الباحث القرآني

(p-٢٧٢)﴿ومِنهم مَن عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿فَلَمّا آتاهم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أخْلَفُوا اللَّهَ ما وعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطِبٍ مِنَ المُنافِقِينَ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يَدْعُوَ لَهُ بِسَعَةِ الرِّزْقِ فَدَعا لَهُ فَأثْرى إثْراءً كَثِيرًا فَلَمّا جاءَهُ المُصَّدِّقُونَ لِيُعْطِيَ زَكاةَ أنْعامِهِ امْتَنَعَ مِن ذَلِكَ ثُمَّ نَدِمَ فَجاءَ بِصَدَقَتِهِ فَأبى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَقْبَلَها مِنهُ. وذَكَرُوا مِن قِصَّتِهِ أنَّهُ تابَ ولَكِنْ لَمْ تُقْبَلْ صَدَقَتُهُ في زَمَنِ النَّبِيءِ ولا في زَمَنِ الخُلَفاءِ الثَّلاثَةِ بَعْدَهُ عُقُوبَةً لَهُ وإظْهارًا لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ حَتّى ماتَ في خِلافَةِ عُثْمانَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ قائِلَ ذَلِكَ هو مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وعَلى هَذا فَضَمائِرُ الجَمْعِ في لَنَصَدَّقَنَّ وما بَعْدَهُ مُرادٌ بِها واحِدٌ، وإنَّما نُسِبَ الفِعْلُ إلى جَماعَةِ المُنافِقِينَ عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ في إلْصاقِ فِعْلِ الواحِدِ بِقَبِيلَتِهِ. ويُحْتَمَلُ أنَّ ثَعْلَبَةَ سَألَ ذَلِكَ فَتَبِعَهُ بَعْضُ أصْحابِهِ مِثْلُ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ فَأُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ ثَعْلَبَةُ وبَخِلَ مِثْلَ ما بَخِلَ وإنْ لَمْ تَجِئْ فِيهِ قِصَّةٌ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وجُمْلَةُ لَنَصَّدَّقَنَّ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿عاهَدَ اللَّهَ﴾ وفِعْلُ لَنَصَّدَّقَنَّ أصْلُهُ لَنَتَصَدَّقَنَّ فَأُدْغِمَ لِلتَّخْفِيفِ. و(الإعْراضُ) إعْراضُهم عَنْ عَهْدِهِمْ وعَنْ شُكْرِ نِعْمَةِ رَبِّهِمْ. و﴿أعْقَبَهم نِفاقًا﴾ جَعَلَ نِفاقًا عَقِبَ ذَلِكَ أيْ إثْرَهُ ولَمّا ضَمِنَ أعْقَبَ مَعْنى أعْطى نَصْبَ مَفْعُولَيْنِ والأصْلُ أعْقَبَهم بِنِفاقٍ. والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في (أعْقَبَهم) لِلْمَذْكُورِ مِن أحْوالِهِمْ، أوْ لِلْبُخْلِ المَأْخُوذِ مِن بَخِلُوا، فَإسْنادُ الإعْقابِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، أوْ يَعُودُ إلى اسْمِ اللَّهِ - تَعالى - في قَوْلِهِ: ﴿مَن عاهَدَ اللَّهَ﴾ أيْ جَعَلَ فِعْلَهم ذَلِكَ سَبَبًا في بَقاءِ النِّفاقِ في قُلُوبِهِمْ إلى مَوْتِهِمْ، (p-٢٧٣)وذَلِكَ جَزاءُ تَمَرُّدِهِمْ عَلى النِّفاقِ. وهَذا يَقْتَضِي إلى أنَّ ثَعْلَبَةَ أوْ مُعَتِّبًا ماتَ عَلى الكُفْرِ وأنَّ حِرْصَهُ عَلى دَفْعِ صَدَقَتِهِ رِياءٌ وتَقِيَّةٌ، وكَيْفَ وقَدْ عُدَّ كِلاهُما في الصَّحابَةِ وأوَّلُهُما فِيمَن شَهِدَ بَدْرًا، وقِيلَ: هُما آخَرانِ غَيْرُهُما وافَقا في الِاسْمِ. فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أُطْلِقَ النِّفاقُ عَلى ارْتِكابِ المَعاصِي في حالَةِ الإسْلامِ وهو إطْلاقٌ مَوْجُودٌ في عَصْرِ النُّبُوَّةِ كَقَوْلِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ لِلنَّبِيءِ ﷺ: يا رَسُولَ اللَّهِ ”نافَقَ حَنْظَلَةُ“ . وذَكَرَ ارْتِكابَهُ في خاصَّتِهِ ما ظَنَّهُ مَعْصِيَةً ولَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيءَ ﷺ ولَكِنْ بَيَّنَ لَهُ أنَّ ما تَوَهَّمَهُ لَيْسَ كَما تَوَهَّمَهُ، فَيَكُونُ المَعْنى أنَّهم أسْلَمُوا وبَقُوا يَرْتَكِبُونَ المَعاصِيَ خِلافَ حالِ أصْحابِ النَّبِيءِ ﷺ وقَدْ يُومِئُ إلى هَذا تَنْكِيرُ ”نِفاقًا“ المُفِيدُ أنَّهُ نِفاقٌ جَدِيدٌ، وإلّا فَقَدَ ذُكِرُوا مُنافِقِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ النِّفاقُ حاصِلًا لَهم عَقِبَ فِعْلِهِمْ هَذا. واللِّقاءُ مُصادَفَةُ الشَّيْءِ شَيْئًا في مَكانٍ واحِدٍ. فَمَعْنى إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ إلى يَوْمِ الحَشْرِ لِأنَّهُ يَوْمُ لِقاءِ اللَّهِ لِلْحِسابِ، أوْ إلى يَوْمِ المَوْتِ لِأنَّ المَوْتَ لِقاءُ اللَّهِ كَما في الحَدِيثِ «مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ»، وفَسَّرَهُ بِأنَّهُ مَحَبَّةٌ تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ الِاحْتِضارِ. وقالَ بَعْضُ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ: إنَّ اللِّقاءَ يَقْتَضِي الرُّؤْيَةَ، فاسْتَدَلَّ عَلى ثُبُوتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَعالى - بِقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿تَحِيَّتُهم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ [الأحزاب: ٤٤] في سُورَةِ الأحْزابِ فَنَقَضَ عَلَيْهِمُ الجُبّائِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ في هَذِهِ الآيَةِ فَإنَّ الِاتِّفاقَ عَلى أنَّ المُنافِقِينَ لا يَرَوْنَ اللَّهَ. وقَدْ تَصَدّى الفَخْرُ لِإبْطالِ النَّقْضِ بِما يُصَيِّرُ الِاسْتِدْلالَ ضَعِيفًا، والحَقُّ أنَّ اللِّقاءَ لا يَسْتَلْزِمُ الرُّؤْيَةَ. وقَدْ ذَكَرَ في نَفْحِ الطِّيبِ في تَرْجَمَةِ أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ قِصَّةً في الِاسْتِدْلالِ بِآيَةِ الأحْزابِ عَلى بَعْضِ مُعْتَزِلَةِ الحَنابِلَةِ ونَقَضَ الحَنْبَلِيُّ المُعْتَزِلِيُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ. والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أوْ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ بِسَبَبِ إخْلافِهِمْ وعْدَ رَبِّهِمْ وكَذِبِهِمْ. وعَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمْ بِصِيغَةِ ﴿كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ لِدَلالَةِ ”كانَ“ عَلى أنَّ الكَذِبَ كائِنٌ فِيهِمْ ومُتَمَكِّنٌ مِنهم، ودَلالَةُ المُضارِعِ عَلى تَكَرُّرِهِ وتَجَدُّدِهِ. وفِي هَذا دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ الحَذَرِ مِن إحْداثِ الأفْعالِ الذَّمِيمَةِ فَإنَّها تُفْسِدُ الأخْلاقَ الصّالِحَةَ ويَزْدادُ الفَسادُ تَمَكُّنًّا مِنَ النَّفْسِ بِطَبِيعَةِ التَّوَلُّدِ الَّذِي هو نامُوسُ الوُجُودِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب