الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الناسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَيْطانِ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ﴿إنَّما يَأْمُرُكم بِالسُوءِ والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ﴾ ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً ونِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾ الخِطابُ عامٌّ، و"ما" بِمَعْنى الَّذِي، و"حَلالًا" حالٌ مِنَ الضَمِيرِ العائِدِ عَلى "ما". وقالَ مَكِّيُّ: نَعْتٌ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: شَيْئًا حَلالًا، وهَذا يَبْعُدُ، وكَذَلِكَ مَقْصِدُ الكَلامِ لا يُعْطِي أنْ يَكُونَ "حَلالًا" مَفْعُولًا بِـ "كُلُوا". وتَأمَّلَ. و"طَيِّبًا" نَعْتٌ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ "طَيِّبًا" حالًا مِنَ الضَمِيرِ في "كُلُوا" تَقْدِيرُهُ: مُسْتَطِيبِينَ. والطَيِّبُ عِنْدَ مالِكٍ: الحَلالُ فَهو هُنا تَأْكِيدٌ لِاخْتِلافِ اللَفْظِ، وهو عِنْدَ الشافِعِيِّ المُسْتَلَذُّ، ولِذَلِكَ يَمْنَعُ أكْلَ الحَيَوانِ القَذِرِ وكُلَّ ما هو خَبِيثٌ. و"خُطُواتِ" جَمْعُ خُطْوَةٍ، وهي ما بَيْنَ القَدَمَيْنِ في المَشْيِ، فالمَعْنى: النَهْيُ عَنِ اتِّباعِ الشَيْطانِ وسُلُوكِ سُبُلِهِ وطَرائِقِهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خُطُواتُهُ: أعْمالُهُ، قالَ غَيْرُهُ: (p-٤٠٧)آثارُهُ قالَ مُجاهِدٌ: خَطاياهُ، قالَ أبُو مِجْلَزٍ: هي النُذُورُ والمَعاصِي، قالَ الحَسَنُ: نَزَلَتْ فِيما سَنُّوهُ مِنَ البَحِيرَةِ والسائِبَةِ ونَحْوِهِ، قالَ النَقّاشُ: نَزَلَتْ في ثَقِيفٍ وخُزاعَةَ وبَنِي الحارِثِ بْنِ كَعْبٍ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ: "خُطُواتٍ" بِضَمِّ الخاءِ والطاءِ، ورُوِيَتْ عن عاصِمٍ، وابْنِ كَثِيرٍ بِخِلافٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِسُكُونِ الطاءِ، فَإمّا أرادُوا ضَمَّ الخاءِ والطاءِ وخَفَّفُوها إذْ هو البابُ في جَمْعِ فِعْلَةٍ كَغُرْفَةِ وغُرُفاتِ، وإمّا أنَّهم تَرَكُوها في الجَمْعِ عَلى سُكُونِها في المُفْرَدِ. وقَرَأ أبُو السَمالِ: "خَطَواتٍ" بِفَتْحِ الخاءِ والطاءِ. ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وقَتادَةَ، والأعْمَشِ، وسَلامٍ: "خُطُؤاتٍ" بِضَمِّ الخاءِ والطاءِ وهَمْزَةٍ عَلى الواوِ، وذَهَبَ بِهَذِهِ القِراءَةِ إلى أنَّها جَمْعُ خَطَأةٍ مِنَ الخَطَأِ لا مِنَ الخَطْوِ. وكُلُّ ما عَدا السُنَنَ والشَرائِعَ مِنَ البِدَعِ والمَعاصِي فَهي خُطُواتُ الشَيْطانِ. و"عَدُوَ" يَقَعُ لِلْمُفْرَدِ والتَثْنِيَةِ والجَمْعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما يَأْمُرُكُمْ﴾ الآيَةُ، "إنَّما تَصْلُحُ لِلْحَصْرِ، وقَدْ تَجِيءُ غَيْرَ حاصِرَةٍ بَلْ لِلْمُبالَغَةِ، كَقَوْلِكَ: "إنَّما الشُجاعُ عنتَرَةُ. كَأنَّكَ تُحاوِلُ الحَصْرَ أو تُوهِمُهُ، فَإنَّما يُعْرَفُ مَعْنى "إنَّما" بِقَرِينَةِ الكَلامِ الَّذِي هي فِيهِ، فَهي في هَذِهِ الآيَةِ حاصِرَةٌ. وأمَرَ الشَيْطانُ إمّا بِقَوْلِهِ في زَمَنِ الكَهَنَةِ وحَيْثُ يَتَصَوَّرُ، وإمّا بِوَسْوَسَتِهِ، فَإذا أُطِيعَ نَفَّذَ أمْرَهُ. و"السُوءِ": مَصْدَرٌ مِن ساءَ يَسُوءُ، وهي المَعاصِي وما تَسُوءُ عاقِبَتُهُ، و"الفَحْشاءِ" قالَ السُدِّيُّ: هي الزِنا، وقِيلَ: كُلُّ ما بَلَغَ حَدًّا مِنَ الحُدُودِ، لِأنَّهُ يَتَفاحَشُ حِينَئِذٍ، وقِيلَ: (p-٤٠٨)ما تَفاحَشَ ذِكْرُهُ، وأصْلُ الفُحْشِ قُبْحُ المَنظَرِ كَما قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎ وجِيدٍ كَجِيدِ الرِئْمِ لَيْسَ بِفاحِشٍ إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَفْظَةُ فِيما يُسْتَقْبَحُ مِنَ المَعانِي. والشَرْعُ هو الَّذِي يُحَسِّنُ ويُقَبِّحُ، فَكُلُّ ما نَهَتْ عنهُ الشَرِيعَةُ فَهو مِنَ الفَحْشاءِ. و﴿ما لا تَعْلَمُونَ﴾ قالَ الطَبَرِيُّ: يُرِيدُ بِهِ ما حَرَّمُوا مِنَ البَحِيرَةِ والسائِبَةِ ونَحْوِها وجَعَلُوهُ شَرْعًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمُ﴾، يَعْنِي كُفّارَ العَرَبِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ، وقالَ الطَبَرِيُّ: الضَمِيرُ في "لَهُمُ" عائِدٌ عَلى "الناسِ" مِن قَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الناسُ كُلُوا﴾، وقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى "مِنَ" في قَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَتَّخِذُ مَن دُونِ اللهِ أنْدادًا﴾ [البقرة: ١٦٥]. و"اتَّبِعُوا" مَعْناهُ بِالعَمَلِ والقَبُولِ. و﴿ما أنْزَلَ اللهُ﴾ هو القُرْآنُ والشَرْعُ، و"ألْفَيْنا" مَعْناهُ وجَدْنا، قالَ الشاعِرُ: ؎ فَألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ∗∗∗ ولا ذاكِرَ اللهِ إلّا قَلِيلًا والألِفُ في قَوْلِهِ: "أوَلَوْ" لِلِاسْتِفْهامِ، والواوُ لِعَطْفِ جُمْلَةِ كَلامٍ عَلى جُمْلَةٍ، لِأنَّ غايَةَ الفَسادِ في الِالتِزامِ أنْ يَقُولُوا: نَتَّبِعُ آباءَنا ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ، فَقَرَّرُوا عَلى التِزامِهِمْ هَذا، إذْ هَذِهِ حالُ آبائِهِمْ. وقُوَّةُ ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ تُعْطِي إبْطالَ التَقْلِيدِ، وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى إبْطالِهِ في العَقائِدِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةُ، المُرادُ تَشْبِيهُ واعِظِ الكافِرِينَ وداعِيهِمْ، والكافِرِينَ المَوْعُوظِينَ، بِالراعِي الَّذِي يَنْعَقُ بِالغَنَمِ أوِ الإبِلِ فَلا تَسْمَعُ إلّا دُعاءَهُ ولا تَفْقَهُ ما يَقُولُ، هَكَذا فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، والسُدِّيُّ، وسِيبَوَيْهِ، فَذَكَرَ بَعْضَ هَذِهِ (p-٤٠٩)الجُمْلَةِ وبَعْضَ هَذِهِ، ودَلَّ المَذْكُورُ عَلى المَحْذُوفِ، وهَذِهِ نِهايَةُ الإيجازِ. والنَعِيقُ: زَجْرُ الغَنَمِ والصِياحُ بِها، قالَ الأخْطَلُ: ؎ انْعَقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فَإنَّما ∗∗∗ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاءِ ضَلالًا وقالَ قَوْمٌ: إنَّما وقَعَ هَذا التَشْبِيهُ بِراعِي الضَأْنِ لِأنَّها مِن أبْلَدِ الحَيَوانِ، فَهي تَحْمُقُ راعِيها، وفي المَثَلِ: "أحْمَقُ مِن راعِي ضَأْنٍ ثَمانِينَ" وقَدْ قالَ دُرَيْدُ لِمالِكِ بْنِ عَوْفٍ في يَوْمِ هَوازِنَ: "راعِي ضَأْنٍ واللهِ"، وقالَ الشاعِرُ: ؎ أصْبَحْتُ هَزْءًا لِراعِي الضَأْنِ يَهْزَأُ بِي ∗∗∗ ماذا يُرِيبُكَ مِنِّي راعِيَ الضَأْنِ؟ فَمَعْنى الآيَةِ أنَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةَ يَمُرُّ الدُعاءُ عَلى آذانِهِمْ صَفْحًا يَسْمَعُونَهُ ولا يَفْقَهُونَهُ، إذْ لا يَنْتَفِعُونَ بِفِقْهِهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى في الآيَةِ: ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في اتِّباعِهِمْ آلِهَتَهم وعِبادَتَهم إيّاها، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعَقُ بِما لا يَسْمَعُ مِنهُ شَيْئًا، إلّا دَوِيًّا غَيْرَ مُفِيدٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ الصَدى الَّذِي يَسْتَجِيبُ مِنَ الجِبالِ. ووَجْهُ الطَبَرِيُّ في الآيَةِ مَعْنًى آخَرُ وهو أنَّ المُرادَ: ومَثَلُ الكافِرِينَ في عِبادَتِهِمْ آلِهَتَهُمْ، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعَقُ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ مِنهُ، فَهو لا يَسْمَعُ مِن أجْلِ البُعْدِ، فَلَيْسَ لِلنّاعِقِ مِن ذَلِكَ إلّا النِداءُ الَّذِي يُتْعِبُهُ ويَنْصِبُهُ، فَإنَّما شَبَّهَ في هَذَيْنَ التَأْوِيلَيْنِ الكَفّارَ بِالناعِقِ، (p-٤١٠)والأصْنامَ بِالمَنعُوقِ بِهِ، وشُبِّهُوا في الصَمَمِ والبُكْمِ والعَمى بِمَن لا حاسَّةَ لَهُ، لِما لَمْ يَنْتَفِعُوا بِحَواسِّهِمْ، ولا صَرَفُوها في إدْراكِ ما يَنْبَغِي، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ...................................... ∗∗∗ أصَمُّ عَمّا ساءَهُ سَمِيعٌ ولَمّا تَقَرَّرَ فَقْدُهم لِهَذِهِ الحَواسِّ قَضى بِأنَّهم لا يَعْقِلُونَ، إذِ العَقْلُ -كَما قالَ أبُو المَعالِي وغَيْرُهُ- عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ تُعْطِيها هَذِهِ الحَواسَّ، إذْ لا بُدَّ في كَسْبِها مِنَ الحَواسِّ. وتَأمَّلْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب