الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى أخَذْنا مِيثاقَهم فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ﴿يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ ويَعْفُو عن كَثِيرٍ﴾ "وَمِن": مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "أخَذْنا"؛ اَلتَّقْدِيرُ: "وَأخَذْنا مِنَ الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى مِيثاقَهُمْ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "وَمِنَ"؛ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿ "خائِنَةٍ مِنهُمْ"؛﴾ [المائدة: ١٣] ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ "أخَذْنا مِيثاقَهُمْ"؛﴾ اِبْتِداءَ خَبَرٍ عنهُمْ؛ والأوَّلُ أرْجَحُ؛ وعُلِّقَ كَوْنُهم نَصارى بِقَوْلِهِمْ ودَعْواهُمْ؛ مِن حَيْثُ هو اسْمٌ شَرْعِيٌّ يَقْتَضِي نَصْرَ دِينِ اللهِ؛ وسَمَّوْا بِهِ أنْفُسَهم دُونَ اسْتِحْقاقٍ؛ ولا مُشابَهَةٍ بَيْنَ فِعْلِهِمْ؛ وقَوْلِهِمْ؛ فَجاءَتْ هَذِهِ العِبارَةُ مُوَبِّخَةً لَهُمْ؛ مُزَحْزِحَةً عن طَرِيقِ نَصْرِ دِينِ اللهِ ؛ وأنْبِيائِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ﴾ ؛ مَعْناهُ: أثْبَتْناها بَيْنَهُمْ؛ وألْصَقْناها؛ والإغْراءُ مَأْخُوذٌ (p-١٣٢)مِنَ الغِراءِ الَّذِي يُلْصَقُ بِهِ؛ والضَمِيرِ في "بَيْنَهُمُ"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اليَهُودِ؛ والنَصارى؛ لِأنَّ العَداوَةَ بَيْنَهم مَوْجُودَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى النَصارى فَقَطْ؛ لِأنَّها أُمَّةٌ مُتَقاتِلَةٌ؛ بَيْنَها الفِتَنُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ؛ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِعِقابِ الآخِرَةِ؛ إذْ إنْباؤُهم بِصُنْعِهِمْ إنَّما هو تَقْرِيرٌ؛ وتَوْبِيخٌ لِلْعَذابِ؛ إذْ صُنْعُهم كُفْرٌ يُوجِبُ الخُلُودُ في النارِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أهْلَ الكِتابِ﴾ ؛ لَفْظٌ يَعُمُّ اليَهُودَ والنَصارى؛ ولَكِنَّ نَوازِلَ الإخْفاءِ - كالرَجْمِ؛ وغَيْرِهِ - إنَّما حُفِظَتْ لِلْيَهُودِ؛ لِأنَّهم كانُوا مُجاوِرِي رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في مَهاجِرِهِ؛ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: أوَّلُ ما نَزَلَ مِن هَذِهِ السُورَةِ هاتانِ الآيَتانِ في شَأْنِ اليَهُودِ والنَصارى؛ ثُمَّ نَزَلَ سائِرُ السُورَةِ بِعَرَفَةَ؛ في حِجَّةِ الوَداعِ. وقَوْلُهُ: "رَسُولُنا"؛ يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وفي الآيَةِ الدَلالَةُ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ؛ لِأنَّ إعْلامَهُ بِخَفِيِّ ما في كُتُبِهِمْ؛ وهو أُمِّيٌّ لا يَقْرَأُ؛ ولا يَصْحَبُ القَرَأةَ؛ دَلِيلٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ إنَّما يَأْتِيهِ مِن عِنْدِ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى. وأشْهَرُ النَوازِلِ الَّتِي أخْفَوْها فَأظْهَرَها اللهُ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ؛ أمْرُ الرَجْمِ؛ وحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ؛ ومِن ذَلِكَ صِفاتُ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ؛ و"مِنَ الكِتابِ"؛ يَعْنِي: مِنَ التَوْراةِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْفُو عن كَثِيرٍ﴾ ؛ مَعْناهُ: ويَتْرُكُ كَثِيرًا لا يَفْضَحُكم فِيهِ؛ إبْقاءً عَلَيْكُمْ؛ وهَذا المَتْرُوكُ هو في مَعْنى افْتِخارِهِمْ؛ ووَصْفِهِمْ أيّامَ اللهِ قِبَلَهُمْ؛ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا لا يَتَعَيَّنُ في مِلَّةِ الإسْلامِ فَضْحُهم فِيهِ؛ وتَكْذِيبُهُمْ؛ والفاعِلُ في "وَيَعْفُو"؛ هو مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُسْتَنَدَ الفِعْلُ إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى؛ وإذا كانَ العَفْوُ مِنَ النَبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - فَبِأمْرِ رَبِّهِ؛ وإنْ كانَ مِنَ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى-؛ فَعَلى لِسانِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ والِاحْتِمالانِ قَرِيبٌ بَعْضُهُما مِن بَعْضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب