الباحث القرآني
قال اللهُ تعالى: ﴿ياأَيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: ١٦٨].
الأصلُ في الأشياءِ الحِلُّ:
هذا خطابٌ مِن اللهِ للناسِ كافَّةً، لبيانِ أنّ الأصلَ فيما أوجَدَهُ اللهُ في الأرضِ مِن مأكولاتٍ: الحِلُّ، ويظهرُ العمومُ في قوله: ﴿مِمّا فِي الأَرْضِ﴾ بلا تخصيصٍ أو تقييدٍ، و«مِن» في الآيةِ: لتبعيضِ المأكولِ المقدورِ على أكلِه، لا لتبعيضِ الأكلِ المباحِ كلِّه، فالإنسانُ لا يستطيعُ أكْلَ كلِّ ما في الأرضِ.
والإباحةُ أُخِذَتْ مِن قولِه: ﴿كُلُوا﴾، لأنّ الأمرَ لا يكونُ إلا على شيءٍ مباحٍ ومشروعٍ، ولا يأمُرُ الشارعُ بشيءٍ يخرُجُ عن هذا، ولكنَّه أكَّدَ الإباحةَ بمؤكِّداتٍ، منها قولُه: ﴿حَلالًا﴾، وهو إيضاحٌ لسببِ الأمرِ بالأكلِ، أيْ: لكونِه حلالًا.
وزاد في بيانِ الحِلِّيَّةِ بوصفِهِ بالطيِّبِ، والطيِّبُ ما تستطيبُهُ النفوسُ المستقيمةُ المعتدِلةُ، وليس الشاذَّةَ، وبعضُ النفوسِ قد يطرَأُ عليها تبديلٌ للفِطْرةِ، وهذه غيرُ معتبَرةٍ.
ووصفُ الطيِّبِ للمأكولِ المباحِ علَمٌ يُعرَفُ به، ويُكْتَفى به عندَ إرادةِ بيانِه، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ [المائدة: ٤]، وقال: ﴿اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ [المائدة: ٥].
والنفوسُ بجميعِ مِلَلِها مؤمِنةً وكافِرةً، مفطورةٌ على استطابةِ الطَّيِّبِ واستخباثِ الخبيثِ، ولهذا جاء الخطابُ لبَنِي آدمَ كافَّةً: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [الإسراء: ٧٠]، وكلُّ أمَّةٍ يخاطِبُها اللهُ بالأكلِ يكتفِي بوصفِه بالطيِّبِ، قال تعالى عن بني إسرائيلَ: ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٥٧].
إلا أنّه يطرأُ على بعضِ نفوسِ بني آدمَ تبديلٌ، كما يطرأُ عليها تبديلٌ في معبودِها، كما في الحديثِ في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ، كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ؟!)، ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠] الآيَةَ[[أخرجه البخاري (١٣٥٩) (٢/٩٥)، ومسلم (٢٦٥٨) (٤/٢٠٤٧).]].
وقد وجَّهَ اللهُ خطابَهُ للناسِ كافَّةً بإباحةِ كلِّ ما في الأرضِ واصفًا إيّاهُ بالطَّيِّبِ، لإدراكِهِمْ جميعًا لمعناهُ: ﴿ياأَيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾، والنفوسُ هي التي يقعُ منها التبديلُ، لهوًى أو مسخٍ، قال تعالى: ﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ [النساء: ٢].
ولاستواءِ النفوسِ في إدراكِ الطيِّبِ مِن المأكلِ، وجَّهَ سبحانه الخطابَ بالصيغةِ نفسِها حتى للرُّسُلِ: ﴿ياأَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [المؤمنون: ٥١].
والوصفُ بالطيِّبِ دليلُ امتنانٍ، والامتنانُ مِن قرائنِ الإباحةِ، والقرينةُ لا يُحتاجُ إليها إلا عندَ فقْدِ النصِّ الصريحِ، ولكنَّه ذكَرَها هنا، إشعارًا بأنّ الإباحةَ هنا ليستْ لمباحٍ تستوي جهاتُهُ فتوسَّطَ بين التحريمِ والوجوبِ، ولكنَّه لمباحٍ فوقَ ذلك يستوجِبُ شكرًا للهِ.
ويُؤخذُ مِن هذه الآيةِ: أنّ مِن علاماتِ ما لم يُستَثْنَ مِن أصلِ الحِلِّ: ما عرَفَتْهُ النفسُ بالطيِّبِ، ولم يُستخبَثْ، كما في قولِه تعالى: ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
وإذا اختلَطَ على النفسِ معرفةُ الطيِّبِ من الخبيثِ لانتكاسةِ الفِطَرِ، فيُرجَعُ إلى عمومِ النصِّ، لأنّ العمومَ هنا أقوى، فمضمونُ العمومِ الإباحةُ، وأمّا الاستخباثُ، فمخصِّصٌ للعمومِ، وإذا ضَعُفَ إعمالُ المخصِّصِ، بقِي اللفظُ على عمومِه.
فالإباحةُ دُلَّ عليها بالنداءِ لعمومِ الناسِ، وبقولِه: ﴿كُلُوا﴾، وبقولِه: ﴿حَلالًا طَيِّبًا﴾، وبالاستثناءِ مِن العامِّ: ﴿ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾، وذلك أنّ الاستثناءَ يُفيدُ العمومَ للمستثنى منه، لأنّ المستثنى عادةً يكونُ أقلَّ مِن المستثنى منه.
فضلُ نعمةِ الأكلِ على غيرها من النِّعَمِ:
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ الأصلَ في كلِّ مسكونٍ ومطعومٍ وملبوسٍ: الحِلُّ، وإنّما خَصَّ الأكلَ بالذِّكْرِ، لأنّه أظهرُ النِّعمِ وأولُ أسبابِ البقاءِ في الأرضِ، وكلُّ نعمةٍ تأتي بعدَه، وهو أولُ المِنَنِ التي بيَّنَها اللهُ لآدمَ، فقال: ﴿إنَّ لَكَ ألاَّ تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى ﴾ [طه: ١١٨]، وأولُ واجباتٍ على السلطانِ لرعيَّتِهِ: كفايتُهم الطعامَ، وكفايتُهم اللباسَ.
والإنسانُ لا يستطيعُ العيشَ أيّامًا متتابعةً بلا أكلٍ، بينَما يعيشُ سِنِينَ بلا مَلْبَسٍ ولا مَسْكَنٍ ولا مَنكَحٍ، ولذا يَزْهَدُ الإنسانُ بمسكنِهِ وملبسِهِ ليأكُلَ، دفعًا لزوالِه، فإذا جَفَّتِ الأرضُ وأَجْدَبتْ، وحُبِسَ القَطْرُ، ارتحَلَ وترَكَ دارَهُ ومسكنَهُ ليسكُنَ في بلدٍ يأكُلُ فيها ويَشْرَبُ، ولذا فاللهُ وصَفَ الأكلَ بالطيِّبِ في القرآنِ أكثَرَ مِن المَلْبَسِ والمسكنِ والمَنكَحِ.
وبَيَّنَ اللهُ أنّ الأصلَ في المأكولِ الحِلُّ، حتى لا تَضِيقَ نفسُهُ بالمحرَّمِ المعدودِ، فإنّ عَدَّ المحرَّماتِ مِن غيرِ بيانِ الأصلِ يُدخِلُ في النفسِ التشوُّفَ إليها والتفكُّرَ فيها، حتى ينشغِلَ الإنسانُ بها فيَطْمَعَ في أكلِها، كما كان ذلك من آدَمَ عليه السلام: أُحِلَّتْ له الجنةُ كلُّها شجرًا ونهرًا ولحمًا إلا شَجَرةً واحدةً، فأكثَرَ عليه الشيطانُ التفكُّرَ فيها، حتى تشوَّفَتِ النفسُ فأكَلَ، فضاقتْ على آدمَ الجنةُ مع سَعَتِها، واتَّسعَتِ الشجرةُ مع ضِيقِها، فكيف بإبليسَ في دنيا ضيقةٍ، ومحرَّماتٍ عِدَّةٍ؟!
وإذا كانتْ نعمةُ الأكلِ هي أعظمَ نِعَمِ البقاءِ للإنسانِ، والأصلُ فيها الحِلَّ، فمِن بابِ أولى ما كان دُونَها مِن ملبسٍ ومسكنٍ، إلا ما خَصَّهُ الدليلُ بتحريمٍ، لعِظَمِ الوقوعِ فيه بلا استباحةٍ، كالمَنكَحِ.
الأصلُ في النكاحِ الحِلُّ:
وقد يُقالُ: إنّ الأصلَ في النكاحِ: الحِلُّ عندَ توافُرِ شروطِه وانتفاءِ موانعِه، فالمحرَّماتُ على التأبيدِ على الإنسانِ قليلةٌ، والمباحاتُ له على الدوامِ أكثرُ، ولكنَّ الشريعةَ ضبَطَتِ الإباحةَ وقيَّدتْها، ولذا قال اللهُ تعالى: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣]، فأطلَقَ الحِلَّ ووصَفَهُ بالطيِّبِ، ثمَّ بَيَّنَ قيودَهُ.
وكما أنّ اللهَ أباحَ للإنسانِ لحمَ الحيوانِ، وقيَّدَ إباحتَهُ بأنْ يكونَ ذُبِحَ للهِ لا لغيرِه، كذلك النكاحُ الأصلُ فيه الحِلُّ، ويُشترَطُ أنْ يكونَ على حُكْمِ اللهِ وشروطِهِ التي وضَعَ، وكذلك فيجوزُ له وطْءُ الإماءِ بلا عددٍ وحصرٍ.
هذا وجهٌ لمَن قال: «إنّ الأصلَ في الفُرُوجِ الإباحةُ».
والأشهرُ القولُ بالتحريمِ، لأنّ ما خصَّصه الشارعُ له أقلُّ ممّا منَعَهُ منه، فقيَّدَ له الجمْعَ بأربعةِ شروطٍ، ومنَعَه من الزيادةِ.
وذكَرَ جماعةٌ مِن الفقهاءِ مِن المالكيَّةِ والشافعيَّةِ وغيرِهم: أنّ الأصلَ في الحَيَوانِ التحريمُ، قالوا: لأنّه لا يَحِلُّ إلا بالذَّكاةِ والصيدِ، ويَضبِطونَ القاعدةَ بقولِهم: «الأصلُ في الذبائحِ والصيدِ: التحريمُ»، وهذا صحيحٌ، ولكنَّ ذَبْحَهُ وصيدَهُ لا يُخرِجُهُ عن أصلِ إباحتِه.
والأصلُ المتقرِّرُ عندَ الشافعيِّ: حِلُّ الأشياءِ، إلا ما فُصِّلَ تحريمُهُ بدليلٍ.
وإنّما ذكَرَ اللهُ الأرضَ، لدخولِ جميعِ أجزائِها فيها، كالبحرِ والنهرِ والبَرِّ، سهلًا وجبلًا، فالأرضُ اسمٌ لعمومِ ما كان تحتَ قدمِ الإنسانِ.
سَعَةُ الحلالِ، وضيقُ الحرامِ:
ونهيُهُ سبحانَهُ عن اتِّباعِ خطواتِ الشيطانِ: ﴿ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾: إشارةٌ إلى أنّ هناك محرَّماتٍ مستثناةً مِن الأصلِ المباحِ، ولكنَّها يسيرةٌ، فوصَفَها بالخطواتِ مِن سَعَةِ الأرضِ، فاللهُ سبحانه أباح الأرضَ بأميالِها سهولًا وجبالًا، وبحارًا وأنهارًا، وحَرَّمَ خطواتٍ يسيرةً للشيطانِ، وإذا انشغَلَ عقلُ الإنسانِ بخطواتِ الشيطانِ، أحبَّها ورأى أنّها تعادِلُ سَعةَ الأرضِ، وأنّ حريَّتَهُ سُلِبَتْ.
وكثيرٌ مِن المنشغلينَ بمبادئِ الحرياتِ في عصرِنا يُدِيمُ النظرَ في الممنوعِ الضيِّقِ، ويعطِّلُ نظرَهُ عن المباحِ الواسعِ، فيَرى أنّ الممنوعَ أعظمُ وأوسعُ، فيَرى أنّه سُلِبَ حريةَ الاختيارِ، واللهُ أحَلَّ الأرضَ كلَّها، وحرَّمَ خطواتٍ يسيرةً منها، والحريةُ أنْ تعيشَ في سَعَةِ الأرضِ، لا في ضِيقِ الخطواتِ، ومَن عاش في ضِيقِ خطواتِ الشيطانِ، فإنّه لا يُبصِرُ أنّ الشيطانَ سلَبَهُ حريتَهُ مِن الأرضِ الواسعةِ، ليُقَيِّدَ عيشَهُ في خطواتٍ منها.
واللهُ تعالى وصَفَ الشيطانَ بالعداوةِ للإنسانِ، والعداوةُ للإنسانِ على مراتبَ، أعلاها وأَبْيَنُها وضوحًا: العداوةُ التي لا ينتفعُ منها المعتدِي، وإنّما يفعلُها كيدًا ومَكْرًا بالعدوِّ، وهذه عداوةُ إبليسَ، فليس له انتفاعٌ مِن عداوةِ الإنسانِ، ولذا وصَفَ اللهُ عداوتَه بالمُبِينَةِ: ﴿إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾.
وعداوةُ إبليسَ واضحةٌ، فليستِ انتقامًا تشتبِهُ بطلبِ حقٍّ، أو انتصارًا مِن مَظْلِمَةٍ، وهذه العداوةُ المُبِينَةُ التي لا تحتاجُ إلى إيضاحٍ وتحذيرٍ لكلِّ أحدٍ، ومع ذلك: حذَّرَ اللهُ عبادَهُ مِن عداوةِ الشيطانِ، لأنّ الشيطانَ لا يأتي للإنسانِ بصفتِه الشيطانيَّةِ الإبليسيَّةِ، ولكنْ يأتِيهِ مسوِّلًا له أنّ هذا في صالحِهِ ومنفعتِه، ولذا التبَستْ عداوتُه، فاللهُ يبيِّنُ حِيَلَهُ ومكايدَهُ وتلبيسَهُ أكثرَ مِن بيانِ حالِه في ذاتِه، لأنّها لا تخفى.
واللهُ إنّما نَهى عن اتِّباعِ خطواتِ الشيطانِ، تنبيهًا إلى أنّ الإنسانَ بوقوعِهِ في المحرَّمِ يَتَّبِعُ طريقَ الشيطانِ وفِعْلَهُ، فالتتبُّعُ هو تقصِّي الأثرِ لطريقٍ سُلِكَ مِن قبلُ.
ويَظهرُ من الآيةِ: أنّه ما مِن محرَّمٍ على الإنسانِ إلا والشيطانُ يفعلُهُ، إذا كان مما يَقدِرُ على فعلِهِ لطبيعتِه الخَلْقيَّةِ، ويُظهِرُ هذا: أنّ الشارعَ كثيرًا ما ينهى عن أشياءَ، ويعلِّلُ النهيَ عن فِعلِها بكونِ الشيطانِ يفعلُها، كالأكلِ بالشمالِ، والمشيِ بنعلٍ واحدةٍ، ونحوِ ذلك.
وفي الآيةِ: قرينةٌ لِمَن مالَ إلى تحريمِ الأفعالِ التي دلَّ الدليلُ على أنّ الشيطانَ يفعلُها، وأنّ النهيَ عنها على التحريمِ لا على الكراهةِ، فاللهُ جعَلَ خطواتِ الشيطانِ بمقامِ أعمالِه، فخطواتُهُ: أعمالُهُ، هكذا فسَّرَهُ السلفُ، فقد روى الطبريُّ، مِن حديثِ معاويةَ بنِ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قولَهُ: ﴿خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾، يقولُ: عملَهُ[[«تفسير الطبري» (٣/٣٨).]]، وصحَّ عن مجاهدٍ، وقتادةَ: أنّها خطاياهُ[[«تفسير الطبري» (٣/٣٨).]].
وهذه مسألةٌ لها مواضعُ لبسطِها.
وقد جعَلَ بعضُ السلفِ: أنّ ما يحرِّمُهُ الإنسانُ على نفسِه ممّا يخالِفُ أصلَ الحِلِّ ممّا لا نصَّ فيه: مِن خطواتِ الشيطانِ، فسَّرَهُ بذلك ابنُ مسعودٍ وغيرُهُ، فقد روى الطَّبَرانيُّ والبيهقيُّ مِن حديثِ أبي الضُّحا، عن مسروقٍ، قال: أُتِيَ عبدُ اللهِ بضَرْعٍ، فأخَذَ يأكُلُ منه، فقال للقومِ: ادْنُوا، فدَنا القومُ، وتنحّى رجلٌ منهم، فقال عبدُ اللهِ: ما شأنُك؟ قال: إنِّي حَرَّمْتُ الضَّرْعَ، قال: هذا مِن خُطُواتِ الشيطانِ، ادْنُ، وكُلْ، وكَفِّرْ يَمِينَكَ، ثمَّ تلا: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧] [[أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨٩٠٨) (٩/١٨٤)، والبيهقي في «الكبرى» (٧/٣٥٤).]].
وقد روى سعيدُ بنُ منصورٍ وابنُ جريرٍ، عن سُلَيْمانَ، عن أبي مِجْلَزٍ، في قولِه: ﴿ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ﴾، قال: «هي النذورُ في المعاصِي»[[أخرجه سعيد بن منصور في «تفسيره» (٢٤٢) (٢/٦٤٣)، وابن جرير في «تفسيره» (٣/٣٩).]].
ويَظهرُ هذا التأويلُ في قولِه تعالى: ﴿ومِنَ الأَنْعامِ حَمُولَةً وفَرْشًا كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أمِ الأُنْثَيَيْنِ﴾ الآياتِ [الأنعام: ١٤٢ ـ ١٤٣]، فذكَرَ الأصلَ، وهو الحِلُّ، ثمَّ حذَّرَ مِن خطواتِ الشيطانِ، وفصَّلَ بينَ الحِلِّ وتحريمِ الشيطانِ.
واللهُ تعالى وجَّهَ الخطابَ لعمومِ الناسِ في قولِه: ﴿ياأَيُّها النّاسُ﴾، وتوجيهُ الخطابِ للعمومِ، دليلٌ أنّ مضمونَ الخطابِ عامٌّ، إمّا في التحليلِ أو التحريمِ، وكلَّما اتَّسَعَتْ دائرةُ المخاطَبِينَ، اتَّسعَ مضمونُ خطابِهم.
ويدخُلُ في عمومِ قولِه تعالى: ﴿ياأَيُّها النّاسُ﴾ عمومُ البشرِ، المسلمُ والكافرُ، والخطابُ إذا توجَّهَ إلى أهلِ مِلَّتَيْنِ دلَّ على عمومِه، ولا يدخُلُهُ التقييدُ إلا في النادرِ.
وقد اختَلَفَ العلماءُ في دخولِ الكفارِ في خطابِ العمومِ في هذه الآيةِ، وهل يحاسَبُونَ في الآخِرةِ على الأكلِ مِن الأرضِ مما يُباحُ للمؤمنينَ؟ وهذا يأتي تفصيلُهُ إن شاءَ اللهُ عندَ تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾ [المائدة: ٩٣]، وقولِهِ: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [الأعراف: ٣٢].
ونصوصُ القرآنِ الأصلُ فيها أنّها غائيَّةٌ، أيْ: يُرادُ بإطلاقِها أقصى ما يدخُلُ فيها في اللُّغَةِ والعُرْفِ، ولا يخرُجُ مِن ذلك إلا ما دلَّ الدليلُ عليه، ولذا يُقالُ: «إنّ الأصلَ في المأكولاتِ الحِلُّ إلا ما حرَّمَه اللهُ»، وذلك أنّ اللهَ تعالى يقولُ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١١٩]، وما لم يدخُلْ تحتَ التفصيلِ والبيانِ، فهو يَرجِعُ إلى الأصلِ.
وقد دَلَّتِ الأدلةُ ـ منطوقًا ومفهومًا ـ في مواضِعَ متعدِّدةٍ: على أنّ الأصلَ في الأشياءِ الحِلُّ، وأنّ عدَمَ تفصيلِ الشيءِ بالتحريمِ أو الكراهةِ دليلٌ على إباحتِه.
وقد روى الحاكمُ، عن أبي الدرداءِ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (ما أحَلَّ اللهُ فِي كِتابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وما حَرَّمَ فَهُوَ حَرامٌ، وما سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عافِيَةٌ) [[أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٣٤١٩) (٢/٤٠٦).]].
هل لاستخباثِ النَّفْسِ أثَرٌ في التحريم؟
وإذا عافَتِ النَّفْسُ شيئًا، ليس لها أنْ تُطلِقَ عليه تحريمًا، لأنّ التحريمَ لا يكونُ مرتبِطًا برَغْبةِ النفسِ، وقد عافَ النبيُّ ﷺ الضَّبَّ ولم يحرِّمْهُ، واستَدَلَّ بهذا عمرُ رضي الله عنه، فقد ذهَبَ إلى جوازِ أكلِ الضبِّ، لأنّ النبيَّ ﷺ لم يحرِّمْهُ، كما أخرَجَهُ مسلمٌ عنه في «صحيحِه»[[أخرجه مسلم (١٩٥٠) (٣/١٥٤٥).]].
وإذا كان هذا في نفسِ النبيِّ ﷺ، فغيرُها مِن النفوسِ مِن بابِ أولى ألاَّ تحرِّمَ ما تَعافُهُ.
صُوَرُ بيانِ الحلالِ:
وفي الشريعةِ يأتي بيانُ حِلِّ الشيءِ في صُوَرٍ شتّى، منها: النصُّ على الحِلِّ والطِّيبِ، كما في الآيةِ هنا: ﴿حَلالًا طَيِّبًا﴾، والتخييرُ بين الأكلِ وتركِه، والأمرُ بعدَ الحظرِ، ونفيُ الجُناحِ والحَرَجِ والإثمِ والإنكارُ على مَن حَرَّمَ الشيءَ، والإخبارُ أنّه مِن نِعَمِ اللهِ على الأممِ السابقةِ، وإظهارُ الامتنانِ بخَلْقِه وجعْلِه للناسِ، ويأتي كذلك بالإقرارِ على فعلِه في زمنِ النبيِّ ﷺ، كأكلِ الضَّبِّ.
ويُفهَمُ عمومُ التحريمِ بعكسِ ذلك، إلا ما استثناهُ اللهُ بقَيْدٍ، وهذا يكونُ ممّا فصَّلَ اللهُ تحريمَهُ.
حكمُ المسكوتِ عنه في الشريعة:
وظاهرُ نصوصِ الشريعةِ: أنّ ما سُكِتَ عنه فهو حلالٌ، لأنّه عفوٌ، ولو لم يَرِدْ دليلٌ بإطلاقِ حِلِّه، وذهَبَ أبو حنيفةَ: إلى أنّ الأصلَ فيما سُكِتَ عنه: التحريمُ، حتى يأتيَ دليلٌ على العمومِ أو على الخصوصِ[[«الأشباه والنظائر» للسيوطي (١/٦٠).]].
وهذا مِن الخلافِ الذي ثمرتُهُ قليلةٌ، وذلك لأنّه ما مِن شيءٍ مِن الأصولِ إلا جاء فيه نصٌّ خاصٌّ بحِلِّهِ أو حرمتِِهِ، أو نصٌّ عامٌّ يبيِّنُ حِلَّهُ، أو يبيِّنُ تحريمَهُ، وإنّما الخلافُ يقَعُ في دخولِ الشيءِ في أيِّ العمومينِ، كبعضِ صيدِ الحيوانِ للمُحرِمِ، وكذا المَيْتةُ: هل تَتْبَعُ البحرَ حِلًّا، أو البَرَّ حُرْمةً؟
ونصَّ أحمدُ: على أنّ الأصلَ فيما سُكِتَ عنه في الشريعةِ: الحِلُّ.
والقولانِ وجهانِ في مذهبِ الشافعيِّ، والأصحُّ عنه الحِلُّ.
والحقُّ: أنّ ما سُكِتَ عنه في الشريعةِ، فإنّه حلالٌ، لعمومِ قولِهِ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩].
ولِما روى التِّرمِذيُّ وابنُ ماجهْ، مِن حديثِ سَلْمانَ، قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ عن السَّمْنِ والجُبْنِ والفِراءِ؟ فقال: (الحَلالُ ما أحَلَّ اللهُ فِي كِتابِهِ، والحَرامُ ما حَرَّمَ اللهُ فِي كِتابِهِ، وما سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمّا عَفا عَنْهُ) [[أخرجه الترمذي (١٧٢٦) (٤/٢٢٠)، وابن ماجه (٣٣٦٧) (٢/١١١٧).]].
وقد وبَّخ اللهُ وقرَّع مَن يجعلُ الأصلَ التحريمَ، بقولِهِ: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢].
وفي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ سعدٍ، قال ﷺ: (إنَّ أعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَن سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِن أجْلِ مَسْأَلَتِهِ) [[أخرجه البخاري (٧٢٨٩) (٩/٩٥)، ومسلم (٢٣٥٨) (٤/١٨٣١).]].
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُوا۟ مِمَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰا وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰتِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق