الباحث القرآني

﴿يا أيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالا﴾ نَزَلَتْ في المُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمُ البَحِيرَةَ والسّائِبَةَ والوَصِيلَةَ والحامَ، كَما ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما- وقِيلَ: في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وأضْرابِهِ؛ حَيْثُ حَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لَحْمَ الإبِلِ لَمّا كانَ حَرامًا في دِينِ اليَهُودِ، وقِيلَ: في قَوْمٍ مِن ثَقِيفٍ، وبَنِي عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وخُزاعَةَ، وبَنِي مُدْلِجٍ؛ حَيْثُ حَرَّمُوا التَّمْرَ والأقِطَ عَلى أنْفُسِهِمْ، و(حَلالًا) إمّا مَفْعُولُ (كَلُّوا) أوْ حالٌ مِنَ المَوْصُولِ؛ أيْ: كُلُوهُ حالَ كَوْنِهِ حَلالًا، أوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مُؤَكَّدٍ؛ أيْ: أكْلًا حَلالًا. ومِن عَلى التَّقْدِيرَيْنِ الأخِيرَيْنِ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِيَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِـ ( كُلُوا ) وعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ابْتِدائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِـ (كلوا) أوْ حالًا مِن (حَلّالًا) وقُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَنْكِيرِهِ، وأنْ تَكُونَ ابْتِدائِيَّةً، بَلْ هي مُتَعَيِّنَةٌ كَما في الكَشْفِ عَلى مَذْهَبِ مَن جَعَلَ الأصْلَ في الأشْياءِ الإباحَةَ، وأنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً بِناءً عَلى ما ارْتَضاهُ الرِّضِيُّ مِن أنَّ التَّبْعِيضِيَّةَ في الأصْلِ ابْتِدائِيَّةٌ، إلّا أنَّهُ يَكُونُ هُناكَ شَيْءٌ ظاهِرٌ أوْ مُقَدَّرٌ هو بَعْضُ المَجْرُورِ بِـ ( مِن ) ولا يَلْزَمُ صِحَّةُ إقامَةِ لَفْظِ البَعْضِ مَقامَها، والعَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ مَنَعَ كَوْنَها تَبْعِيضِيَّةً عَلى هَذا التَّقْدِيرِ؛ لِأنَّها في مَوْقِعِ المَفْعُولِ بِهِ حِينَئِذٍ، والفِعْلُ لا يَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ وهو مَبْنِيٌّ، عَلى ما في التَّسْهِيلِ وغَيْرِهِ، أنَّ التَّبْعِيضَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لِـ ( مِن ) وعَلامَتُهُ صِحَّةُ إقامَةِ لَفْظِ البَعْضِ مَقامَها، والأمْرُ لِلْوُجُوبِ فِيما إذا كانَ الأكْلُ لِقِوامِ البِنْيَةِ ولِلنَّدْبِ، كَما إذا كانَ لِمُؤانَسَةِ الضَّيْفِ ولِلْإباحَةِ فِيما عَدا ذَلِكَ، ( ومُناسَبَةُ الآيَةِ لِما قَبْلَها ): أنَّهُ – سُبْحانَهُ - لَمّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ ودَلائِلَهُ وما لِلتّائِبِينَ والعاصِينَ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إنْعامِهِ وشُمُولِ رَحْمَتِهِ؛ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ الكُفْرَ لا يُؤَثِّرُ في قَطْعِ الإنْعامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: (طَيِّبًا) صِفَةٌ (حَلالًا) ومَعْناهُ كَما قالَ الإمامُ مالِكٌ ما يَجِدُهُ فَمُ الشَّرْعِ لَذِيذًا لا يَعافُهُ ولا يَكْرَهُهُ، أوْ تَراهُ عَيْنُهُ طاهِرًا عَنْ دَنَسٍ الشُّبْهَةِ، وفائِدَةُ وصْفِ الحَلالِ بِهِ تَعْمِيمُ الحُكْمِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ﴾ لِيَحْصُلَ الرَّدُّ عَلى مَن حَرَّمَ بَعْضَ الحَلالاتِ، فَإنَّ النَّكِرَةَ المَوْصُوفَةَ بِصِفَةٍ عامَّةٍ تَعُمُّ بِخِلافِ غَيْرِ المَوْصُوفَةِ، وقالَ الإمامُ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: المُرادُ بِهِ ما تَسْتَطِيبُهُ الشَّهْوَةُ المُسْتَقِيمَةُ النّاشِئَةُ مِنَ المِزاجِ الصَّحِيحِ، ورُدَّ بِأنَّ ما لا تَسْتَطِيبُهُ إمّا حَلالٌ لا شُبْهَةَ فِيهِ فَلا مَنعَ، وإلّا خَرَجَ بِقَيْدِ الحَلالِ، وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ بِالحَلالِ ما نَصَّ الشّارِعُ عَلى حِلِّهِ وبِهَذا ما لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ ولَكِنَّهُ مِمّا يَسْتَلِذُّ ويَشْتَهِيهِ الطَّبْعُ المُسْتَقى ولَمْ يَكُنْ في الشَّرْعِ ما يَدُلُّ عَلى حُرْمَتِهِ كَإسْكارٍ وضَرَرٍ، والأوْلى نَظَرًا لِلْمَقامِ أنْ يُقالَ: إنَّ التَّقْيِيدَ لَيْسَ لِلِاحْتِرازِ عَمّا تَسْتَطِيبُهُ الشَّهْوَةُ الفاسِدَةُ، بَلْ لِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا في مَفْهُومِهِ؛ إذْ لا يُقالُ الطَّيِّبُ واللَّذِيذُ إلّا عَلى ما تَسْتَلِذُّهُ الشَّهْوَةُ المُسْتَقِيمَةُ، وتَكُونُ فائِدَةُ التَّوْصِيفِ حِينَئِذٍ التَّنْصِيصُ عَلى إباحَةِ ما حَرَّمُوهُ، والقَوْلُ بِأنَّ في الآيَةِ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ إشارَةً إلى النَّهْيِ عَنِ الأكْلِ عَلى امْتِلاءِ المَعِدَةِ والشَّهْوَةِ الكاذِبَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَسْتَطِيبُ؛ لِأنَّ الطَّعامَ اللَّذِيذَ المَأْكُولَ كَذَلِكَ مِمّا تَسْتَطِيبُهُ الشَّهْوَةُ، إلّا أنَّهُ لَيْسَ مَأْكُولًا بِالشَّهْوَةِ المُسْتَقِيمَةِ، وبَيْنَ المَعْنَيَيْنِ بُعْدٌ بَعِيدٌ، كَما قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم بِالآيَةِ (p-39)عَلى أنَّ مَن حَرَّمَ طَعامًا مَثَلًا فَهو لاغٍ ولا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ، وفِيهِ خَفاءٌ لا يَخْفى ﴿ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ أيْ: آثارَهُ - كَما حُكِيَ عَنِ الخَلِيلِ - أوْ أعْمالَهُ - كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أوْ خَطاياهُ - كَما نُقِلَ عَنْ مُجاهِدٍ - وحاصِلُ المَعْنى: لا تَعْتَقِدُوا بِهِ وتَسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَتُحَرِّمُوا الحَلالَ وتُحَلِّلُوا الحَرامَ، وعَنِ الصّادِقِ: ”مِن خُطُواتِ الشَّيْطانِ الحَلِفُ بِالطَّلاقِ والنُّذُورُ في المَعاصِي، وكُلُّ يَمِينٍ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعالى –“ وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ بِتَسْكِينِ الطّاءِ، وهُما لُغَتانِ في جَمْعِ ( خُطْوَةٍ ) وهي ما بَيْنَ قَدَمَيِ الماشِي، وقَرَأ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - بِضَمَّتَيْنِ وهَمْزَةٍ، وفي تَوْجِيهِها وجْهانِ؛ الأوَّلُ: ما قِيلَ: إنَّ الهَمْزَةَ أصْلِيَّةٌ مِنَ ( الخَطَأِ ) بِمَعْنى ( الخَطِيئَةِ )، والثّانِي: إنَّ الواوَ قُلِبَتْ هَمْزَةً؛ لِأنَّ الواوَ المَضْمُومَةَ تُقْلَبُ لَها، نَحْوَ ( أُجُوهٍ )، وهَذِهِ لَمّا جاوَرَتِ الضَّمَّةَ جُعِلَتْ كَأنَّها عَلَيْها، قالَ الزَّجّاجُ: وهَذا جائِزٌ في العَرَبِيَّةِ، وعَنْ أبِي السِّمالِ، أنَّهُ قَرَأ بِفَتْحَتَيْنِ، عَلى أنَّهُ جَمْعُ ( خُطْوَةٍ ) وهي المَرَّةُ مِنَ الخَطْوِ. ﴿إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ 168﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، و(مُبِين) مِن أبانَ بِمَعْنى بانَ وظَهَرَ؛ أيْ: ظاهِرُ العَداوَةِ عِنْدَ ذَوِي البَصِيرَةِ، وإنْ كانَ يُظْهِرُ الوَلايَةَ لِمَن يُغْوِيهِ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ ولِيًّا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ تَحِيَّتِهِمُ السَّيْفُ، وقِيلَ: ( أبانَ ) بِمَعْنى أظْهَرَ؛ أيْ: مُظْهِرُ العَداوَةَ، والأوَّلُ ألْيَقُ بِمَقامِ التَّعْلِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب