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ينبغي أن يقارن في الأسماء ما أرشد إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يراعى ما أرشد إليه، «أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ»[[أخرجه مسلم (٢١٣٢ / ٢) من حديث عبد الله بن عمر.]]، يعني: عبد الله وعبد الرحمن أفضل من صالح ومن راشد.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: ما أدري، كون الإنسان يسمي اسمًا ليتفاءل به ما أدري، الرسول قال: «لَا تُسَمِّ غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا نَجَاحًا»[[أخرجه مسلم (٢١٣٧ / ١٢)، والجعديات (٢٧٠٠) واللفظ له، من حديث سمرة بن جندب.]].
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، هذه أبعد وأبعد، كونك إذا سميت بأسماء رجال من الصالحين يكون مثلهم، هذه أبعد، إلا إذا كان إنسان على سبيل المحبة لهم، ممكن يكون على سبيل المحبة، مثل ما يفعلون الآن، بعض الناس يسمون بأسماء الزعماء اللي يحبون، ولا يصيرون مثلهم بعد.
﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ هذا جواب الرسل، وهذا الجواب تجدونه أيضًا أجاب به بنو إسرائيل لمن؟ لموسى، ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ [الأعراف ١٣١]، وكذلك أصحاب القرية الثلاثة تطيَّروا بالرسل الذين أُرسلوا إليهم.
على كل حال هذا جواب أهل الشر؛ أنهم يجعلون الأسباب التي هي من أفعالهم ونتيجة لأفعالهم بأسباب هؤلاء المصلحين، والحقيقة أنها وقعت جزاء على أفعال الكفار.
﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ (أي: تشاءمنا، ﴿وَبِمَنْ مَعَكَ﴾ أي: المؤمنين حيث قُحِطوا المطر وجاعوا)، قُحِطوا بمعنى: مُنِعوا المطر.
(﴿قَالَ طَائِرُكُمْ﴾ شؤمكم، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أتاكم به، ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ ) ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يعني: وليس منا، وطائركم بمعنى: شؤمكم، والمراد: ما أصابكم مما تشاءمتم به -وهو القحط والجوع- عند من؟ عند الله، وليس منِّي أنا، وإذا كان عند الله سبحانه وتعالى -هذا من أبلغ الجواب- فإن الله تعالى حكيم، ما يُنزِّل هذا الشيء إلا في منزلته، وبأسبابه التي يُستحق بها، فكأنه يقول: ما دام عند الله فالله تعالى حكيم، ما أنزله إلا في موطنه وموضعه هذا الشؤم.
ثم قال: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ هذا الاستطراد ليس لإبطال الأول، ولكنه للانتقال؛ إضراب انتقالي، وتعرفون أن الإضراب يكون على نوعين: إضرابا إبطاليًّا يكون الحكم لما بعد (بل) ويبطل ما قبلها.
والثاني: إضراب انتقالي، مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل ٦٦] انتقال من شيء إلى شيء، هنا الإضراب إبطالي ولَّا انتقالي؟
* طالب: انتقالي.
* الشيخ: انتقالي؛ لأنه عند الله يفتنهم سبحانه وتعالى بما حصل، ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ ووجه الفتنة؛ أولًا: أنهم نسبوا هذا إلى صالح ومن معه، وهذه فتنة عظيمة، فتنة ضلَّ بها هؤلاء.
ثانيًا -من وجه الفتنة-: أنه أصابهم مع مجيء صالح إليهم، فظنوا أو ادعوا أن أسباب ذلك صالح ومن معه، ففُتِنوا بذلك فابتعدوا عن الحق.
ومثل ما قلت لكم أنا قبل قليل بالتمثيل: أن يحدث مكروه عند وجود رجل صالح، فيُنْسَب هذا المكروه إلى هذا الرجل الصالح ومجيء هذا الرجل الصالح، فيكون في هذا حكمة.
والله سبحانه وتعالى حكيم جل وعلا يفتن الإنسان ويختبره بأنواع المفاتن؛ تارة بالمصائب، وتارة بالنِّعم، وتارة بالأمور التي توجب الاشتباه ليمتحنه بذلك؛ ولهذا الدنيا كلها محنة، ما دام الإنسان دائرًا بين أمرين: إما شر، وإما خير، ولَّا لا؟ كل حياتك هكذا؛ شر ولَّا خير، وكلاهما يقول الله فيه: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء ٣٥].
إذن معناه: انتبه يا إنسان، انتبه، الفضل؛ ليبلوني أأشكر أم أكفر؟ المصائب؛ ليبلوني أأصبر أم أجزع؟ الشبهات العلمية التي ترد على قلب الإنسان؛ ليبلوه هل يثبت أو يزيغ؟ فالمسائل كلها في الحقيقة فتنة واختبار من الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا يجب على العاقل أن يكون حذرًا دائمًا.
ولست أدعوكم في قولي هذا إلى سوء الظن بالله عز وجل، ولكني أدعوكم إلى النظر في الأمور؛ ليكون تصرُّفكم على وجه سليم.
ولكن مع ذلك أقول: إنه إذا تجاوز الإنسان هذه الفتنة حصل له الثبات والاستقرار؛ لأنه يطمئن قلبه، ويرسخ في هذه الأمور، ولا يزيغ -بإذن الله- بعد ذلك، لكن قد يُفتن المرء فلينظر؛ ولهذا قال: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ تفتنون بأي شيء يكون؟
* طالب: بالخير الذي جاءه.
* الشيخ: بالخير والشر، ووجه الفتنة في هؤلاء: أن البلاء الذي أصابهم بسبب دعوة صالح إلى عبادة الله، فكفروا فعُوقِبوا، فهذه من الفتن؛ لأنهم قالوا: أنت أسبابها، وفي الحقيقة أن أسبابها هم أنفسهم، ففُتِنوا بذلك، قال: (يختبرون بالخير والشر).
(﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ مدينة ثمود، ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ أي: رجال).
المؤلف قال: (أي: رجال) والرهط -صحيح- هم الرجال، لكنهم قالوا: إن الرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة، وبعضهم قال: ما بين السبعة إلى العشرة.
فعلى هذا: ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ يصير تسعةُ تسعة؟ لا؛ ولهذا فسر المؤلف الرهط بالرجال لا بمعناه الخاص؛ لأجل أن تستقيم الإضافة؛ إذ الشيء لا يُضاف إلى نفسه إلا على تأويل.
وقال بعضهم: إنه لا حاجة إلى هذا التأويل؛ لأن الإضافة هنا بيانية؛ أي: أن (رهط) تفسير لـ(تسعة)، كأنه قال: تسعةٌ رهطٌ.
والمعنى على كل حال هو أن هذه المدينة -مدينة صالح أو مدينة ثمود- كان فيها رجال تسعة، وكانت التسعة هذه مجالًا للتفاؤل والتشاؤم؛ أحد يتشاءم من العدد تسعة، يقول: لأن تسعة جاءت بالإفساد في الأرض، ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، وأحد يتفاءل بها، الرافضة يتشاءمون بالعشرة ويتفاءلون بالتسعة، العشرة مَن؟ المبشرون بالجنة، لكن هم يخرجون علي بن أبي طالب منهم ولا أدري من يحطون بداله، لكنهم يتشاءمون بالعشرة، عدوُّهم من العدد: العشرة، وصديقهم: التسعة؛ لأنهم يقولون: هم آل البيت الذين وضع عليهم الرسول الكساء، فقال لهم شيخ الإسلام: يجب إذا كنتم تتفاءلون أو تتشاءمون بالعدد أنكم تتشاءمون؟
* طالب: بالعشرة.
* الشيخ: لا، تتشاءمون بالتسع؛ لأن هو اللي قال: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [النمل ٤٨]، أما العشرة فإن الغالب أنها خير.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: عشر ذي الحجة، وعشر رمضان، والعشرة المبشرون بالجنة، وأمثلة كثيرة ما تحضرني الآن، وأنا أقول: إن كلام شيخ الإسلام هذا للتنزُّل مع الخصم، وإلا هو رحمه الله ما يتفاءل لا بهذا ولا بهذا، العدد عدد، ما فيه أثر لشيء.
﴿كَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بأي شيء؟ بالمعاصي، يفسدون في الأرض بالمعاصي، وكلما ذكر الله تبارك وتعالى الفساد في الأرض فالمراد به المعصية؛ الشرك فما دونه، لماذا؟ لأنه لا شك أن عمل المعاصي نفسه فساد، أليس كذلك؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: ثم هو سبب للفساد؛ ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف ١٣٠]، وقال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١]، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى ٣٠].
فالمعاصي هي نفسها فساد، وهي سبب للفساد أيضًا؛ فلذلك كل ما ذكر الله سبحانه وتعالى الفساد في الأرض فالمراد به المعاصي، يفسدون في الأرض بالمعاصي، منها: قرضهم الدنانير والدراهم، كيف قرضهم؟ يقطعونها، يخربونها، يقصُّون من الدراهم والدنانير، ولكن هذا إسرائيلي.
* طالب: أين الدليل؟
* الشيخ: إسرائيلي، ما في دليل، ولا هو أيضًا أكبر المعاصي، هذا صحيح أنه غش لكن ما هو أكبر المعاصي.
على كل حال أهم شيء أنهم أنكروا الرسالة وكفروا بالخالق، هذه من أعظم المعاصي التي يفسدون بها في الأرض.
وقال: ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ يفسدون ولا يصلحون؛ يعني معناه: أن فسادهم هذا -والعياذ بالله- شامل، ما فيه صلاح أبدًا، وهذا هو الحكمة من قوله: ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾.
وفيه فائدة عظيمة: وهو أنه قد يجتمع الفلاح والفساد في آنٍ واحد، كما أن الإنسان يكون مؤمنًا ويكون فاسقًا، يكون فيه إيمان وفيه كفر، فيه فسوق وطاعة، فيه فساد وصلاح، ولّا لا؟ فالأمور؛ إما خير محض وصلاح محض، وإما شر محض وفساد محض، وإما خليط من الأمرين.
هؤلاء القوم يفسدون ولا يصلحون -والعياذ بالله- ما يصلحون بالطاعة أبدًا، وهذا دليل على أنهم ليس فيهم خير محض، ليس فيهم خير أبدًا لا قليل ولا كثير، لكن فيهم أناس خيُّرون، من؟ الذين آمنوا بصالح واتبعوه، لكن هؤلاء الرهط التسعة يفسدون ولا يصلحون، دائمًا ما همّهم إلا الفساد في الأرض بالمعاصي، وإلقاء الفتن بين الناس، ومحاولة قتل المصلحين؛ ولهذا: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ إلى آخره.
* طالب: التشاؤم هو يعتبر شركًا أصغر ولّا أكبر؟
* الشيخ: لا، أصغر، ما لم يعتقد أنه مؤثر بنفسه فيكون أكبر، وأظن ذكرنا هذه القاعدة مرات: كل من أثبت سببًا؟
* الطالب: غير شرعي.
* الشيخ: غير شرعي.
* الطالب: أو قدري.
* الشيخ: أو قدري؛ يعني ما يقتضيه الشرع ولا القدر فهو مشرك، لكنه شرك أصغر ما يؤدي إلى الأكبر، فأما ما اقتضاه الشرع أو اقتضاه القدر، ما اقتضاه الشرع بأن يُعلم من طريق الشرع أن هذا سبب لهذا، كقراءة الفاتحة على مريض سبب للشفاء، شرعًا ولّا قدرًا؟
* الطالب: شرعًا.
* الشيخ: شرعًا؛ يعني: جاء بها الشرع، التجارب التي تجرى على بعض النباتات وبعض الأدوية فيُعرف تأثيرها، هذا سبب؟
* الطالب: قدري.
* الشيخ: قدري، جاء به القدر.
الأشياء اللي ما دل عليها الشرع ولا القدر هذه ما يجوز أنك تقول: إنها أسباب، مثل إنسان علَّق خيط برقبته وقال: هذا لدفع العين، اللي يعلق الخيط خلاص ما عاد تجيه العين، هذا ما هو سبب، ليس بصحيح، أين الشرع الذي دل عليه؟ وأين القدر الذي دل عليه؟ وكم من إنسان يُصاب بالعين وعليه هذا الخيط.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ما يصير.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي، لا، يعتقد أنه سبب للنفع، أن النافع الله لكن هذا من أسباب النفع، إي، لكن لو اعتقد أنه ينفع بنفسه وليس سببًا محضًا صار متخذًا مع الله إلهًا.
* طالب: يا شيخ (...) أكبر ولا أصغر؟
* الشيخ: لا، هذا ما هو داخل في مسألة الأسباب هذه.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، هذا من جهة أخرى غير.. نحن الآن نتكلم عن الأسباب، من جعل سببًا من المسبَّبات المعيَّنة بدون شرع ولا قدر فهو مشرك، وأما مسألة التشريع فالتشريع حكم بغير ما أنزل الله، أي إنسان يشرِّع ما لم يشرعه الله ويعتقد أنه ما شرعه الله وأنه أصلح مما شرع الله، فهو كافر كفرًا مخرجًا من الملة، سواءً حكم به أم لم يحكم، أم خلا الناس يحكمون به.
ولهذا يجب أن نفرِّق بين من لم يحكم بما أنزل الله تشريعًا، وبين من لم يحكم بما أنزل الله فعلًا، اللي يحكم بغير ما أنزل الله فعلًا لا تشريعًا هذا قد يكفر وقد يفسق وقد يظلم، والذي يحكم بغير ما أنزل الله تشريعًا، بمعنى: أن يجعله هو الشرع شرع مبدَّل بدل شرع منزَّل، هو يرى أن هذا الشرع المبدَّل أصلح للعالم من الشرع المنزَّل، فهذا كافر، ولا ينقسم فعله إلى ظلم وفسق وكفر، بل هو كفر محض، فهمتم؟
فالحكَّام الآن الذين يقنِّنون للناس قوانين يقولون: يجب تمشون عليها؛ لأنها أصلح لكم مما سبق، هؤلاء كفار حتى وإن لم تنزل بهم نازلة واحدة من هذه القوانين فيحكمون بها فهم كفار، أو ما فهمتم؟
يعني: إنسان مثلًا رئيس دولة شرع نظامًا يعرف أن هذا النظام مخالف للشرع لكن يعتقد أنه أفضل من الشرع وأصلح للخلق، هو ما حكم به ولكن سنَّه وخلا للناس يحكمون به، نقول: هذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة.
* طالب: يحل الخروج عليه.
* الشيخ: يجب الخروج عليه، إلا إذا كان قد يكون متأولً بعد، قد يقول: لا، هذا ما يخالف الشرع؛ لأن مثلًا عندنا بعض العلماء -الله يهدينا وإياهم- يفتحون للحكَّام أبوابًا، حتى إنه مما يموهون عليهم يقولون: مسائل الدنيا ما للشرع فيها دخل؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ»[[أخرجه مسلم (٢٣٦٣ / ١٤١) من حديث عائشة وأنس بن مالك.]] في مسألة التلقيح، فيموهون على الحكَّام، يقولون مثلًا: تجوز البنوك؛ لأن هذه من النظام الاقتصادي الحديث، ما للشرع فيه دخل، تجوز صناديق هذه التأمينات ولا فيها شيء؛ لأن هذه من الأمور الاقتصادية التي يرجع فيها إلى ما يقتضيه العصر، ما للشرع فيها (...).
غالب الحكَّام قد يجهلون هذا الأمر، فيظنون أن هذا صحيح فيلتبس عليهم، لكن إذا علمنا وفهَّمناهم وبيَّنا لهم الحق وقلنا: «أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ» فيما يتعلق بالعمل والصناعة، الصنعة يعرف كيف يصنع القدر لكن قد لا يعرفه الرسول ﷺ، الحرَّاث يعرف كيف يبذر ولكن الرسول قد لا يعلم ذلك، لكن أحكام شؤون دنيانا من الأعلم بها؟
* طالب: الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: إي، الشرع، ففرق بين الأفعال وبين الأحكام، أنا الآن مثلًا أعرف أن هذا الشيء محرَّم من الصناعة أو من الزراعة أو ما أشبه ذلك، لكن هل أعرف كيف أصنعه؟ أعرف أن صناعة السيارات أنها من الأمور الطيبة المطلوبة لما فيها من المصلحة، لكن هل أعرف كيف أصنع سيارة؟
أقول للكافر المشرك الملحد الشيوعي الخبيث: أنت أعلم بشؤون دنياك، صحيح ولَّا لا؟ لكن ما هو بأعلم مني بحكم هذا الشيء، واضح؟
فقول الرسول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ»؛ يعني: أنتم أعلم هل هذا التقليح ينفع أو لا ينفع؛ لأنكم مجرِّبون وفاهمون، لكن أنا أعطيكم حكمًا شرعيًّا بأن كل ما كان صالحًا للخلق وفيه مصلحة للخلق فهو من الأمور المطلوبة شرعًا؛ لأن أصل الشرائع ما نزلت إلا لإصلاح الخلق.
* طالب: ما ورد عن النبي ﷺ في مسائل الطب، ويش (...)؛ لأنا لو قلنا: النبي ﷺ ليس طبيبًا؟
* الشيخ: لا، قلنا: لا، لكنه بالوحي يدرك هذا الشيء؛ لأنه هو إما أن يكون أدركه بالتجارب، فإذا أدركه بالتجارب وأخبر به علم، وإن لم يكن أدركه بالوحي، فمثلًا: ذكر أن الشفاء في ثلاث؛ العسل معروف بالوحي: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل ٦٩]، الكي والحجامة يحتمل عندي أنا، وعند غيري أيضًا يحتمل أنه تلقى ذلك من الوحي، ونحن لا نعلم بهذا، يحتمل أنه علمه من التجارب وثبت عنده.
ومع ذلك أيضًا نقول: ما دام الرسول ﷺ أثبته، فإنا نثبته؛ لأنه ثبت بقول الرسول، وكذلك التجارب تشهد له.
* طالب: إذن الأصل أن نتلقى عنه ولا نقول: إن هذا ما هو من جانب (...) إلا ما ثبت في مثل التلقيح.
* الشيخ: لا، مثل التلقيح وغيره، (...) مثلًا صناعة الأبواب والبنايات والأشياء هذه لا يعلمها الرسول عليه الصلاة والسلام، إن كان قد مارسها؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام لو كان عنده في مكة نخل ومارس هذا الشيء أو مارسه (...) به، ما يدري عنه الرسول.
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما يدري عنه؛ لأنه أتى إلى المدينة أول ما أتى قال: والله ما أظن هذا التلقيح ينفع شيئًا، حتى ما قال: لا تلقِّحون، لكن الصحابة لتعبهم من التلقيح لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام فرحوا وقالوا: إذن ما نلقِّح، اتركوا ها التلقيح.
* طالب: (...) التلقيح هذا هل فيه مثال آخر (...)؟
* الشيخ: ما نعرف، ولكن نحن نعرف الآن أن قول الرسول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ» في الأمور التي تحصل بالممارسة والرسول ما علم عنها.
* الطالب: طيب، (...) يحصل بالممارسة؟
* الشيخ: يحصل بالممارسة، والرسول أخبر بأشياء تلقاها من الوحي، وأشياء يحتمل من الوحي أو من التجارب وأخبر بها.
* الطالب: إذن الأشياء التي تثبت في الطب بالممارسة ما كان (...) عنها؟
* الشيخ: (...)؟
* الطالب: يعني قد يكون النبي ﷺ..
* الشيخ: قد لا يكون علم بها وهي الآن نافعة.
عندنا مثلًا إبر البنسلين ما كان الرسول يعرفها.
* الطالب: لا، أنا أقصد (...) ذكرت، الأمور الطبية التي (...)، يمكن بعضها بالممارسة مثل ما ذكرت.
* الشيخ: ما أخبر به الرسول قد يكون بالممارسة، وقد يكون بغير الممارسة، مثلًا: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٤٧٨)، ومسلم (٢٠٤٩ / ١٥٧) من حديث سعيد بن زيد.]]، هل هذا وحي أو لا؟
* الطالب: الأصل أنه وحي.
* الشيخ: هذه بالذات قد تكون وحيًا؛ لأنها خفية، لكن مسألة الحجامة ومسألة الكي هذا أمر معلوم معروف عند الناس، فقد يغلِّب الإنسان أن الرسول علم ذلك بالتجارب، وقد يقول الإنسان: هذا وحي من الله عز وجل أوحاه إليه.
* طالب: المعلوم بالتجارب قطعي النفع؟
* الشيخ: إذا حكم به الرسول، مع أن الرسول -لاحظ- يقول: «إِنْ كَانَ الشِّفَاءُ فِي شَيْءٍ فَفِي ثَلَاثٍ»[[أخرجه البخاري (٥٦٨٠) بلفظ: «الشفاء في ثلاثة»، وذكر الحديث من حديث ابن عباس.]]، ما جزم؛ لأنه قد لا يشفى الإنسان بهذه الثلاث.
* طالب: إذن كلامه الأول ما هو عن تجارب (...)؟
* الشيخ: ولهذا أخلف الأمر؛ لأن ما عنده وحي ولا تجارب عليه الصلاة والسلام.
* الطالب: إذن بس قاله رأي.
* الشيخ: هذا رأي منه، هو قال: «أُرَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا»، لكن مثل ما قلت لك: أن الصحابة لما سمعوا هذا الكلام فرحوا به، قالوا: إذن كُفِينا المؤونة، ما دام هذا ظن النبي ﷺ وتركوه، وفسد النخل.
* طالب: إي بس قد يشكل على بعض الناس، يقول: كما أنه ليس مؤبرًا فليس أيضًا طبيبًا (...) الأخبار التي وردت؟
* الشيخ: لا، ما هو بصحيح، الرسول ما جزم، ما قال: ليس فيه شيء، أو جزم ما يفيد، ثم هذا أمر -الحمد لله- معلوم لكل مؤمن ويستطيع أن يدافع لمن أراد شبهة في هذا الأمر، فيقول: إن الرسول ما جزم.
والشيء الثاني: لو جزم النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر، فإنما جزم به على سبيل الظن، والإنسان قد يجزم بالشيء على سبيل الظن، وقد أقر النبي عليه الصلاة والسلام من جزم، بل من أقسم على سبيل الظن.
* طالب: يا شيخ (...) الأطباء العصريين يعملون على (...) مثلًا يقولون: هل يرد الحديث بسبب ما ظهر من أنواع (...)؟
* الشيخ: نقول: هذا ما هو بصحيح؛ أولًا: أنهم هم الآن يؤمنون (...)، لكن تختلف الوسيلة الآن، (...) والكي بالكهرباء وما أشبه ذلك، هذه معروفة الآن ومستعملة ويؤمنون بها، وكما قال الرسول: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[[أخرجه مسلم (١٩١٧ / ١٦٧) من حديث عقبة بن عامر.]]، ما هو بالرمي بالقوة الآن، الرمي بالآلات الموجودة، والكي أيضًا بالآلات الموجودة، ليس بلازم أن يكون، وهم أيضًا الآن في بعض الأشياء يلجؤون إلى الطب العربي، أنا أذكر أن (...) دائمًا يقول بأن المريض يروح يتطبب طبًا عربيًّا، ويُشفى بإذن الله.
* الطالب: يعني ما تأثر بالمسلمين لكن لو جاء مريضًا (...) يعني..؟
* الشيخ: في الحقيقة قد ينكرون الوسيلة أو الآلة التي حصل بها الكي أو فعل بعض الذين يكوون بالحديد.
أنا أذكر مثلًا بعض النساء يُؤتى بالطفل إليها (...) في رأسه ثم (...) كية، وتجعل في ظهره كل خرزة من الظهر عليها خمسة.
* طالب: واحدة واحدة.
* الشيخ: إي، فهم الأطباء يعني يدرون بهذا الشيء وينكرونه؛ لئلا يحصل مثل هذه الحالات (...)، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر هذه الأشياء ما هو بيقول: حتمًا لا بد منها، قد يكون يقوم مقامها ما هو أولى منها.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي، بس ما هو معنى (...) صحيح؛ لأن هو نفسه فعل كوى سعد بن معاذ رضي الله عنه[[أخرجه مسلم (٢٢٠٨ / ٧٥) من جديث جابر.]].
* طالب: (...).
* الشيخ: يقدمون (...) يوم الأحد.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، يُقرأ (...). إذا كان لغير عذر يُعاقب الإنسان.
* الطالب: (...).
* الشيخ: محمد إسماعيل عنده حديث (...).
* الطالب: شفتها (...)، بس ما لقيت كلام (...).
* الشيخ: (...) هذا، أنت (...).
* الطالب: ما يخالف، أجيبه.
* الشيخ: (...).
* الطالب: بس، يعني (...).
* الشيخ: إي، إذا ما لقيت ويش (...)، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
* الطالب: لقيت ابن حبان والحاكم، الأسانيد.
* الشيخ: إي.
* الطالب: بس، فتشت على كلام العلماء حوله ما لقيت إلا موافقة الذهبي للحاكم.
* الشيخ: المهم بارك الله فيك، اكتب (...) ما نبغي أكثر من هذا.
إذا أدرك الإمام بعد قراءة الفاتحة فهل تجب عليه (...)؟
* طالب: (...).
* الشيخ: كلام شيخ الإسلام؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: (...) المهذَّب شرح المهذَّب؛ لأن الشافعية يرون وجوب القراءة مطلقًا.
* الطالب: بحثت.
* الشيخ: شرح المهذَّب بحثت؟
* الطالب: لا، بحثت في كتب الشافعية.
* الشيخ: لا، هو الكتاب الجامع لهم مثل المغني عندنا شرح المهذب.
* * *
قال: ﴿كَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ ﴿قَالُوا﴾ أي: هؤلاء التسعة بعضهم لبعض، ﴿تَقَاسَمُوا﴾ أي: احلفوا ﴿بِاللَّهِ﴾ يعني: طلب بعضهم من بعض أن يتعاهدوا على هذا الأمر؛ يتحالفوا على أن يبيّتوا صالحًا وأهله، ومعنى البيات: إنزال العقوبة بهم ليلًا.
فهنا حلفوا -والعياذ بالله- هذا الحلف الفاجر على أن يبيّتوا صالحًا وأهله؛ ولهذا قال: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ [النمل ٤٩]، اللام في قوله: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ واقعة في جواب القسم، والنون للتوكيد، فهم أكدوا هذا الفعل باليمين واللام والنون.
يقول المؤلف: (بالنون والتاء وضم التاء الثانية)، كذا عندكم؟
بالنون (...) ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾، وبالتاء الثانية إذا جعلناها بالتاء لزم ضم التاء الثانية ﴿لَتُبَيِّتُنَّهُ﴾ ، وأما ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ فإنها تبقى مفتوحة.
﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي: من آمن به؛ أي: نقتلهم ليلًا، هذا تفسير البيات، والمراد بالأهل: أتباعه، كما قال المؤلف، ولكن قد ينازع في هذا، ويقال: إن المراد به أهله الخاصون؛ يعني: أهل بيته؛ لأنهم هم الذين يسكنون في الغالب معه في البيت، فإن الغالب أن الإنسان في الليل لا يكون معه في بيته إلا أهله الخاصون به.
ثم بعد ذلك أن يبيّته، ﴿لَنَقُولَنَّ﴾ (بالنون والتاء وضم اللام الثانية)، ضم اللام الثانية متى؟ إذا صارت (...) ﴿لَتَقُولُنَّ﴾ ، أما بالنون فهي بفتح اللام ﴿لَنَقُولَنَّ﴾؛ يعني: ثم بعد أن نبيّته ونقتله إذا قام وليه للأخذ بثأره نقول له.
(﴿لِوَلِيِّهِ﴾ أي: ولي دمه) ومن ولي الدم؟ ولي الدم عندنا في الخلافة الإسلامية هم الورثة بفرضٍ أو تعصيب، وقول البعض: بل العصبة هم أولياء الدم؛ لأنهم الذين يؤدون العقل عنه، وأما ذوي الفرض فليس من أولياء الدم، والصواب: العموم؛ أن أولياء الدم هم الورثة بفرضٍ أو تعصيب، حتى الزوجة والأم هن من أوليائه.
(﴿مَا شَهِدْنَا﴾ حضرنا، ﴿مُهْلَكَ أَهْلِهِ﴾ بضم الميم وفتحها) ﴿مُهْلَكَ﴾ و﴿مَهْلَكَ﴾ ، ولم يتعرض المؤلف للقراءة الثالثة وهي: ﴿مَهْلِكَ﴾، فالقراءات فيها ثلاث: فتح الميم وكسر اللام، فتح الميم واللام ﴿مَهْلَكَ﴾ ، ضم الميم وفتح اللام، وهاتان الأخيرتان هما اللتان ذكرهما المؤلف: ﴿مُهْلَكَ أَهْلِهِ﴾ ، ﴿مَهْلَكَ أَهْلِهِ﴾ يقول: (أي: إهلاكهم أو هلاكهم) على القراءتين.
﴿مُهْلَكَ﴾ أي: إهلاك؛ لأن ﴿مُهْلَكَ﴾ من (أَهْلَكَ) الرباعي، و﴿مَهْلَكَ﴾ من (هَلَكَ) الثلاثي؛ فلذلك نقول: إذا كان الفعل ثلاثيًّا فإن المصدر الميمي منه على وزن (مَفْعَل)؛ (هَلَكَ مَهْلَك)، (قَامَ مَقَام).
وإذا كان رباعيًّا فإن المصدر الميمي منه على وزن اسم المفعول، فتقول: (مُهْلَك) من (أَهْلَك)، وتقول: (مُقَام) من (أَقَام).
قام فينا مقام فلان، مثل ما قال أبو حيان في ابن تيمية:
؎قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةٍ فِي نَصْرِ شِِرْعَتِنَا ∗∗∗ مَقَــامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إِذْ عَصَــتْمُضَـــرُ
قام مَقَام، لكن عندما تقول: أقام في هذا المكان مُقام فلان، بضم الميم، ما تقول: مَقام، مفهوم؟
وهذه قاعدة معروفة في النحو: أنه المصدر الميمي إذا كان من رباعي فهو على وزن اسم المفعول، وإذا كان من ثلاثي فهو على وزن (مَفْعَل) أو (مَفْعِل) مثل ﴿مَهْلِكَ﴾.
﴿مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ (فلا ندري من قتلهم)، وهذا الإنكار صحيح ولَّا كذب؟
* طلبة: كذب.
* الشيخ: ما داموا هم الذين قتلوه، فقولهم: ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ هذا كذب، لكن فيه تورية؛ لأنهم يقولون: ما شهدنا بل فعلنا، والشاهد لم يفعل؛ ولهذا قالوا: ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾.
وجملة ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ هل هي من جملة قولهم الذين يدافعون به عن أنفسهم أو هو تقرير لقولهم: ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ يعني: وأنهم لم يقولوه للدفاع عن أنفسهم؟ يحتمل الأمرين.
﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ هل ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ من جملة ما يقولونه للولي؛ ليؤكدوا النفي؟ ما شهدنا وإننا لم نكذب عليكم، إننا لصادقون أنا ما شهدنا، هذا وجه. أو أن المعنى: ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ واطمئنوا أيها الإخوة، فإننا -يقول بعضهم لبعض- فإننا لصادقون بأننا لم نشهد؟
يحتمل هذا وهذا، إنما المفسّرون ذكروا احتمالين: أحدهما: أن يقولوه في جملة دفاعهم عن أنفسهم لولي صالح، وعلى هذا فتكون الجملة ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ تقريرًا لقولهم: ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ (...)، ﴿مَا شَهِدْنَا﴾، ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فلم نخبركم بالكذب.
أو أن المعنى: ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ ونحن إذا قلنا هذا فإننا صادقون؛ لأننا ما شهدنا مهلك، ولكننا أهلكنا بأنفسنا، لسنا شهودًا بل فاعلون.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: بلى، لكن الحقيقة أن الفاعل غير الشاهد، وأنه (...) تورية (...) مثلًا، تورية ولَّا معلوم أن من فعل فقد شهد، بل أبلغ.
* طالب: ومن قتل النبي فالذين آمنوا (...) يكفي عليهم أنهم (...) لما هو أعظم؟
* الشيخ: لا، هم يهونون أمرهم بعضهم على بعض حتى لا يكون في أنفسهم شيء، ولّا هو معلوم أن الذي يقتل يشهد، لكن لتهوين الأمر على بعضهم يوطّن بعضهم بعضًا.
والحاصل: أن هؤلاء -العياذ بالله- أرادوا هذا الفعل المنكر، وهو مكر؛ لأنه إتيان لصالح وأهله من حيث لا يشعرون، فإن الليل موضع السكون والهدوء، فإذا أحد اعتدى على أحد صار ذلك غدرًا ومكرًا.
ولهذا حتى في حرب الكفار اختلف العلماء: هل يجوز تبييت الكفار أو لا يجوز؟ فمن العلماء من منع التبييت قال: ما يمكن أن يقتل الكفار وهم غارون نائمون، ومنهم من أجاز ذلك، والمسألة تحتاج إلى تحرير بحث في هذا الشيء.
والحاصل أنا نقول: إن هذا من الغدر والمكر؛ أن يأتي هؤلاء إلى صالحٍ وأهله في الليل فيبيتوهم؛ ولهذا يقول الله عز وجل: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ [النمل ٥٠] ومكروا في ذلك مكرًا، ﴿مَكْرًا﴾ منكّر، وأحيانًا يكون من فائدة التنكير: التعظيم؛ أي: مكروا مكرًا عظيمًا.
والمكر فسّره بعضهم بأنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم، فيحصل بأسباب خفية إلى الإيقاع بخصمه؛ لأن الأسباب الظاهرة ما تسمى مكرًا، وإنما هي أسباب خفية.
قال الله عز وجل في مقابلة ذلك: ﴿وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ أي: أعظم من مكرهم، مكرًا أعظم من مكرهم.
قال المؤلف: (أي: جازيناهم بتعجيل عقوبتهم) ففسّر المكر بالمجازاة، والصحيح: أن المكر أشد من المجازاة؛ لأنها مجازاة من حيث مأمن المجازي، لكن أراد المؤلف -رحمه الله- أن يدفع بذلك صفة المكر عن الله سبحانه وتعالى ففسّره بالمجازاة.
والصواب عند أهل السنة والجماعة: أن المكر لا يجوز أن يحرّف إلى معنى المجازاة مطلقًا، وأنه لا يمتنع وصف الله تبارك وتعالى به في محله، فالمكر في محله يعتبر مدحًا ولَّا لا؟ يعتبر مدحًا، وفي غير محله يعتبر ذمًا، فالمكر بهؤلاء الماكرين مدح، يعتبر مدحًا عظيمًا.
ولهذا الصحيح في هذه المسألة الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى يوصف بالمكر لا على الإطلاق، فلا يقال: إن الله ماكر؛ لأنه على الإطلاق يتضمن صفة الذم، وإنما يقال: ماكرٌ بمن يمكر به أو بمن يستحق المكر، وحينئذٍ يكون صفة مدح.
والصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: صفاتٌ حسنى بكل حال، فهذه ثابتةٌ لله على وجه الإطلاق، كالسمع، والبصر، والعلم، والحياة، والقدرة، وما أشبه ذلك.
والثاني: صفات نقصٍ على كل حال أو صفات سوءٍ على كل حال، فهذه يُنزّه الله عنها على كل حال، مثل: الظلم، واللغوب، والجهل، والعمى، والموت، والمرض، والجوع، والعطش، وما أشبه ذلك، هذه ينزّه الله عنها على كل حال، والولادة، والوزير، والشريك، وما إلى ذلك، هذه ينزّه الله عنها في كل حال.
والثالث: صفاتٌ ذات وجهين؛ تكون مدحًا في حال، وتكون ذمًا في حال، فهذه لا يوصف الله بها بإطلاق، ولا تنفى عنه على الإطلاق، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء، والسخرية، وأمثالها، هذه لا يوصف الله بها على كل حال، ولا تنفى عنه في كل حال، بل يوصف بها حيث تكون كمالًا، وتنفى عنه حيث تكون نقصًا.
قال الله تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة ٧٩]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ﴾ [البقرة ١٥]، وقال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء ١٤٢]، وقال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ [الأنفال ٣٠].
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني: هم لا يشعرون بعاقبة مكرهم، وهل يتم لهم ما أرادوا أم لا؟ ولا يشعرون كيف يمكر الله بهم، فهم لا يشعرون لا بهذا ولا بهذا لا بنتيجة مكرهم ولا بمكر الله بهم؛ لأنهم -والعياذ بالله- متمادون في الضلالة، والغالب أن الذي يتمادى في الضلالة يعمى ولا يبصر ويسمى ضلالة؛ فلهذا قال: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، والجملة في قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أيش محلها من الإعراب؟
* طالب: حال.
* الشيخ: حال منين؟
* الطالب: من الواو.
* الشيخ: من الواو في (مكروا)، أو من الضمير المحذوف في قوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾ يعني: بهم وهم لا يشعرون؟
* الطالب: (...) تدل على مكر مضاد (...) الخفي في الليل؟
* الشيخ: لا، هو بالأسباب الخفية، وقد يشعر به.
قال: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ ﴿فَانْظُرْ﴾ الخطاب للنبي ﷺ أولًا، أو لمن يصح خطابه؛ يعني: فانظر أيها المخاطب، أو فانظر يا محمد، وهو رأس هذه الأمة وقائدها وإمامها، فيكون خطابه خطابًا للأمة أيضًا.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ (كيف) هذه اسم استفهام معلِّقةٌ لـ﴿انْظُرْ﴾ عن العمل؛ ولهذا نقول: إن محلها النصب خبر (كان) مقدمًا، وجملة (كان) واسمها وخبرها في محل نصبٍ مفعول لـ﴿انْظُرْ﴾.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ العاقبة: ما يعقب الشيء؛ يعني: انظر ماذا يعقب مكرهم من الأمر.
﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ أهلكناهم، عندكم بفتح الهمزة ولَّا بالكسر؟
فيها قراءتان: بفتح الهمزة: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾، وكسرها: ﴿إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ .
أما كسرها فهي كقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [القمر ٣٠، ٣١]، فعلى قراءة الكسر تكون مستأنفة لبيان هذه العاقبة، ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾.
فأما الذهن الآن يتشوف إلى هذه العاقبة، وجيء بالجملة الاستئنافية بيانًا لها: إنا دمرناهم وقومهم أجمعين.
أما على قراءة الفتح فهي بيان للعاقبة؛ بدلٌ منه، ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ أننا ﴿دَمَّرْنَاهُمْ﴾ يعني: هي أو أنها على خبر مبتدأ محذوف التقدير: هي ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿دَمَّرْنَاهُمْ﴾ يقول المؤلف: (أهلكناهم) من التدمير وهو أبلغ من الإهلاك؛ لأن التدمير يوحي بغلظ هذا الإهلاك وعظمته، وهو كذلك؛ فإن قوم صالح أخذوا -والعياذ بالله- بأمرين: بصيحة، ورجفة، صيح بهم وارتجفت بهم الأرض حتى انهدم عليهم بناؤهم، وتقطعت قلوبهم في أجوافهم -نسأل الله العافية- قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر ٣١] مثل الهشيم (...)، والعياذ بالله.
فهذه (...) العظيم نتيجة لهذا العصيان والتمرد والمكر الذي أرادوه بالنبي ﷺ.
وقوله: ﴿دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ﴾ مع أن القوم لم يشاركوا في هذه الجريمة، ولكن هذا شؤم المعاصي: أن الله سبحانه وتعالى إذا عاقب بها أحدًا شمل الجميع، مع أن قومهم مستحقون للعقوبة؛ لأنهم كانوا كفارًا مكذّبين، لكن تعجيل العقوبة مقرونًا بهذا السبب، وهو مكر هؤلاء بصالح، هذا قد لا يكون قومهم مستحقين له، ولكنهم شملهم -والعياذ بالله- عقوبة هؤلاء، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في آيات أخرى مفصّلة أن نبيهم صالحًا قال لهم: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ [هود ٦٥]، فتمتعوا وبقوا ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك أخذهم الله تعالى بهذه الصيحة والرجفة.
وقوله: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ أيش محله من الإعراب؟
* طالب: توكيد.
* الشيخ: توكيد للضمير لقوله: ﴿وَقَوْمَهُمْ﴾، لا، ما هو للضمير، لقوله: ﴿وَقَوْمَهُمْ﴾ للقوم؛ يعني: ما بقي منهم أحد إلا من كان مؤمنًا بصالحٍ عليه الصلاة والسلام.
وقول المؤلف: (بصيحة جبريل أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم)
أما قوله: (بصيحة جبريل) فهذا قد يكون مقبولًا؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [القمر ٣١]، وهذه الصيحة؛ إما من الله، أو من جبريل، أو من غيره من الملائكة، المهم أنهم أهلكوا بصيحة.
وأما قوله: (أو برمي الملائكة بحجارة) فهذا لا أعلم له وجهًا، ولكنه قيل: إنهم لما جاؤوا إلى صالح أمر الله تعالى الملائكة أن تحرسه، فلما جاؤوا فإذا الملائكة تحرسه، فجعلت الملائكة ترميهم بالحجارة، وهذا لا أصل له، إذا لم يكن هذا عن معصوم فإنه غير مقبول، وهو أيضًا غير لائق أن تكون الملائكة يرمون بالحجارة كأنهم من البشر.
ولكنا نقول: الذي دمّر الله به هؤلاء وقومهم هو الصيحة والرجفة، كما جاء ذلك في القرآن، ولا نتعدى القرآن في هذا الأمر؛ لأن الله تعالى يقول في سورة إبراهيم: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩]، فما دام هذه الأمور من معلومات الله سبحانه وتعالى فإننا لا نتجاوز ما قال الله فيها إلا ما ورد عن النبي ﷺ بسند مقبول.
* طالب: وصلوا إلى بيته؟
* الشيخ: على رأي المؤلف وصلوا إلى بيته.
* الطالب: فانطبق عليهم الغار.
* الشيخ: ذكر بعض العلماء: أنهم لما خرجوا أصيبوا بمطر، وأنهم قالوا: لنلجئ إلى غار عن هذا المطر، فلما لجؤوا إليه انطبق عليهم هذا الغار وهلكوا، وأما قومهم جعلوا يطلبونهم ويدورون عليهم فلم يجدوهم، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فخرج عليهم صالح فقال لهم: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ [هود ٦٥]، وقالوا: إن هذا هو الذي (...)؛ لأن هؤلاء القوم دخلوا إلى الغار يريدون الأمن، ولكن كان في هذا الغار حتفهم.
وهذه القصة أيضًا على هذا الوجه ما رأيتها ثابتة بسند عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا الأولى أن يقال: إن الله تعالى مكر بهم فدمّرهم وقومهم، وليس من المهم أن نعرف كيف دُمّروا، المهم أن نعرف أنهم دُمِّروا عن آخرهم بسبب ما أرادوه بالنبي ﷺ وبسبب كفرهم.
* طالب: أظن هذا معناه أنهم ما تواعدوا قوم صالح: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ (...) مثلًا بيوتهم والعذاب (...)؟
* الشيخ: ما يلزم؛ لأن الله ما ذكر أنه سبحانه وتعالى دمّرهم في تلك الليلة.
* الطالب: (...).
* الشيخ: أن يحال بينهم وبين هذا، ثم أنهم هم قُذف في قلوبهم الرعب، هذا أيضًا ما ندري، أو أنهم جاؤوا فلم يتوصلوا إلى بيته؛ لأنه مغلق محكم، المهم هذه (...)، ما حصل أنهم نفذوا ما أرادوا، ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
قال الله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل ٥٢] أي: خالية، ونصبه على الحال، والعامل فيها معنى الإشارة.
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ﴾ المشار إليه معلوم ولّا لا؟ معلوم محدود؛ لأن بيوت ثمود موجودة الآن مشاهدة، لكنها كما قال الله تعالى: ﴿خَاوِيَةً﴾ بمعنى: أنها خالية، على رأي المؤلف، وقيل: خاوية متهدمة، كما قال الله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة ٢٥٩] أي: متهدمة.
وهذا المعنى أبلغ؛ لأن تفسير الخاوي بالمتهدم الذي ليس بقائم أولى وأشد، وأما البيوت قد تخلو مع العمار، ولكن إذا خويت بمعنى دمرت وانهدمت فهي خالية، فإذن يلزم من دمارها خلوها، ولا يلزم من خلوها دمارها، والواقع أنها دمرت؛ لأن هذه الرجفة العظيمة لا بد أن تدمرها.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي، لكن ما بقيت على صفتها بالأول، بل هي مدمرة.
ثم إن المؤلف قال: نصبه على الحال نصب الخاوية على الحال، منين؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، حال من البيوت؛ بيوتهم حال كونها خاوية، لكن أين العامل في الحال؛ لأن العامل لا بد أن يكون إما فعلًا أو اسمًا بمعنى الفعل؟ قال المؤلف: (العامل فيها معنى الإشارة)؛ لأن (تلك) بمعنى أشير، فاسم الإشارة متضمنٌ لحرف معنوي وفعل؛ أي: أشير إلى بيوتهم خاويةً.
قال: (﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾ بظلمهم) الباء للسببية، و(ما) مصدرية، والمؤلف رحمه الله حوّل الفعل إلى مصدر، إشارة إلى أن (ما) مصدرية؛ أي: تحوّل ما بعدها إلى مصدر، أي: بسبب ظلمهم لا أننا ظالمون لهم، بل هم الذين ظلموا أنفسهم.
ثم فسّر المؤلف هذا الظلم بالكفر فقال: (أي كفرهم)؛ لأن كل كفرٍ ظلم، وليس كل ظلمٍ كفرًا؛ ولهذا قال العلماء: إننا نحمد الله سبحانه وتعالى أن قال: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة ٢٥٤] ولم يقل: والظالمون هم الكافرون، لو قال: والظالمون هم الكافرون كان كل ظالمٍ فهو كافر، ولكن قال: الكافرون هم الظالمون؛ فإن كل كافر فهو ظالم، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان ١٣].
وتفسير المؤلف الظلم هنا بالكفر هل عليه دليل ولَّا لا؟ نعم، عليه دليل؛ لأن فعلهم وتكذيبهم لرسولهم كفرٌ، فهنا تفسير الظلم بما هو أخص له دليل.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل ٥٢] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المشار إليه كل القصة على الصحيح، وليس المشار إليه مجردٌ للذات، بل إنه كل القصة.
(﴿لَآيَةً﴾ لعبرة، ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قدرتنا فيتعظون).
﴿يَعْلَمُونَ﴾ تخصيص هذا بالقدرة غير مسلَّم؛ إذ المراد ما هو أعم من علم قدرة الله سبحانه وتعالى، بل يعلمون قدرة الله وحكمته، وما جرى للأمم كل هذا داخل؛ لأنه لا يدري بماذا يعتبر؟ لكن الذي يدري هو الذي يعتبر.
وفي هذا من الحث على معرفة أخبار الأمم والعلم بها ما هو ظاهر؛ لأن بها يتعظ المرء.
وكذلك أيضًا الأخبار الواقعة في زمن الإنسان ينبغي أن يتخذ من حوادثها عظة وعبرة، وسيأتي إن شاء الله ذكر ما في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ من الفوائد.
* طالب: قال: (...) المراد بقوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (...) يعلمون وجوه دلالة الدلائل؟
* الشيخ: ما فيها فائدة، لكن قد يحصل هذا، لكن ما هو محصور (...).
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا؛ لأن يعلمون الدلائل (...)، على كل حال هذا من جملة العلم.
(﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بصالح وهم أربعة آلاف، ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الشرك).
﴿أَنْجَيْنَا﴾ أي: عصمنا، الإنجاء بمعنى العصمة، أنجيناهم من أين؟ من هذا التدمير الذي ذكر الله والعقوبة، ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
وقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قول المؤلف: (بصالح) فيه نظر، الصواب: آمنوا بالله؛ لأجل أن يشمل صالحًا ومن معه، كما قال الله تعالى في سورة هود: ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾ [هود ٦٦]، فالصواب: أن الإيمان بالله، بل نقول: إن صالحًا عليه الصلاة والسلام يجب عليه أن يؤمن بنفسه أنه رسول؛ ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن ويشهد لنفسه بالرسالة يقول في صلاته: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٢٠٢)، ومسلم (٤٠٢ / ٥٥) من حديث عبد الله بن مسعود.]] وهو يعني نفسه، وأحيانًا إذا وقع الأمر على وفق ما قال يقول: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»[[أخرجه البخاري (٢٤٨٤) من حديث سلمة بن الأكوع.]].
فالمهم أن الرسول نفسه ملزمٌ بأن يشهد لنفسه بالرسالة بأنه رسول الله، يؤمن بما أوحي إليه، وكذلك غيره من باب أولى.
وقول المؤلف: (إنهم أربعة آلاف)، لكن أين الديوان الذي حصرهم؟ لا دليل عليه، والغالب أن المؤمنين أقل من ذلك في هذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لَهُ سَوَادٌ فَظَنَّ أَنَّهَا أُمَّتَهُ، فَقَالُوا: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٧٥٢)، ومسلم (٢٢٠ / ٣٧٤) من حديث ابن عباس.]]، المهم أن تقديرهم بأربعة آلاف، أو بأربعين نفرًا، أو بأربعة ملايين، أو بأقل وأكثر، هذا يحتاج إلى دليل.
وهو أيضًا من فضول العلم الذي لا ينبغي للإنسان يُتعب نفسه في ذلك؛ لأنه ما فيه فائدة، اللي فيه فائدة لا بد أن يقصّه الله علينا.
ونظير هذا البحث مثلًا: كلب أصحاب الكهف أيش لونه؟ وأيش اسمه؟ وأيش كبره؟ ما فيه فوائد، الغار اللي هم فيه أين هو؟ وفي أي مكان؟ كل هذه مسائل جانبية.
كذلك أيضًا ما يقع في الحديث في السنة: قال رجل للنبي ﷺ، تجد بعض الشرّاح -يعنى عناية كاملة-: من الذي قال هذا؟ هذا في الحقيقة ما له داعٍ، وإن كنا قد نستفيد أنه إذا كانت صفة منقبة؛ أن يكون في ذلك منقبة لهذا الرجل إذا عُرفت، لكن هل هذا ملزومٌ للحكم أو للدلالة؟ لا، ولكنه من فضول العلم.
هذه أيضًا مثله: كم الذين مع صالح؟ أربعة آلاف أو أربعة ملايين، ما يهم، المهم أن كل من اتصف بالإيمان فإن الله تعالى أنجاهم من هذا العذاب العام.
﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يقول المؤلف: (يتقون الشرك)، ولو أنه قال: يتقون المعاصي أو يتقون الله بس لكان هذا أولى؛ لأن الإيمان والتقوى بمعنى الإيمان والعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح عند الإطلاق من التقوى، بخلاف ما إذا قُرنت التقوى البر وما أشبه ذلك، فتكون التقوى للمعاصي، والبر للطاعات.
ثم قال الله تعالى: ﴿وَلُوطًا﴾ قال المؤلف: (منصوب باذكر مقدرًا قبله) يعني: واذكر يا محمد لوطًا.
وإنما ذُكر بعد صالح -وهو دائمًا يُذكر بعد صالح- لأنه؛ أي: مدائن صالح وقرى قوم لوط ليس بعيدًا بعضها من بعض، وليست مجهولة للناس في عهد النبي ﷺ.
ثم قال: (﴿وَلُوطًا﴾ منصوب بـ(اذكر) مقدرًا قبله، ويبدل منه ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ).
إذا أعربنا ﴿إِذْ قَالَ﴾ بدلًا من (لوط)، صار كأن التقدير: واذكر إذا قال لوط لقومه.
(﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ أي: اللواط) الهمزة هنا لاستفهام أيش؟
* طالب: الاستعلام.
* الشيخ: الاستعلام ولَّا لا؟ لأنه يعلم، لكن التوبيخ والإنكار، وإن كنت أزيد على ذلك: التعجب أو التعجيب؛ يعني: كيف أنكم تأتون الفاحشة؟! فهي للتوبيخ والإنكار والتعجب.
وقوله: ﴿الْفَاحِشَةَ﴾ (أل) لاستغراق الجنس من حيث المعنى لا من حيث الأفراد، لكن المعنى: أن هذه أعظم فاحشة من نوعها هي هذه، وهي أعظم من الزنا؛ لأن الله قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء ٣٢] فاحشة من الفواحش، وهنا قال: ﴿الْفَاحِشَةَ﴾.
وهي أيضًا أعظم من نكاح ذوات المحارم؛ لأن الله قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء ٢٢]، ونساء ذوات المحارم أعظم من الزنا؛ لأن الله وصفهم بثلاثة أوصاف: فاحشة، ومقت، سوء السبيل، والزنا وصفه بوصفين: فاحشة، وسوء السبيل؛ ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء ٣٢]؛ ولهذا الصحيح: أن من زنى بمحارمه يُقتل وإن لم يكن مختارًا؛ لأن هذه أعظم -والعياذ بالله- من الزنا.
كذلك أيضًا اللواط، الصحيح: أن فاعله يُقتل ما دام بالغًا عاقلًا وإن لم يكن محصنًا.
(﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ أي: اللواط، ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي: يبصر بعضكم بعضًا انهماكًا في المعصية)، والعياذ بالله.
يعني: أخبث من الحمير يرى بعضهم بعضًا يفعل واحد في الثاني؛ ولهذا قال: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوت ٢٩] إذا اجتمعوا -والعياذ بالله- صار يركب بعضهم بعضًا كالحمير، نسأل الله السلامة.
* طالب: (...) عراة؟
* الشيخ: لكنهم يفعلونه؟
* الطالب: يفعلون هذا (...) في بريطانيا (...).
* الشيخ: سفاهة.
* الطالب: وهو قانون.
* الشيخ: وهو قانون.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ إذن من البصر والإبصار بالعين، وقيل: من الإبصار بالقلب؛ يعني: وأنتم تبصرون خبثها وتعقلونه، وكل إنسان له فطرة سليمة يكره هذا الصنف؛ لأنه كيف يركب مثله نفس هذا المركوب؟ (...).
ثم إن المكان هذا أيضًا ليس محلًّا لهذه الشهوة؛ لأنه مكانٌ متلوث بالأنجاس وليس محلَ اللهوِ، فهو خبيث بالفطرة وفي الحسِّ أيضًا.
ولكنا نقول: لو أننا فسّرنا الإبصار هنا بالإبصار الحسي بالعين والإبصار المعنوي بالقلب لكان ذلك جائزًا.
في الحقيقة أن بشاعة هذا الشيء في القلب أمر معلوم بالفطرة، وكونهم يفعلونه وهم يشاهد بعضهم بعضًا هذا أشد وأعظم.
(﴿أَئِنَّكُمْ﴾ بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين)
فالقراءة أيضًا تكون أربعة.
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً﴾ هذا تفسير لقوله: ﴿الْفَاحِشَةَ﴾.
وهنا لاحظ أن الاستفهام هنا للتقرير، لكنه أُكّدت الجملة التي قرئت بالاستفهام أكدت بشنو؟ بـ(إن) واللام؛ ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ﴾، وهذا كقول إخوة يوسف ليوسف: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾ [يوسف ٩٠] أي: أتقرر أنك يوسف وتؤكد ذلك؟ فقال: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، وفي جوابه لهم إهانة لهم؛ لأنهم هم طلبوا منه أن يؤكد لهم أنه يوسف ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾، ما قال: إني لأنا يوسف، قال: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، فحذف التأكيدات استهانة بهم.
فالحاصل أقول -المرة الثانية-: إن الاستفهام إذا تلاه التأكيد لا يسقطه عن معنى الاستفهام، بل كأن المستفهم يطلب من المستفهم منه تأكيد الجملة؛ ولهذا قال لهم -لكن في هذه المسألة الاستفهام للتقرير، نقرر مع التأكيد-: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ [النمل ٥٥] ﴿شَهْوَةً﴾ يحتمل أن تكون مصدرًا في موضع الحال، ويحتمل أن تكون مفعولًا لأجله؛ أي: لأجل الشهوة.
وعلى كل حال ففيها إنكار من جهة أنهم يأتون الرجال شهوة وليسوا أهلًا لها، ومن جهة أخرى أنهم يدعون؛ ولهذا قال: ﴿مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ وهن محل الشهوة، فيكونون قد أساؤوا فيما فعلوا وفيما تركوا؛ ولهذا قال لهم في آية أخرى: ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ [الشعراء ١٦٦]، وهذا أبلغ، يعني: لو أن المسألة ضيقة ما بقي إلا هذا الطريق.
لكان أفضل، لكن هنا طرق محلَّلة مباحة موافقة للفطرة تدَعونها وتذهبون إلى هذا؛ كالذي يدع المذكاة ويأكل الميتة، وكالذي يدع البيع الصحيح ويذهب إلى الربا، ويقول: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [الربا ٢٧٥]، فالحاصل أن (...) تزداد قبحًا إذا كان لها بدائل من الحسنات، إذا كان لها بدائل من الحسنات ازدادت قبحًا، ولهذا قال لهم: ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً﴾، لو أنه اقتصر على هذا ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل ٥٥] حصل التوبيخ واللوم.
﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾ [النمل ٤٧] الفوائد؟
* طالب: آخر ما أخذنا إي نعم ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾ آخر ما قلنا: إثبات الحكمة والعلة (...).
* الشيخ: كذا؟ ذكرنا هذا؟ ذكرنا أن الاستعجال بالسيئة يكون بطلبها أو بالأفعال التي تسببها، ذكرنا هذه؟
* طالب : بداية الشرح اللي عندنا ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾.
* الشيخ: قال الله تعالى: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل ٤٧].
* يؤخذ من هذه الآية: بيان مسلك المكذبين للرسل أنهم يسلكون مسالك التشبيه والتمويه؛ لقولهم حين أصيبوا بالجدب والقحط: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ﴾، مع أن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى وليس بأسباب النبي، وهكذا أهل الباطل يشبهون ويلبسون على الناس بمثل هذه الأمور.
* وفي هذا دليل على أن المصائب التي تصيب الإنسان إنما هي من الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾، ولا ينافي هذا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى ٣٠]، ولا قوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الروم ٤١]؛ لأن نسبة هذه الأمور إلى الله نسبة خلقٍ وإيجاد، ونسبتها إلى المخلوق نسبة تسبب، فهي تضاف إلى الناس إضافة الشيء إلى سببه، وتضاف إلى الله سبحانه وتعالى إضافة المخلوق إلى خالقه.
وعلى هذا يزول إشكال كثير من الآيات التي ظاهرها التعارض في هذا الباب.
* وفي هذا دليل على أنه من الحكمة أن يُرد الباطل بالحق بدون سكوت؛ لقوله في جوابهم: ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أنه لا يُسكت على الباطل بل يُرد عليه ويفضح، هذه الفائدة.
* وفيها الفائدة الرابعة: أنه ينبغي أن يكون الرد من جنس الإيراد، فهنا تطيروا بصالح ومن معه، فبيّن أن طيرتهم وشؤمهم بسبب أعمالهم، لكنه قال: ﴿طَائِرُكُمْ﴾ يعني اللفظ مثل اللفظ، فينبغي أن يكون الجواب مثل الإيراد، ويتحرى المجيب حتى اللفظ.
* خامسًا: أنه ينبغي لمن رد على غيره أو أبطل قوله أن يأتي بأمرٍ لا جدال فيه؛ لأن هذا صالحًا عليه الصلاة والسلام لو قال: هذا الجدب ليس مني وأنا ما أتيت بسببه وما أشبه ذلك، لكان هذا فيه مجال للأخذ والرد، ولكن ينبغي أن يختار المجيب الجواب الذي لا كلام بعده.
نظير هذا محاجة إبراهيم للذي حاجّه في الله: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة ٢٥٨] ما قال: لا، أنت ما أنت تحيي وتميت، ولكنك تقتل من لا يستحق القتل، وترفع القتل عمن استحقه، وهذا ليس بإحياءٍ ولا إماتة، مع أن هذا هو الحقيقة، لكن هذا يكون فيه جدل، إنما أتى بأمرٍ لا جدال فيه ولا يمكنه أن يجادل، ولهذا بُهت الذي كفر.
وهكذا ينبغي للإنسان في محاجة من حاجّه أن يختار الأجوبة اللي ما تؤدي إلى النزاع والجدال؛ لأنه إذا أدّت إلى النزاع والجدال فقد يتغلب الباطل على الحق؛ بسبب طول الجدال واللف والدوران، لكن يؤتى بشيءٍ لا جدال فيه، وهذه من آداب المناظرة حتى عند الذين يتكلمون بهذه الأمور يرون أن من آداب المناظرة الأخذ بما لا يمكن الجدل فيه.
* الفائدة السادسة: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ دليل على أن الله تعالى قد يحدث من الأمور ما يكون سببًا لافتتان بعض الناس. أو لا؟ لما جاء صالح وجاء الجدب في الحقيقة أنه فتنة لبعض الناس؛ إذ يقول بعض الناس مثلًا: إن هذا من أسباب هذه الرسالة، فيكون سببًا للفتنة لولا عصمة الله تبارك وتعالى، وهذا دائمًا يكون في أفعال الله تعالى القدرية والشرعية.
في الشرعية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة ٩٤] حرّم الله الصيد على المحرمين، فبعث الله على الصحابة رضي الله عنهم صيدًا تناله أيديهم ورماحهم، يمسكه بيده ما بتعب، وإلا برمحه ما يحتاج ولو إلى قوس.
﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ فخافوه بالغيب، وافتتن الله تعالى قوم موسى بالحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا مع تحريم الصيد عليهم، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، ولكنهم لم يشكروا وخادعوا فتحيلوا، وصاروا يضعون الشباك للحيتان في يوم الجمعة، فتأتي الحيتان فتقع فيه يوم السبت، فإذا كان يوم الأحد جاءوا وأخذوه، قالوا: إحنا ما صدنا يوم السبت، فقلبهم الله تعالى قردة: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة ٦٥].
فالحاصل أقول: إن الله تعالى قد يفتن الإنسان بالفتن الشرعية والقدرية؛ لأجل أن يعلم من يخافه بالغيب، ومن يصبر ومن لا يصبر.
أحيانًا أيضًا يبتلى المرء بالمصائب: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج ١١] ومن الناس من يعبد الله تعالى على أساس، ما هو على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به وشكر عليه، وإن أصابته فتنة صبر حتى يجتازها، واضح؟ ويدل عليه هنا قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾.
* طالب: هناك يا شيخ (...) قسيمة الآيات التي (...) لأن الأنبياء يؤتون آيات تدل على (...) ، فإذا جاءت هذه الفتن من القحط أو (...) تكون قسيمًا لها؟
* الشيخ: لا، ما تكون مضادة لها، هذه فتنة؛ لأنه هو عليه الصلاة والسلام بيّن أن السبب منهم الرسالة، وهو ما جاء بها لتشهد على رسالتهم، أصيبوا بها لأنهم كذّبوا، مثلما أصيبت قريش بدعاء النبي ﷺ عليهم (...) وما قال: آيتي أن الله يبتليكم بالقحط، وحتى لو قال: إن آيتي أن يبتليكم الله بالقحط وحصل صارت آية.
* وفيها أيضًا قوله: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾ [النمل ٤٨] فيه مبدأ العصابات، ولا يزال موجودًا إلى الآن، فإن هؤلاء التسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وما زال الأمر إلى يومنا هذا وإلى ما بعد، والله أعلم أنه سيبقى؛ لأن أهل الشر لهم طرق يتفننون بها في فرض شرهم على غيرهم.
* وفيه أيضًا دليل على أنه يمكن أن يجتمع الفساد والصلاح؛ لقوله: ﴿يُفْسِدُونَ﴾ ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾، ولولا أنه يمكن اجتماعهما لم يكن لقوله: ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾ فائدة؛ لأنه يكون عدم الصلاح مفهومًا من إثبات الفساد لو لم يمكن اجتماعهما، هذه فائدتين.
* ففيها: إثبات أن الفساد والصلاح قد يجتمعان في شخص.
* ومنه نأخذ أيضًا: أن الكفر والإيمان قد يجتمع في شخص؛ لأن الإيمان صلاح والكفر فساد، وكذلك أيضًا الفسوق والطاعة ممكن تجتمع، وخالف في ذلك طائفتان من الناس:
* طالب: (...).
* الشيخ: والمرجئة.
المرجئة قالوا: ما يمكن، الإنسان إذا كان مؤمنًا كل أحواله صالحة، ولا يعذّب بذنب ولا يلام عليه. والخوارج والمعتزلة بالعكس، قالوا: ما يمكن يجتمع كفر وإيمان، وفسوق وطاعة، بل من أتى ما يوجب الفسق صار كافرًا، ومن أتى ما يوجب الكفر صار كافرًا، على رأي الخوارج، أو خارجًا من الإيمان بين منزلة الإيمان والكفر على رأي المعتزلة.
ولا شك أن النفوس والواقع والعقل يدل على خلاف ما قالوا؛ لأن اجتماع هذا وهذا أمرٌ موجود معلوم.
* طالب: يعني (...) الرجل بالأغلبية، يعني: يجتمع (...) في قلب رجل، ويكون الرجل بالأغلبية، أن يكون مؤمن (...) الإيمان.
* الشيخ: لا، نقول: مؤمن ناقص الإيمان، ما نطلق عليه الإيمان المطلق، حتى لو كان فيه مثلًا عشرة في المائة، لا بد أن يكون ناقص الإيمان، من لم يؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، مثلًا: لو اغتاب الإنسان رجلًا من الناس هذه كبيرة من الكبائر تنقص الإيمان، وهو يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويتطوع بسائر التطوعات، ما نعطي هذا وصف الإيمان المطلق، بل نقول: مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
* طالب: شيخ، قوله: ﴿يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾ (...) مثل قول الصحابي فأمرنا بالسكوت (...) الكلام، بمعنى أنه يتحقق الوصف بواحد منهم والثاني ..
* الشيخ: لا، وبارك الله فيك؛ لأن السكوت والكلام متناقضان، أما الصلاح والفساد فمتضادان، يمكن أن يجتمعا فيكون في الشيء مصلحة ومفسدة: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة ٢١٩] أما هذا فهو السكوت ولا كلام متناقض، يعني ما يمكن يوجد أحدهما إلا بفقد الآخر.
* الفائدة الثالثة: أن المعاصي من أسباب الفساد في الأرض؛ لقوله: ﴿يُفْسِدُونَ﴾، وهؤلاء الجماعة ليسوا يهدمون البيوت، ولا يغرقون الزروع، ولا يحرقون المتاجر، لكنهم يفعلون ما يكون سببًا للفساد، الفساد المعنوي: وهو فساد الأخلاق والسلوك، والفساد الحسّي؛ لأن الفساد الحسي يتبع الفساد المعنوي.
﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل ٤٩].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة أولًا: أنه من الحزم -والحزم قد يكون في الخير وفي الشر- أن تتعاقد الطائفة وتتعاهد على منهاجها الذي تسير عليه؛ لئلا تتفرق وتختلف، منين تؤخذ؟ ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ ما ذهب كل واحد مذهبًا، اجتمعوا أولًا على تدبير الخطة ثم على تنفيذها.
فيؤخذ منه: أن من الحزم أن تجتمع الطائفة وتتفق على عهد يربط بعضها ببعض؛ ليكون التنفيذ واحدًا.
وهذا المسلك لا زال يُسلك حتى الآن، وتعرفون أن الصحيفة التي اجتمعت قريش فيها على مقاطعة بني هاشم، هل نقضت برجلٍ واحد؟ لا، بل ذهب هذا الرجل الذي أراد نقضها إلى فلان وفلان، وصار يجمّع الناس حوله حتى اجتمعوا على نقضها وغلبوا في تنفيذ فكرتهم.
فالحاصل أن ها المسائل دي ينبغي للإنسان إذا أراد أن يهم بأمر ويمشي على منهاج أنه يجعل معه أقوامًا يساعدونه ويتعاقد معهم ويتعاهد، عاد إن كان في خيرًا فخير وإن كان في شر فالله يتولاهم.
هنا: ﴿تَقَاسَمُوا﴾ على خير ولّا على شر؟
* طلبة: على شر.
* الشيخ: إي نعم، على شر من أعظم الشرور.
* وفيه دليل على مبدأ الاغتيالات؛ لقوله: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ لأن التبييت اغتيال؛ إذ إن الاغتيال معناه هو القتل على غرّة، ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم أن الغيلة ليس فيها خيار لأولياء الدم وأنه يجب قتل المغتال بكل حال حتى لو عفوا، وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، وهو فسادٌ في الأرض، ولا يعارض هذا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٣٤)، ومسلم ( ١٣٥٥/ ٤٤٧) من حديث أبي هريرة.]]؛ لأن قوله: «مَنْ قُتِلَ لَهُ» هذا من الحقوق الخاصة، وأما مسألة الاغتيال فإنها من الحقوق العامة، يجيء للإنسان في مأمن ويقتله.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، فعل القاتل أنه إذا بغى يقتل (...) لكن المهم من ذاك يمكن أن يتحرز منه، أن المقتول يمكن أن يتحرز بالفرار، أو يتحرز بالمدافعة، أو ما أشبه ذلك (...). أما يجيه وهو نائم مثلًا أو يأتيه في بيته وهو غافل، فهذا ما يمكن التحرز منه، فساد؛ لأنه لو جاه وهو يعلم به يمكنه يتحرز بالفرار، يتحرز بالمدافعة، يتحرز بالصياح لمن حوله وما أشبه ذلك.
وليس قولنا: إنه على (...)؛ لأنه مثلما قلت: الغالب أنه ما يقتل (...)، لكن الكلام على غرّة من المقتول، هذا هو قتل الغيلة، فهؤلاء الجماعة تقاسموا على هذه الفعلة القبيحة المشينة، ولكنهم لم ينفذوا ما أرادوا، وهم لم ينفذوه، لم يحصل لهم تنفيذ ما أرادوا؛ لأنهم مكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
* طالب: (...) يدل على (...) مبدأ الاغتيالات (...) الله سبحانه وتعالى ذكر (...) وهو على حرمة الاغتيال.
* الشيخ: لا، بمعنى أن الاغتيال موجود حتى في الزمن السابق، هذا قصدي، وليس معنى هذا أنه المبدأ المباح (...) إن هذا موجود ولا يزال موجودًا، يعني في غالب الأمور تجد أصلها موجودًا، غالب الأمور من خير أو شر تجد له أصلًا في الأمم السابقين.
* طالب: المسلمون لا يجوز لهم أن يسلكوه مع الأعداء.
* الشيخ: إن كانوا يسلكونه بنا سلكناه بهم، ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل ١٢٦].
* وفيه دليل في قوله: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ دليل على الإنكار، إنكار المدّعي، وهذا الشيء واضح، أن الفاعل للسيئة لا يهمه أن ينكر فعله، يعني: من قتل يهون عليه أن ينكر القتل، ولّا لا؟ من قتل هان عليه أن ينكر القتل؛ لأن القتل أعظم من إنكاره، فلهذا قالوا: ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾.
* وفيها فائدة رابعة: أن البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، لماذا؟ لأنه لولا أن هذا القول يبرئهم ما صح أن يتفقوا على اتخاذه حجة، أما فهمتم؟ يقتلونه ويقولون: ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾. اتفقوا على هذا.
دل هذا على أن الإنكار يدرأ به المدعى عليه، وجهه: أنه لولا أن ذلك يبرئهم لم ينفعهم الاتفاق عليه؛ لأنه لو قالوا: ما شهدنا مهلكه لقال: أنتم القاتلون، فهذا أيضًا دليل على أن البينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
فإذا ادعى شخص أن هذا الرجل قتل والده، نقول له: هات بيّنة، فإذا لم يأت ببينة فإنه لا يثبت له الحق، ما يثبت له الحق؛ لأن البيّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر. ولكن هل هذا على إطلاقه؟
المشهور من المذهب أنه على إطلاقه، وأنه لو كان المدعَى عليه القتل من أفجر الناس والمقتول من أطيب الناس وكذلك المدّعي، فإنه لا يؤخذ بقوله؛ لعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»[[أخرجه الدارقطني (٣١٩١) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والشطر الثاني من الحديث متفق عليه؛ البخاري (٢٥١٤)، ومسلم (١٧١١) من حديث ابن عباس ولفظه: أن النبي ﷺ قضى أن اليمين على المدعى عليه.]].
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا يؤخذ بقوله، ولكن تجرى فيه القسامة إذا كان هذا الرجل معروفًا بالفسوق، والمقتول معروفًا بالصدق والاستقامة. وكذلك أولياؤه، قال: فإن هذا قرينة تغلّب على الظن صدق المدعي، وعلى هذا فتجرى فيه القسامة. وما قاله الشيخ فليس ببعيد.
كذلك الأمر الثاني بالعكس، لو أن شخصًا قتل إنسانًا وقال: نعم أنا قتلت، ولكن الرجل صال عليَّ ولم يندفع إلا بالقتل، فماذا أصنع؟
المذهب لا يُقبل قوله ويُقتل، أما فهمتم؟ إنسان ادُّعي عليه أنه قاتل، قال: نعم أنا القاتل، لكنني قتلته دفاعًا عن نفسي؛ لأن الرجل يبغى أن يقتلني، نقول له: هات بيّنة أنه صال عليك وإلا قتلناك. قال: ما يمكن يكون بيّنة؛ لأنه ما بيصال علي أمام الناس، لو يدري أن حوله أحدًا ما صال.
نقول: إذن نقتلك ويوم القيامة تختصمون عند الله، هذا هو المذهب، واختار الشيخ هنا أنه يُقبل قول المعروف بالصدق، فإذا كان هذا الرجل مستقيمًا -هذا القاتل اللي يقول: أنا قتلته دفاعًا- مستقيمًا، والمقتول معروفًا بالفجور والاعتداء على الخلق، فإنه يُقبل قوله، ولكن يحلف تأكيدًا لقوله.
وما قاله الشيخ هو الصحيح، ولا يمكن العمل إلا به، ولا يمكن العمل بخلافه، أما كون يقول: نقتلك وتلقى حسابك عند الله، هذا فيه نظر.
طيب، حتى لو وجد قرينة تدل على صدق الرجل غير مسألة الحال هذا والحال هذا، يعني مثلًا لو وجد في بيته، لو وجد المقتول في بيته، أي في بيت القاتل، زلمة دخل علي البيت بيقتلني، أو بينتهك حرمة أهلي، فوجدت ألا يندفع إلا بالقتل، يقول: نعم ولو كان؛ لأنه يمكن أنه عزمه لأجل يقتله.
* طالب: فيه شبهة تدرأ (...)
* الشيخ: ويش هي؟
* الطالب: أنه في بيته.
* الشيخ: إي نعم، هم يقولون نعم في بيته.
* الطالب: ادرءوا الحدود بالشبهات.
* الشيخ: لكن هو يقول: أنا الآن قتلت عمدًا، ما فيه شبهة (...) أنه صائل، يقول: إن كونه في بيته ما يدل على ما قال؛ لأنه يجوز أنه (...) يقول: تفضل عندنا، تفضل عندنا نوريك ويدخل على أن (...)، مشكلة هذه ما يستقيم الحال إلا على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
طيب، الكلام على قوله: ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ يدل على أن المنكِر مقبول القول ما لم يأت المدعي ببيّنة.
* وفي هذه الآية: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل ٥٠] دليل على عظمة الله سبحانه وتعالى، وأنه أعظم مكرًا ممن يمكرون به وبرسله.
فهؤلاء أرادوا المكر برسوله ولكن الله تعالى مكر بهم بما هو أعظم.
* وفيه دليلٌ على وصف الله تعالى بالمكر، لكنه ليس على سبيل الإطلاق، بل على سبيل التقييد، فيقال مثلًا: هو ماكرٌ بأعدائه أو بمن يستحق المكر، أو ما أشبه ذلك مما يجعل المكر صفة كمال؛ لأن المكر ليس بصفة كمال على الإطلاق، ولا بصفة نقصٍ على الإطلاق.
* وفي هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى قد يمكر بالعبد فلا يشعر بمكره.
ومن ذلك -من مكر الله بالعبد وهو لا يشعر- استدراجه إيّاه بالنعم؛ حيث يسدي إليه النعم وهو يبارز الله تعالى بالعصيان.
ومن مكره به تلبيسه عليه بالحكم، يلبس عليه الحكم حتى يظن الباطل حقًّا، فيتمادى فيه، ولهذا من الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه[[ذكره ابن كثير في التفسير (١ / ٥٧١).]]. فالإنسان قد يكون لديه شبهة أو شهوة، شبهة ما يعرف الحق، أو شهوة لا يريد الحق، يريد غيره.
وفي قوله: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النمل ٥١].
* في الآية فوائد: أولًا: الحث على الاعتبار؛ لقوله: ﴿فَانظُرْ﴾ والنظر يكون بالقلب، ويسمى نظر البصيرة، ويكون بالعين ويسمى نظر البصر، وكلاهما أمرٌ مطلوب إذا أدى إلى مطلوب، وأما إذا لم يؤد إلى مطلوب، بل أدى إلى العكس، مثل أن يعتبر ويتبصّر ثم يتخذ من هذا النظر يتخذه وسيلة إلى الطعن في حكمة الله سبحانه وتعالى، أو إلى وصف الله تعالى بالظلم أو ما أشبه ذلك مما يقع من بعض الملحدين، فإن هذا ضرره كبير والعياذ بالله، لكن من نظر ليعتبر، من نظر بعين العقل والعدل، بل لا بد من الأمرين: عقلٌ وعدل، فبانتفاء العقل ما يعرف الإنسان، وبانتفاء العدل يظلم.
فعلى كل حال، في هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن ينظر ويتأمل في الأمور، لا سيما في أمور المكذبين.
* وفيه دليل على أنه ينبغي في مقام التحذير استعمال أغلظ الألفاظ وأشدها تأثيرًا؛ لقوله: ﴿دَمَّرْنَاهُمْ﴾ ولم يقل: أهلكناهم، فإن التدمير أعظم وقعًا في النفس، والنفس تنفر منه أكثر، ولهذا قال: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾.
* في الآية دليل أيضًا على أن العقوبات إنما تأتي بأسباب المرء؛ حيث جعل هذا التدمير عاقبة مكرهم، وهذا يدل عليه أيضًا قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف ٩٦].
وقال تعالى في خصوص أهل الكتاب: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة ٦٥، ٦٦] ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ من الثمار الطويلة، ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ من الزروع التي تحت الأرض.
في قوله أيضًا: ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
* في هذا دليل على أن العقوبة تعم، ولكن كما قال رسول الله ﷺ: «يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ»[[أخرجه ابن ماجه (٤٢٢٩) من حديث أبي هريرة بلفظ: «إنما يُبعث الناس على نياتهم».]] العقوبة قد تعم، ولكن يُبعث الناس على أعمالهم، وهذا مشاهَد، سواء كانت العقوبة من الله، يعني: من فعل الله، أو من فعل العباد، يسلّط الله تعالى بعض عباده على بعض، فيدمر هذا المتسلط على الصالح والطالح، ولكن يُبعث الناس يوم القيامة على أعمالهم ونياتهم، أو ينزل الله تعالى كارثة من عنده؛ كالفيضانات والرياح وغيرها، فتدمر الصالح والطالح، ويوم القيامة يُبعثون على نياتهم.
وإنما كان كذلك -والحكمة عند الله سبحانه وتعالى- لأجل أن يستقيم الناس على أمر الله؛ لأني أنا إذا علمت أن المصيبة ستعم سأسعى في إزالة السيئة الموجبة للعقوبة ولّا لا؟ لكن لو أننا نعلم أن العقوبة تخص العامل ما استقام الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر. أليس هكذا؟
ولذلك يجب أن يكون خوف الإنسان من معاصي غيره كخوفه من معاصي نفسه؛ لأن العقوبة واحدة، إذا نزلت عمّت، بل إن المعاصي سبحان الله كالدخان، يصرع من شمّه وإن لم يكن في بيته. ولذلك معاصي الناس اليوم أثّرت حتى على أهل الخير البعيدين منهم. يعني أهل الخير لو سألتهم وقلت: هل تجدون في قلوبكم ما كنتم تجدونه قبل سنوات من الإنابة إلى الله، والخشوع، والخضوع، ومحبة الخير؟ لوسألتهم لأجابوا: لا.
دعنا من الناس اللي ماتوا قبل ثلاثين سنة أو أكثر، هذا معلوم أنهم سلموا من هذه الفتنة، لكن حتى الموجود الآن قلوبهم قبل نحو ثلاثين سنة أصلح بكثير من اليوم، مع أن حالهم هي هي، تجد الإنسان مثلًا في مسجده إمام ولم يلتفت للدنيا ولم يشتغل بها، تجد إنسانًا مثلًا في أهله ما يلتفت إلى أحدٍ غيرهم، ومع ذلك تأثرت القلوب؛ لأن المعاصي مفاسد مهما كانت.
ولكن مع هذا قد يأتي الله تعالى ببركانٍ عظيم يبدد هذه الأشياء، يقيض الله تعالى للأمة الإسلامية طائفة منصورة ظاهرة فتبدل كل هذا الأمر، ولهذا لا بد من عمل، الركود ما ينفع، الركود ما فيه سلامة أبدًا، لا بد من العمل ولكن على هدى مستقيم وبحكمة بالغة؛ لأن اللي يضر الدعاة إلى الله الآن واحد من أمرين: إما جهلٌ أو سفه، يعني: إما أنه ما عندهم علم بيّن راسخ، فتجدهم يحرمون ما أحل الله، ويوجبون ما لم يوجبه الله، واضح؟ مثلما يوجد من بعض الإخوان الذين يتشددون في أمور، يحرمون ما أحل الله، أو يوجبون ما لم يوجبه الله، وهذه مفسدة عظيمة، أو يكون عندهم سفه، يعني: ما عندهم حكمة في الدعوة إلى الله، فيكون عندهم تسرع وعنف، أو تباطؤٌ في غير موضعه؛ ففي الأول يحصل رد فعلٍ عنيف من المدعوين، وفي الثاني يحصل تمادٍ من المدعوين يفوّت الفرصة على الداعين، فلا بد من العلم والحكمة ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل ١٢٥].
{"ayahs_start":47,"ayahs":["قَالُوا۟ ٱطَّیَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ قَالَ طَـٰۤىِٕرُكُمۡ عِندَ ٱللَّهِۖ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمࣱ تُفۡتَنُونَ","وَكَانَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطࣲ یُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا یُصۡلِحُونَ","قَالُوا۟ تَقَاسَمُوا۟ بِٱللَّهِ لَنُبَیِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِیِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ","وَمَكَرُوا۟ مَكۡرࣰا وَمَكَرۡنَا مَكۡرࣰا وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ"],"ayah":"قَالُوا۟ تَقَاسَمُوا۟ بِٱللَّهِ لَنُبَیِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِیِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق