الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى المَلإ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسى إذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا نُقاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ ألا تُقاتِلُوا﴾ هَذِهِ الآيَةُ خَبَرٌ عن قَوْمٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، نالَتْهم ذِلَّةٌ وغَلَبَةٌ عَدُوٌّ، فَطَلَبُوا الإذْنَ في الجِهادِ وأنْ يُؤْمَرُوا بِهِ، فَلَمّا أُمِرُوا كَعَّ أكْثَرُهم وصَبَرَ الأقَلُّ فَنَصَرَهُمُ اللهُ. وفي هَذا كُلِّهِ مِثالٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَحْذَرَ المَكْرُوهَ مِنهُ ويَقْتَدِي بِالحُسْنِ. و"المَلَأُ" في هَذِهِ الآيَةِ جَمِيعُ القَوْمِ، لِأنَّ المَعْنى يَقْتَضِيهِ، وهَذا هو أصْلُ اللَفْظَةِ، ويُسَمّى الأشْرافُ المَلَأ تَشْبِيهًا. وقَوْلُهُ: ﴿مِن بَعْدِ مُوسى﴾ مَعْناهُ: مِن بَعْدِ مَوْتِهِ وانْقِضاءِ مَدَّتِهِ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في النَبِيِّ الَّذِي قِيلَ لَهُ: "ابْعَثْ" -فَقالَ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ، عن وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: هو شَمُوِيلُ بْنُ بالِي. وقالَ السُدِّيُّ: هو شَمْعُونُ. وقالَ قَتادَةُ: هو يُوشَعُ بْنُ نُونَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأنَّ مُدَّةَ داوُدَ هي بَعْدَ مُدَّةِ مُوسى بِقُرُونٍ مِنَ الناسِ، ويُوشَعُ هو (p-٦١٥)فَتى مُوسى، وكانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ تَغْلِبُ مَن حارَبَها. ورُوِيَ أنَّها كانَتْ تَضَعُ التابُوتَ الَّذِي فِيهِ السَكِينَةُ والبَقِيَّةُ في مَأْزِقِ الحَرْبِ فَلا تَزالُ تَغْلِبُ حَتّى عَصَوْا، وظَهَرَتْ فِيهِمُ الأحْداثُ وخالَفَ مُلُوكُهُمُ الأنْبِياءَ واتَّبَعُوا الشَهَواتِ. وقَدْ كانَ اللهُ تَعالى قَدْ أقامَ أُمُورَهم بِأنْ يَكُونَ أنْبِياؤُهم يُسَدِّدُونَ مُلُوكَهُمْ، فَلَمّا فَعَلُوا ما ذَكَرْناهُ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ أُمَمًا مِنَ الكَفَرَةِ فَغَلَبُوهُمْ، وأخَذَ لَهُمُ التابُوتَ في بَعْضِ الحُرُوبِ، فَذَلَّ أمْرُهم. وقالَ السُدِّيُّ: كانَ الغالِبُ لَهم جالُوتُ وهو مِنَ العَمالِقَةِ، فَلَمّا رَأوا أنَّهُ الِاصْطِلامُ وذَهابُ الذَكَرِ أنِفَ بَعْضُهُمْ، وتَكَلَّمُوا في أمْرِهِمْ. حَتّى اجْتَمَعَ مَلَؤُهم عَلى أنْ قالُوا لِنَبِيِّ الوَقْتِ: ﴿ابْعَثْ لَنا مَلِكًا﴾، الآيَةُ، وإنَّما طَلَبُوا مَلِكًا يَقُومُ بِأمْرِ القِتالِ، وكانَتِ المَمْلَكَةُ في سِبْطٍ مِن أسْباطِ بَنِي إسْرائِيلَ يُقالُ لَهم بَنُو يَهُوذا، فَعَلِمَ النَبِيُّ بِالوَحْيِ أنَّهُ لَيْسَ في بَيْتِ المَمْلَكَةِ مَن يَقُومُ بِأمْرِ الحَرْبِ، ويَسَّرَ اللهُ لِذَلِكَ طالُوتَ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "نُقاتِلُ" بِالنُونِ وجَزْمِ اللامِ عَلى جَوابِ الأمْرِ. وقَرَأ الضَحّاكُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ "يُقاتِلُ" بِالياءِ ورَفْعِ الفِعْلِ فَهو في مَوْضِعِ الصِفَةِ لِلْمَلِكِ. وأرادَ النَبِيُّ المَذْكُورُ عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يَتَوَثَّقَ مِنهم فَوَقَفَهم عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ وسَبَرَ ما عِنْدَهم بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ وقَرَأ نافِعٌ: "عَسَيْتُمْ" بِكَسْرِ العَيْنِ في المَوْضِعَيْنِ، وفَتَحَ الباقُونَ السِينَ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: الأكْثَرُ فَتْحً السِينِ وهو المَشْهُورُ. ووَجْهُ الكَسْرِ قَوْلُ العَرَبِ: هو عَسٌّ بِذَلِكَ، مِثْلُ حُرٌّ وشَجٌّ، وقَدْ جاءَ فَعَلَ وفَعِلَ في نَحْوِ: نَقَمَ ونَقِمَ، فَكَذَلِكَ عَسَيْتُ وعَسِيتُ، فَإنْ أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ظاهِرٍ فَقِياسُ عَسَيْتُمْ أنْ يُقالَ: عَسِيَ زَيْدٌ مِثْلُ رَضِيَ. فَإنْ قِيلَ -فَهُوَ القِياسُ، وإنْ لَمْ يَقُلْ فَسائِغٌ أنْ يُؤْخَذَ بِاللُغَتَيْنِ، فَيُسْتَعْمَلُ (p-٦١٦)إحْداهُما في مَوْضِعِ الأُخْرى كَما فَعَلَ ذَلِكَ في غَيْرِهِ. ومَعْنى هَذِهِ المَقالَةِ: هَلْ أنْتُمْ قَرِيبٌ مِنَ التَوَلِّي والفِرارِ إنَّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ؟ *** قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا وما لَنا ألا نُقاتِلَ في سَبِيلِ اللهِ وقَدْ أُخْرِجْنا مِن دِيارِنا وأبْنائِنا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ تَوَلَّوْا إلا قَلِيلا مِنهم واللهُ عَلِيمٌ بِالظالِمِينَ﴾ المَعْنى: وأيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُنا ألّا نُقاتِلَ وقَدْ وُتِرْنا وأُخْرِجْنا مِن دِيارِنا؟، وقالُوا هَذِهِ المَقالَةَ وإنْ كانَ القائِلُ لَمْ يَخْرُجْ مِن حَيْثُ قَدْ أخْرَجَ مَن هو مِثْلُهُ، وفي حُكْمِهِ، ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعالى عنهم أنَّهم لَمّا فُرِضَ عَلَيْهِمُ القِتالُ ورَأوُا الحَقِيقَةَ ورَجَعَتْ أفْكارُهم إلى مُباشَرَةِ الحَرْبِ تَوَلَّوْا، أيِ اضْطَرَبَتْ نِيّاتُهُمْ، وفَتَرَتْ عَزائِمُهُمْ، وهَذا شَأْنُ الأُمَمِ المُتَنَعِّمَةِ المائِلَةِ إلى الدَعَةِ، تَتَمَنّى الحَرْبَ أوقاتَ الأنَفَةِ، فَإذا حَضَرَتِ الحَرْبُ كَعَّتْ وانْقادَتْ لِطَبْعِها. وعن هَذا المَعْنى نَهى النَبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «لا تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ، واسْألُوا اللهَ العافِيَةَ، فَإذا لَقِيتُمُوهم فاثْبُتُوا». ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعالى عن قَلِيلٍ مِنهم أنَّهم ثَبَتُوا عَلى النِيَّةِ الأُولى، واسْتَمَرَّتْ عَزِيمَتُهم عَلى القِتالِ في سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَ الظالِمِينَ في لَفْظِ الخَبَرِ الَّذِي هو قَوْلُهُ: ﴿واللهُ عَلِيمٌ بِالظالِمِينَ﴾. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "تَوَلَّوْا إلّا أنْ يَكُونَ قَلِيلٌ مِنهُمْ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب