قَوْلُهُ: عَزَّ وجَلَّ:
﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَلاةَ وآتَوُا الزَكاةَ فَإخْوانُكم في الدِينِ ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَإنْ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِكم فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهم لا أيْمانَ لَهم لَعَلَّهم يَنْتَهُونَ﴾
"تابُوا": رَجَعُوا عن حالِهِمْ، والتَوْبَةُ مِنهم تَتَضَمَّنُ الإيمانَ، ثُمَّ قَرَنَ تَعالى بِإيمانِهِمْ إقامَةَ الصَلاةِ وإيتاءَ الزَكاةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: حَرَّمَتْ هَذِهِ الآيَةُ دِماءَ أهْلِ القِبْلَةِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَرَنَ اللهُ الصَلاةَ بِالزَكاةِ ولَمْ يَرْضَ بِإحْداهُما دُونَ الأُخْرى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وعَلى هَذا مَرَّ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وقْتَ الرِدَّةِ.
والأُخُوَّةُ في الدِينِ هي أُخُوَّةُ الإسْلامِ، وجَمْعُ الأخِ مِنها: إخْوانٌ، وجَمْعُهُ مِنَ النَسَبِ: إخْوَةٌ قالَهُ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ الأخَ مِنَ النَسَبِ يُجْمَعُ عَلى إخْوانٍ (p-٢٦٩)أيْضًا، وذَلِكَ ظاهِرٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكم أو بُيُوتِ آبائِكم أو بُيُوتِ أُمَّهاتِكم أو بُيُوتِ إخْوانِكم أو بُيُوتِ أخَواتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] ويُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ: ﴿أو صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ في هَذِهِ السُورَةِ: ﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكُمْ﴾ [التوبة: ٢٤] الآيَةُ. فَأمّا الأخُ مِنَ التَوادِّ فَفي كِتابِ اللهِ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠].
وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ في البُخارِيِّ: "كانَ إخْوَتِي مِنَ المُهاجِرِينَ يَشْغَلُهم صَفْقٌ بِالأسْواقِ"، فَيَصِحُّ مِن هَذا كُلِّهِ أنَّ الأخَ يُجْمَعُ إخْوَةً وإخْوانًا سَواءٌ كانَ مِن نَسَبٍ أو مَوَدَّةِ، وتَفْصِيلُ الآياتِ: بَيانُها وإيضاحُها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ نَكَثُوا أيْمانَهُمْ﴾ الآيَةُ. النَكْثُ: النَقْضُ، وأصْلُهُ في كُلِّ ما قُبِلَ ثُمَّ حُلَّ، فَهي في الأيْمانِ والعُهُودُ مُسْتَعارَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ﴾ أيْ بِالِاسْتِنْقاصِ والحَرْبِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَفْعَلُهُ المُشْرِكُ، وهَذِهِ اسْتِعارَةٌ، ومِنهُ «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ حِينَ أمَّرَ أُسامَةَ: "إنْ تَطْعَنُوا في إمارَتِهِ فَقَدْ طَعنتُمْ في إمارَةِ أبِيهِ مِن قَبْلُ"» الحَدِيثُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويَلِيقُ هُنا ذِكْرُ شَيْءٍ مِن طَعْنِ الذِمِّيِّ في الدِينِ، فالمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: أنَّهُ إذا فَعَلَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ مِثْلُ تَكْذِيبِ الشَرِيعَةِ وسَبِّ النَبِيِّ ﷺ ونَحْوِهِ قُتِلَ، وقِيلَ: إذا كَفَرَ وأعْلَنَ بِما هو مَعْهُودٌ مِن مُعْتَقَدِهِ، وكُفْرِهِ أُدِّبَ عَلى الإعْلانِ وتُرِكَ، وإذا كَفَرَ بِما لَيْسَ مِن مَعْهُودِ كُفْرِهِ كالسَبِّ ونَحْوِهِ قُتِلَ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ في هَذا: إنَّهُ يُسْتَتابُ، (p-٢٧٠)واخْتُلِفَ إذا سَبَّ الذِمِّيُّ النَبِيَّ ﷺ ثُمَّ أسْلَمَ تَقِيَّةَ القَتْلِ، فالمَشْهُورُ مِنَ المَذْهَبِ أنْ يُتْرَكَ، وقَدْ قالَ ﷺ: « "الإسْلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ"»، وفي "العَتَبِيَّةِ" أنَّهُ يُقْتَلُ ولا يَكُونُ أحْسَنَ حالًا مِنَ المُسْلِمِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ أيْ: رُؤُوسُهم وأعْيانُهُمُ الَّذِينَ يَقُودُونَ الناسَ إلَيْهِ، وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ بِهَذا أبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ، وعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وغَيْرُهم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا -إنْ لَمْ يُتَأوَّلْ أنَّهُ ذَكَرَهم عَلى جِهَةِ المِثالِ- ضَعِيفٌ، لِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِكَثِيرٍ، ورُوِيَ عن حُذَيْفَةَ أنَّهُ قالَ: لَمْ يَجِئْ هَؤُلاءِ بَعْدُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
يُرِيدُ: لَمْ يَنْقَرِضُوا فَهم يَحْيَوْنَ أبَدًا ويُقْتَلُونَ، وأصْوَبُ ما في هَذا أنْ يُقالَ: إنَّهُ لا يُعْنى بِها مُعَيَّنٌ، وإنَّما وقَعَ الأمْرُ بِقِتالِ أئِمَّةِ الناكِثِينَ بِالعُهُودِ مِنَ الكَفَرَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، واقْتَضَتْ حالُ كُفّارِ العَرَبِ ومُحارِبِي رَسُولِ اللهِ ﷺ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلَيْهِمْ أوَّلًا بِقَوْلِهِ: ﴿أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾، وهم حَصَلُوا حِينَئِذٍ تَحْتَ اللَفْظَةِ إذِ الَّذِي يَتَوَلّى قِتالَ النَبِيِّ ﷺ والدَفْعَ في صَدْرِ شَرِيعَتِهِ هو إمامُ كُلِّ مَن يَكْفُرُ بِذَلِكَ الشَرْعِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ تَأْتِي في كُلِّ جِيلٍ مِنَ الكُفّارِ أئِمَّةٌ خاصَّةٌ بِجِيلٍ جِيلٍ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "أيِمَّةَ" بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ وبَعْدَها ياءٌ مَكْسُورَةٌ، وقَدْ رُوِيَ عن نافِعٍ مَدُّ الهَمْزَةِ، ورَوى عنهُ ابْنُ أبِي أُوَيْسٍ: "أئِمَّةَ" بِهَمْزَتَيْنِ، وأصْلُها: "أأْمِمَةٌ" وزْنُها أفَعِلَةٌ جَمْعُ إمامٍ، كَعِمادٍ وأعْمِدَةٍ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ المِيمِ إلى الهَمْزَةِ الَّتِي هي فاءُ الفِعْلِ، وأُدْغِمَتِ المِيمُ في المِيمِ الأُخْرى وقُلِبَتِ الهَمْزَةُ ياءً لِانْكِسارِها ولِاجْتِماعِ هَمْزَتَيْنِ مِن كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "أئِمَّةَ" والتَعْلِيلُ واحِدٌ، إلّا أنَّهم لَمْ يَقْلِبُوا الهَمْزَةَ ياءً. وقَرَأ المُسَيِّبِيُّ عن نافِعٍ: "آيِمَّةَ" (p-٢٧١)بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، وقَرَأ هِشامٌ عن أبِي عامِرٍ بِمَدَّةٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ. وقَرَأ الناسُ الجَمُّ الغَفِيرُ: "لا أيْمانَ لَهُمْ" عَلى جَمْعِ يَمِينٍ، ولَيْسَ المُرادُ نَفْيَ الأيْمانِ جُمْلَةً، وإنَّما المَعْنى: لا أيْمانَ لَهم يُوَفّى بِها ويُبَرُّ، وهَذا المَعْنى يُشْبِهُ الآيَةَ، وقَرَأ الحَسَنُ، وعَطاءٌ، وابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ مِنَ السَبْعَةِ: "لا إيمانَ لَهُمْ"، وهَذا يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما: لا تَصْدِيقَ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا غَيْرُ قَوِيٍّ لِأنَّهُ تَكْرِيرٌ، وذَلِكَ أنَّهُ وصَفَ أئِمَّةَ الكُفْرِ بِأنَّهم لا إيمانَ لَهُمْ، فالوَجْهُ في كَسْرِ الألِفِ أنَّهُ مَصْدَرٌ مِن آمَنَهُ إيمانًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ( آمَنَهم مِن خَوْفٍ ) فالمَعْنى أنَّهم لا يُؤَمَّنُونَ كَما يُؤَمَّنُ أهْلُ الذِمَّةِ الكِتابِيُّونَ، إذِ المُشْرِكُونَ لَمْ يَكُنْ لَهم إلّا الإسْلامُ أوِ السَيْفُ، قالَ أبُو حاتِمٍ: فَسَّرَ الحَسَنُ قِراءَتَهُ: لا إسْلامَ لَهم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والتَكْرِيرُ الَّذِي فَرَّ أبُو عَلِيٍّ مِنهُ مُتَّجِهٌ لِأنَّهُ بَيانُ المُبْهَمِ الَّذِي يُوجِبُ قَتْلَهم.
{"ayahs_start":11,"ayahs":["فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ فِی ٱلدِّینِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ","وَإِن نَّكَثُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُوا۟ فِی دِینِكُمۡ فَقَـٰتِلُوۤا۟ أَىِٕمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَاۤ أَیۡمَـٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ یَنتَهُونَ"],"ayah":"فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ فِی ٱلدِّینِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ"}