الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنهم مَن عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مَن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مَن الصالِحِينَ﴾ ﴿فَلَمّا آتاهم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أخْلَفُوا اللهَ ما وعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهم ونَجْواهم وأنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ﴾ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطِبٍ الأنْصارِيِّ، وقالَ الحَسَنُ: وفي مَعْتَبِ بْنِ قُشَيْرٍ مَعَهُ، واخْتِصارُ ما ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِن أمْرِهِ «أنَّهُ جاءَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَ لِي مالًا فَإنِّي لَوْ كُنْتُ ذا مالٍ لَقَضَيْتُ حُقُوقَهُ وفَعَلْتُ فِيهِ الخَيْرَ، فَرادَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وقالَ: "قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِن كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ"، فَعاوَدَ فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ: "ألا تُرِيدُ أنْ تَكُونَ مِثْلَ رَسُولِ اللهِ، لَوْ دَعَوْتُ اللهَ أنْ تَسِيرَ الجِبالُ مَعِي ذَهَبًا لَسارَتْ؟"، فَأعادَ عَلَيْهِ حَتّى دَعا لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِذَلِكَ، فاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَما يَنْمُو الدُودُ حَتّى ضاقَتْ بِهِ المَدِينَةُ، فَتَنَحّى عنها، وكَثُرَتْ غَنَمُهُ، فَكانَ لا يُصَلِّي إلّا (p-٣٦٨)الجُمْعَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ حَتّى تَنَحّى بَعِيدًا ونَجَمَ نِفاقُهُ، ونَزَلَ خِلالَ ذَلِكَ فَرْضُ الزَكاةِ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَبَعَثَ مُصَدِّقِينَ بِكِتابِهِ في أخْذِ زَكاةِ الغَنَمِ، فَلَمّا بَلَغُوا ثَعْلَبَةَ وقَرَأ الكِتابَ قالَ: هَذِهِ أُخْتُ الجِزْيَةِ، ثُمَّ قالَ لَهُمْ: دَعُونِي حَتّى أرى رَأْيِي، فَلَمّا أتَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ وأخْبَرُوهُ، قالَ: "وَيْحَ ثَعْلَبَةَ" ثَلاثًا، ونَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِ، وحَضَرَ القِصَّةَ قَرِيبٌ لِثَعْلَبَةَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ فَقالَ: أدْرِكْ أمْرَكَ، فَقَدْ نَزَلَ كَذا وكَذا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتّى أتى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَرَغِبَ أنْ يُؤَدِّيَ زَكاتَهُ، فَأعْرَضَ عنهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وقالَ: "إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ لا آخُذَ زَكاتَكَ"، فَبَقِيَ كَذَلِكَ حَتّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ ورَدَ ثَعْلَبَةُ عَلى أبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عَلى عُمْرَ ثُمَّ عَلى عُثْمانَ يَرْغَبُ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم أنْ يَأْخُذَ مِنهُ الزَكاةَ، فَكُلَّهم رَدَّ ذَلِكَ وأباهُ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَبَقِيَ ثَعْلَبَةُ كَذَلِكَ حَتّى هَلَكَ في مُدَّةِ عُثْمانَ». وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأعْقَبَهُمْ﴾ نَصُّ المُعاقَبَةِ عَلى الذَنْبِ بِما هو أشَدُّ مِنهُ، وقَوْلُهُ: ﴿إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ يَقْتَضِي مُوافاتَهم عَلى النِفاقِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلِ الخُلَفاءُ رَضِيَ اللهُ عنهم رُجُوعَ ثَعْلَبَةَ لِشَهادَةِ القُرْآنِ عَلَيْهِ بِالمُوافاةِ، ولَوْلا الِاحْتِمالُ في أنَّهُ نِفاقُ مَعْصِيَةٍ لَوَجَبَ قَتْلُهُ. وقَرَأ الأعْمَشُ: "لِنَصَّدَّقَنَّ" بِالنُونِ الثَقِيلَةِ مِثْلَ الجَماعَةِ، "وَلَنَكُونَنْ" خَفِيفَةَ النُونِ. والضَمِيرُ الَّذِي في قَوْلِهِ: "فَأعْقَبَهُمْ" يَعُودُ عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى البُخْلِ المُضَمَّنِ في الآيَةِ، ويَضْعُفُ ذَلِكَ الضَمِيرُ في "يَلْقَوْنَهُ"، وقَوْلُهُ: ﴿نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نِفاقَ كُفْرٍ ويَكُونُ تَقْرِيرُ ثَعْلَبَةَ بَعْدَ هَذا النَصِّ والإبْقاءِ عَلَيْهِ لِمَكانِ إظْهارِهِ الإسْلامَ وتَعَلُّقِهِ بِما فِيهِ احْتِمالٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿نِفاقًا﴾ يُرِيدُ بِهِ نِفاقَ مَعْصِيَةٍ وقِلَّةِ اسْتِقامَةٍ، فَيَكُونُ تَقْرِيرُهُ صَحِيحًا، ويَكُونُ تُرِكَ في أوَّلِ الزَكاةِ عِقابًا لَهُ ونَكالًا. وهَذا نَحْوُ ما رُوِيَ أنَّ عامِلًا كَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ فُلانًا يَمْنَعُ الزَكاةَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أنْ دَعْهُ واجْعَلْ عُقُوبَتَهُ ألّا يُؤَدِّيَ الزَكاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، يُرِيدُ: لِما يَلْحَقُهُ مِنَ المَقْتِ في ذَلِكَ. (p-٣٦٩)وَقَرَأ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، ونافِعٌ، وسائِرُهُمْ: "يَكْذِبُونَ" خَفِيفَةً، قَرَأ أبُو رَجاءٍ: "يُكَذِّبُونَ" مُشَدَّدَةً. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ ما يُناسِبُها مِن حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: « "ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقًا خالِصًا، إذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ"» وفي حَدِيثٍ آخَرَ: « "وَإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ"» ونَحْوُ هَذا مِنَ الأحادِيثِ، ويَظْهَرُ مِن مَذْهَبِ البُخارِيِّ وغَيْرِهِ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذِهِ الخِلالَ الذَمِيمَةَ مُنافِقٌ مَنِ اتَّصَفَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ. ورُوِيَ أنَّ عَمْرَو بْنَ العاصِ لَمّا احْتُضِرَ قالَ: "زَوِّجُوا فُلانًا فَإنِّي قَدْ وعَدْتُهُ، لا ألْقى اللهَ بِثُلْثِ النِفاقِ"، وهَذا ظاهِرُ كَلامِ الحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ، وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: "قَدْ فَعَلَ هَذِهِ الخِلالَ إخْوَةُ يُوسُفَ ولَمْ يَكُونُوا مُنافِقِينَ، بَلْ كانُوا أنْبِياءَ"، وهَذِهِ الأحادِيثُ إنَّما هي في المُنافِقِينَ في عَصْرِ النَبِيِّ ﷺ، الَّذِينَ شَهِدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وهَذِهِ الخِصالُ في سائِرِ الأُمَّةِ مَعاصٍ لا نِفاقٌ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ الحَسَنَ رَجَعَ إلى هَذا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا مَحالَةَ أنَّها كانَتْ مَعَ التَوْحِيدِ والإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ مَعاصٍ، لَكِنَّها مِن قَبِيلِ النِفاقِ اللُغَوِيِّ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتْ: كانَ العَهْدُ الَّذِي عاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ شَيْئًا نَوَوْهُ في أنْفُسِهِمْ ولَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا فِيهِ نَظَرٌ. (p-٣٧٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا﴾ الآيَةُ، لَفْظٌ تَعَلَّقَ بِهِ مَن قالَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: إنَّ العَهْدَ كانَ مِنَ المُنافِقِينَ بِالنِيَّةِ لا بِالقَوْلِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَعْلَمُوا" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، والحَسَنُ: "ألَمْ تَعْلَمُوا" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، وهَذِهِ الآيَةُ تُناسِبُ حالَهُمْ، وذَلِكَ أنَّها تَضَمَّنَتْ إحاطَةَ عِلْمِ اللهِ بِهِمْ وحَصْرِهِ لَهُمْ، وفِيها تَوْبِيخُهُمْ، عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَحَدُّثِ في نُفُوسِهِمْ مِنَ الِاجْتِماعِ عَلى ثَلْبِ الإسْلامِ، وراحَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ في جِهَةِ النَبِيِّ ﷺ وشَرْعِهِ، فَهي تَعُمُّ المُنافِقِينَ أجْمَعَ، وقائِلُ المَقالَةِ المَذْكُورَةِ ذَهَبَ إلى أنَّها تَخْتَصُّ بِالفِرْقَةِ الَّتِي عاهَدَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب