الباحث القرآني

قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ قال ابن عباس، في رواية أبي صالح: نزلت في الذين حَرَّموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر [[روى البخاري (4623) كتاب: التفسير، باب: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبةٍ، عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء، والوصيلة: الناقة البكر في أول نتاج الإبل بانثى، ثم تثني بعد بانثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ليس بينهما ذكر.]]، وقال في رواية عطاء: يعني: المؤمنين خاصةً [[ينظر: "العجاب" 1/ 417، وفي "البحر المحيط" 1/ 478: قال الحسن: نزلت في كل من حرم على نفسه شيئًا لم يحرمه الله عليه، وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما: أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب، قاله النقاش. وقيل: في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة، قيل: وبني مدلج فإن صح هذا كان السبب خاصًّا واللفظ عامًّا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. انتهى. وينظر: "زاد المسير" 1/ 172.]]. وقوله تعالى: ﴿حَلَالًا﴾ إن شئت نصبته على الحال: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾، وإن شئت نصبته على أنه مفعول: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾. قال الفراء: يقال: قد حَلَّ الشيء فهو يَحِلُّ حَلالًا وحلًا، وحَلَّ من إحرامه يَحِلُّ حلالًا، وأصله: من الحَلِّ الذي هو نقيض العَقْد، ومعنى الحلال: المباح الذي انحلت عُقْدة الحظر عنه. ومنه: حلَّ بالمكان، إذا نزل به؛ لأنه حلّ شدّ الارتحال للنزول. وحَلّ الدَّين: إذا وجب؛ لانحلال العُقْدة بانقضاءِ المدة، وحَلَّ من إحرامه؛ لأنه حل عقدة الإحرام. وحلت عليه العقوبة، أي: وجبت، لانحلال العقدة المانعة من العذاب، والحُلّة: الإزار والرداء؛ لأنها تحل عن الطي للبس، ومن هذا: تَحِلَّةُ اليمين؛ لأن عقدة اليمين تنحلّ به [[ينظر في الحلال "تفسير الطبري" 2/ 76، "تهذيب اللغة" 1/ 902 - 904 (حل)، "المفردات" ص 135، "تاج العروس" 14/ 158 - 168.]]. والطيب في اللغة يكون بمعنى: الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب؛ لأن الحرام يوصف بأنه خبيث، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ [المائدة: 100]. والأصل في الطيب: هو ما يُسْتَلَذُّ ويستطاب، وَوُصفَ به الطاهر والحلال على جهة التشبيه؛ لأن النجسَ تكرهُهُ النفس فلا يُسْتَلَذّ، والحرام غير مستلَذّ؛ لأن الشرع يزجر عنه [[ينظر في الطيب: "تفسير الطبري" 2/ 76، "تهذيب اللغة" 3/ 2147 - 2148 (طاب)، "المفردات" 314 - 315، "تفسير البغوي" 1/ 180، "تاج العروس" 2/ 188 - 192، "البحر المحيط" 1/ 479.]]. قال ابن عباس: يريد: قد غَنَّمْتُكم مال أعدائكم [[هذا من رواية عطاء، وتقدم الحديث عنها.]]، فعلى هذا عنى بالحلال الطيب: الغنيمة. وقال أهل المعاني: أراد كل ما يغتذى به من المطاعم، ولهذا جمع بين الوصفين لاختلاف الفائدتين، إذ وصْفُه بأنه حلال يفيد أنه طِلْقٌ، ووصفه بأنه طيب أنه يغتذى به، وهو مُستلَذّ في العاجل والآجل. فعلى هذا: التراب والخشب طاهر، ولا يحل أكلهما؛ لأنهما ليسا من الطيّب الذي يغتذى به [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 241، "البحر المحيط" 1/ 479.]]. وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من حيث يطيب لكم، أي: لا تأكلوا مما يحرم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 241.]]. فعلى هذا: المعنى: كلوا حلالًا من حيث يحِلّ لكم، فأما أن يأكل مال غيره فهو حلال في جنسه، ولكن ليس يحلّ له أكله، فهو حلال وليس مما يطيب له. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ قال ابن السِّكِّيت فيما رواه عن اللحياني: الخُطوة والخَطْوة بمعنى، وحكى عن الفراء: خَطَوْتُ خَطْوَةً، والخَطْوَة ما بين القدمين. وقالوا: خطوتُ خُطوةً، كما قالوا: حَسَوتُ حَسْوَةً، والحُسْوة: اسم ما تحسيت، وكذلك غَرفتُ غَرْفةً، والغُرفة: اسم ما اغترفت [[نقل الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 1052 (خطا): وقال الفراء: العرب تجمع فُعلة من الأسماء على فُعُلات، مثل: حجرة وحجرات، فرقًا بين الاسم والنعت، النعت يخفف، مثل حلوة وحُلْوات، فلذلك صار التثقيل الاختيار، وربما خفف الاسم، وربما فتح ثانيه فقيل: حُجَرات ولنظر في معاني الخطوة "تفسير الطبري" 2/ 76، "المفردات" ص 158، "اللسان" 2/ 1205 (خطا).]]. وإذا كان كذلك، فالخطوة: المكان المتخطى، كما أن الغرفة: المغترَفة بالكف، فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه، لأن الخطوة: اسم مكان، وهذا قول عبد الله ابن مسلم [["تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 64.]] والزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 241.]]، فإنهما قالا: خُطواتُ الشيطان: طُرُقُه. وإن جعلت الخُطوة بمعنى: الخَطوة كما ذكره اللحياني، فالتقدير: لا تأتموا به، ولا تَقْفُوا أَثَرَه. والمعنيان يتقاربان وإن اختلف التقديران [[ما تقدم في معنى الخطوة من قوله. وقالوا: خطوت خطوة، من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 267.]]، وهذا قول المؤرِّج. قال: خطوات الشيطان: آثاره [[نقله عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1328، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 479.]]. وقال الوالبي عن ابن عباس: خُطوات الشيطان: عمله [[أخرجه عنه الطبري 2/ 76، وذكره الثعلبي 1/ 1327.]]، وهذا على أن يكون الخُطوة بمعنى الخَطوة، وخَطوة الشيطان: عمله. وقال الكلبي [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1327.]] والسُّدّي [[أخرجه عنه الطبري 2/ 77، وذكره الثعلبي 1/ 1327.]]: يعني: طاعته، وهذا على أنَّ من اقتدى بإنسان واتبع خطاه فقد أطاعه، يريد: لا تطيعوا الشيطان [[ذكر الطبري 2/ 77: أن هذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض؛ لأن كل قائل منهم قولًا في ذلك فإنه أشار إلى نهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 479: وهذه أقوال متقاربة.]]. وفي الخطوات قراءتان: ضَمُّ العين وإسكانها [[قرأ: نافع وأبو عمرو وشعبة وحمزة بإسكان الطاء، والباقون: بضمها. ينظر: "السبعة" ص 174، "النشر" 2/ 216، "البدور الزاهرة" ص 54.]]، فمن ضم العين فلأن الواحدة خُطوَة، فإذا جمعتَ حركتَ العينَ للجمع، كما فعلت بالأسماء التي على هذا الوزن، نحو: غُرْفَة وغُرُفات [[من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 267.]]، وتحريك العين في نحو هذا الجمع فصل بين الاسم والصفة [["الحجة" 2/ 268.]]، وذلك أن ما كان اسمًا جمعته بتحريك العين، نحو: تمرة وتمرات، وغرفة وغرفات، وشهوة وشهوات. وما كان نعتًا جمع بسكون العين، نحو: ضَخْمَة وضَخْمَات، وعَبْلَة وعَبْلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين. وأما من أسكن العين، فإنهم نووا الضمة، وأسكنوا الكلمة عنها؛ لثقل الضمة، وحذفوها من اللفظ وهم يقدرون ثباتها، ولا يجوز أن يكون جمع فعلة، فتركوها في الجمع على ما كان عليه في الواحد؛ لأن ذلك إنما يجئ في ضرورة الشعر، دون حال السعة والاختيار، كما قال ذو الرُّمَّة: ورَفْضاتُ الهوى في المفاصل [[تمام البيت: أبتْ ذِكَرٌ عَوَّدن أحشاءَ قلبه ... خفوقًّا ورَفْضاتُ الهوى في المفاصلِ لذي الرمة يتغزل بخرقاء، ويصف الإبل، في: "ديوانه" ص 417.]] وإذا كان كذلك، علمتَ أنهم أسكنوا تخفيفًا وهم يريدون الضمة، لأنّ تحريكَ العين فصلٌ بين الاسم والصفة كما ذكرنا، فلا بد من أن يكون التحريك الذي يختصّ بالأسماء دون الصفات منويًّا هاهنا [[من "الحجة" 2/ 268 بتصرف.]]. ووجه آخر لمن سكن: وهو أنه أجرى الواو في خُطْوَة مجرى الياء في نحو: مُدْيَة وكُلية وزُبية، فإنها تجمع بإسكان العين، فيقولون: مُدْيات وكُلْيات. وذلك أنهم لو جمعوا بتحريك العين؛ للزم انقلاب الياء واوا لانضمام ما قبلها، فلما لزم الإسكان في الياء جَعَل من أسكن خطوات الواو بمنزلة الياء، كما جعل الياء بمنزلة الواو [[من قوله: (الياء كما ..) ساقط من (ش).]] في قولهم: اتَّسَرُوا [[ضبطت في (ش): (اتسَّروا).]]، ألا ترى أن التاء لا تكاد تبدل من الياء، وإنما يكثر إبدالها من الواو، وانما أبدلوها في اتَّسَرُوا لإجراء الياء مجرى الواو [[من "الحجة" 2/ 269 بتصرف.]]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ قال المفسرون: قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لآدم، وهو الذي أخرجه من الجنة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1328، والقرطبي 2/ 192 - 193.]]، فعلى هذا (مبين): من أَبَان العداوة: إذا أظهرها. ويجوز أن يكون المبين بمعنى: الظاهر هاهنا؛ لأنّ (أبان) يتعدى، ولا يتعدى [["تفسير الثعلبي" 1/ 1328، وينظر: "اللسان" 1/ 406 بين، "المفردات" ص 45 - 46، "زاد المسير" 1/ 172.]]. ثم بين عداوة الشيطان فقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ الكلام في إنما نذكره في قوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ﴾ [البقرة: 173].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب