الباحث القرآني

﴿يا أهْلَ الكِتابِ﴾ التِفاتٌ إلى خِطابِ الفَرِيقَيْنِ عَلى أنَّ الكِتابَ جِنْسٌ شامِلٌ لِلتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، إثْرَ بَيانِ أحْوالِهِما مِنَ الخِيانَةِ، وغَيْرِها مِن فُنُونِ القَبائِحِ، ودَعْوَةٌ لَهم إلى الإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ والقرآن، وإيرادُهم بِعُنْوانِ أهْلِيَّةِ الكِتابِ لِانْطِواءِ كَلامِ المُصَدَّرِ بِهِ عَلى ما يَتَعَلَّقُ بِالكِتابِ، (p-18)وَلِلْمُبالَغَةِ في التَّشْنِيعِ، فَإنَّ أهْلِيَّةَ الكِتابِ مِن مُوجِباتِ مُراعاتِهِ، والعَمَلِ بِمُقْتَضاهُ، وبَيانِ ما فِيهِ مِنَ الأحْكامِ، وقَدْ فَعَلُوا مِنَ الكَتْمِ والتَّحْرِيفِ ما فَعَلُوا وهم يَعْلَمُونَ. ﴿قَدْ جاءَكم رَسُولُنا﴾ الإضافَةُ لِلتَّشْرِيفِ والإيذانِ بِمَوْجُوبِ اتِّباعِهِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ حالٌ مِن رَسُولِنا، وإيثارُ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ عَلى غَيْرِها لِلدَّلالَةِ عَلى تَجَدُّدِ البَيانِ؛ أيْ: قَدْ جاءَكم رَسُولُنا حالَ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَكم عَلى التَّدْرِيجِ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ المَصْلَحَةُ. ﴿كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ﴾؛ أيِ: التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، كَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وآيَةِ الرَّجْمِ في التَّوْراةِ، وبِشارَةِ عِيسى بِأحْمَدَ عَلَيْهِما السَّلامُ في الإنْجِيلِ. وتَأْخِيرُ كَثِيرًا عَنِ الجارِّ والمَجْرُورِ لِما مَرَّ مِرارًا مِن إظْهارِ عِنايَةٍ بِالمُقَدَّمِ، لِما فِيهِ مِن تَعْجِيلِ المَسَرَّةِ والتَّشْوِيقِ إلى المُؤَخَّرِ؛ لِأنَّ ما حَقُّهُ التَّقْدِيمُ إذا أُخِّرَ، لا سِيَّما الإشْعارُ بِكَوْنِهِ مِن مَنافِعِ المُخاطَبِ تَبْقى النَّفْسُ مُتَرَقِّبَةً إلى وُرُودِهِ، فَيَتَمَكَّنُ عِنْدَها إذا ورَدَ فَضْلَ تَمَكُّنٍ، ولِأنَّ في المُؤَخَّرِ ضَرْبَ تَفْصِيلٍ رُبَّما يُخِلُّ تَقْدِيمُهُ بِتَجاذُبِ أطْرافِ النَّظْمِ الكَرِيمِ، فَإنَّ " مِمّا " مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِكَثِيرًا، و" ما " مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ وما بَعْدَها صِلَتُها، والعائِدُ إلَيْها مَحْذُوفٌ، ومِنَ الكِتابِ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِنَ العائِدِ المَحْذُوفِ، والجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَيِ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِهِمْ عَلى الكَتْمِ والإخْفاءِ؛ أيْ: يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِنَ الَّذِي تُخْفُونَهُ عَلى الِاسْتِمْرارِ حالَ كَوْنِهِ مِنَ الكِتابِ الَّذِي أنْتُمْ أهْلُهُ والمُتَمَسِّكُونَ بِهِ. ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾؛ أيْ: ولا يُظْهِرُ كَثِيرًا مِمّا تُخْفُونَهُ، إذا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ داعِيَةٌ دِينِيَّةٌ؛ صِيانَةً لَكم عَنْ زِيادَةِ الِافْتِضاحِ، كَما يُفْصِحُ عَنْهُ التَّعْبِيرُ عَنْ عَدَمِ الإظْهارِ بِالعَفْوِ، وفِيهِ حَثٌّ لَهم عَلى عَدَمِ الإخْفاءِ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ داخِلَةٌ في حُكْمِها. وقِيلَ: يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنكم ولا يُؤاخِذُهُ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أنَّ فائِدَةَ مَجِيءِ الرَّسُولِ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِيما ذُكِرَ مِن بَيانِ ما كانُوا يُخْفُونَهُ، بَلْ لَهُ مَنافِعُ لا تُحْصى. و" مِنَ اللَّهِ " مُتَعَلِّقٍ بِجاءَ، و" مِن " لِابْتِداءِ الغايَةِ مَجازًا، أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن نُورٌ، وأيًّا ما كانَ فَهو تَصْرِيحٌ بِما يُشْعِرُ بِهِ إضافَةُ الرَّسُولِ مِن مَجِيئِهِ مِن جَنابِهِ عَزَّ وجَلَّ. وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفاعِلِ لِلْمُسارَعَةِ إلى بَيانِ كَوْنِ المَجِيءِ مِن جِهَتِهِ العالِيَةِ، والتَّشْوِيقِ إلى الجائِي، ولِأنَّ فِيهِ نَوْعَ تَطْوِيلٍ يُخِلُّ تَقْدِيمُهُ بِتَجاوُبِ أطْرافِ النَّظْمِ الكَرِيمِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجاءَكَ في هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ . وَتَنْوِينُ " نُورٌ " لِلتَّفْخِيمِ، والمُرادُ بِهِ، وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكِتابٌ مُبِينٌ﴾: القرآن، لِما فِيهِ مِن كَشْفِ ظُلُماتِ الشِّرْكِ والشَّكِّ، وإبانَةِ ما خَفِيَ عَلى النّاسِ مِنَ الحَقِّ، والإعْجازِ البَيِّنِ. والعَطْفُ لِتَنْزِيلِ المُغايَرَةِ بِالعُنْوانِ مَنزِلَةَ المُغايَرَةِ بِالذّاتِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأوَّلِ: هو الرَّسُولُ ﷺ، وبِالثّانِي: القرآن.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب