الباحث القرآني
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْط مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالُوا: نَقْطَعُ مَذاكيرنا، وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ: فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [[في أ: "النبي".]] ﷺ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". [[هذا لفظ حديث أنس بن مالك: رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠٦٣) ومسلم في صحيحه برقم (١٤٠١) . أما حديث عائشة فلفظه: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فحمد الله وأثني عليه ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني أعلمهم بالله واشدهم له خشية". رواه البخاري برقم (٧٣٠١) ومسلم برقم (٢٣٥٦) .]]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مُخَلَّد، عَنْ عُثْمَانَ -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ-أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ [[في أ: "أكلت من هذا اللحم".]] انتشرتُ لِلنِّسَاءِ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَنَزَلَتْ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، به.
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ [[سنن الترمذي برقم (٣٠٥٤) .]] وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ووَكِيع، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْس بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَّا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] .
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ [[صحيح البخاري برقم (٤٦١٥) وصحيح مسلم برقم (١٤٠٤) .]] . وَهَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرحبيل قَالَ: جَاءَ مَعْقل بْنُ مقرِّن إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ فِرَاشِي. فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَجِيءَ بضَرْع، فَتَنَحَّى رَجُلٌ، فَقَالَ [لَهُ] [[زيادة من أ.]] عَبْدُ اللَّهِ: اُدْن. فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ فاطعَم، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الْآيَةَ.
رَوَاهُنَّ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرَوَى الْحَاكِمُ هَذَا الْأَثَرَ الأخير في مستدركه، من طريق إسحاق بن رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. [[المستدرك (٢/٣١٣) .]]
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ [[في ر: "أضافه".]] ضَيْفٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُمْ لَمْ يُطْعموا ضَيْفَهم انْتِظَارًا لَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبَسْتِ ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي، هُوَ عليَّ حَرَامٌ. فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ عليَّ حَرَامٌ. وَقَالَ الضَّيْفُ: هُوَ عليَّ حَرَامٌ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهَ وَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ [[في أ: "فأنزل".]] اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وَهَذَا أَثَرٌ مُنْقَطِعٌ. [[ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/١٤٣) .]]
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ الصِّدِّيقِ [رَضِيَ اللَّهُ عنه] [[زيادة من أ.]] مع أضيافه شبيه [[صحيح البخاري برقم (٦١٤٠) .]] بهذا [[في أ: "شبه هذا".]] وفيه، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ مَنْ حَرَّمَ مَأْكَلًا أَوْ مَلْبَسًا أَوْ شَيْئًا مَا عَدَا النِّسَاءَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ؛ وَلِأَنَّ الَّذِي حَرَّم اللَّحْمَ عَلَى نَفْسِهِ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ-لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ ﷺ بِكَفَّارَةٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [[في أ: "وذهب الإمام أحمد بن حنبل وآخرون".]] إِلَى أَنَّ من حرم مأكلا أو مشربًا أو أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا إِذَا الْتَزَمَ تَرْكَهُ بِالْيَمِينِ فَكَذَلِكَ يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ إِلْزَامًا لَهُ بِمَا الْتَزَمَهُ، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التَّحْرِيمِ:١] . ثُمَّ قَالَ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ الْآيَةَ [التَّحْرِيمِ:٢] . وَكَذَلِكَ [[في أ: "فكذلك".]] هَاهُنَا لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ عَقَّبَهُ بِالْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ التَّكْفِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَرَادَ رِجَالٌ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ يَتَبَتَّلوا ويخصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا المسُوح، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي أَصْحَابٍ [[في أ: "أصحابه".]] تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَمُّوا بِالْإِخْصَاءِ وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ يَقُولُ: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ [[في أ: "المرسلين".]] يُرِيدُ: مَا حَرَّمُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْإِخْصَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِيهِمْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا، صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَصَلُّوا وَنَامُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا". فَقَالُوا: اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا وَاتَّبَعْنَا مَا أَنْزَلَتْ. [[تفسير الطبري (١٠/٥١٩) .]]
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ مُرْسَلَةً، وَلَهَا شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَلَسَ يَوْمًا فَذَكَّرَ النَّاسَ، ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ [[في ر: "يزهدهم".]] عَلَى التَّخْوِيفِ، فَقَالَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، كَانُوا عَشَرَةً مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: مَا خِفْنَا إِنْ لَمْ نُحْدِثْ عَمَلًا فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ حَرَّمُوا على أنفسهم، فنحن نحرم. فحرم بَعْضُهُمْ أَنْ يَأْكُلَ اللَّحْمَ والودَك، وَأَنْ يَأْكُلَ بنَهَار، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النَّوْمَ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النِّسَاءَ، فَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِمَّنْ حَرَمَ النِّسَاءَ وَكَانَ [[في ر: "فكان".]] لَا يَدْنُو مِنْ أَهْلِهِ وَلَا تَدْنُو مِنْهُ. فَأَتَتِ امرأتُه عائشةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الْحَوْلَاءُ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَنْ عِنْدَهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ: مَا بَالُكِ يَا حَوْلَاءُ مُتَغَيِّرَةُ اللَّوْنِ، لَا تَمْتَشِطِينَ، لَا تَتَطَيَّبِينَ؟ قَالَتْ: وَكَيْفَ أَمْتَشِطُ وَأَتَطَيَّبُ وَمَا وَقَعَ عليَّ زَوْجِي وَمَا رَفَعَ عَنِّي ثَوْبًا، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَجَعَلْنَ يَضْحَكْنَ مِنْ كَلَامِهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُنَّ يَضْحَكْنَ، فَقَالَ: "مَا يُضْحِكُكُنَّ؟ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْحَوْلَاءَ سَأَلْتُهَا عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنِّي زَوْجِي ثَوْبًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا عُثْمَانُ؟ " قَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ لِلَّهِ، لِكَيْ أَتَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا رَجَعْتَ فَوَاقَعْتَ أَهْلَكَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ: "أَفْطِرْ". فَأَفْطَرَ، وَأَتَى أَهْلَهُ، فَرَجَعَتِ الْحَوْلَاءُ إِلَى عَائِشَةَ [زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ] [[زيادة من أ.]] وَقَدِ امْتَشَطَتْ وَاكْتَحَلَتْ وَتَطَيَّبَتْ، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: مَا لَكِ يَا حَوْلَاءُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَتَاهَا أَمْسُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّموا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالنَّوْمَ؟ أَلَّا إِنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ، وَأُفْطِرُ وَأَصُومُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِب عَنِّي فَلَيْسَ مِنِّي". فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا﴾ يَقُولُ لِعُثْمَانَ "لَا تجُبَّ نَفْسَكَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ". وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوا عَنْ أَيْمَانِهِمْ، فَقَالَ: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ﴾ رَوَاهُ [[في ر: "ورواه".]] ابْنُ جَرِيرٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَعْتَدُوا﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: وَلَا تُبَالِغُوا فِي التَّضْيِيقِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَحْرِيمِ [[في د: "بتحريم".]] الْمُبَاحَاتِ عَلَيْكُمْ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ [[في أ: "قال".]] مِنَ السَّلَفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: كَمَا لَا تُحَرِّمُوا [[في ر: "يحرموا".]] الْحَلَالَ فَلَا تَعْتَدُّوا فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ، بَلْ خُذُوا مِنْهُ بقَدْر كِفَايَتِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ، وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِيهِ، كَمَا قَالَ [[في د: "كقوله".]] تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] [آل عمران: ٣١] ﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الْفَرْقَانِ: ٦٧] فشرعُ اللَّهِ عَدَلَ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا﴾ أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا طَيِّبًا، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، وَاتَّبِعُوا طَاعَتَهُ وَرِضْوَانَهُ، وَاتْرُكُوا مُخَالَفَتَهُ [[في ر: "محارمه".]] وَعِصْيَانَهُ، ﴿الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾
{"ayahs_start":87,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحَرِّمُوا۟ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ","وَكُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِیۤ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحَرِّمُوا۟ طَیِّبَـٰتِ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق