الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ﴿وَإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ ولَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾
(p-١٢٠)المَرَضُ عِبارَةٌ مُسْتَعارَةٌ لِلْفَسادِ الَّذِي في عَقائِدِ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ، وذَلِكَ إمّا أنْ يَكُونَ شَكًّا، وإمّا جَحْدًا بِسَبَبِ حَسَدِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ ما يَجْحَدُونَ، وبِنَحْوِ هَذا فَسَّرَ المُتَأوِّلُونَ. وقالَ قَوْمٌ: المَرَضُ غَمَّهم بِظُهُورِ أمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. وقَرَأ الأصْمَعِيُّ عن أبِي عُمَرَ: "مَرْضٌ" بِسُكُونِ الراءِ، وهي لُغَةٌ في المَصْدَرِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: ولَيْسَ بِتَخْفِيفٍ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضًا﴾ فَقِيلَ: هو دُعاءٌ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: هو خَبَرُ أنَّ اللهَ قَدْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وهَذِهِ الزِيادَةُ هي بِما يَنْزِلُ مِنَ الوَحْيِ، ويَظْهَرُ مِنَ البَراهِينِ، فَهي عَلى هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ عَمًى، وكُلَّما كَذَبُوا زادَ المَرَضُ، وقَرَأ حَمْزَةُ "فَزِادَهُمْ" بِكَسْرٍ الزايِ وكَذَلِكَ ابْنُ عامِرٍ، وكانَ نافِعٌ يُشِمُّ الزايَ إلى الكَسْرِ، وفَتَحَ الباقُونَ. و"ألِيمٌ" مَعْناهُ مُؤْلِمٌ، كَما قالَ الشاعِرُ، وهو عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبٍ:
؎ أمِن رَيْحانَةَ الداعِي السَمِيعُ......................................
بِمَعْنى مُسْمِعٌ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ "يُكَذِّبُونَ" بِضَمِّ الياءِ وتَشْدِيدِ الذالِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الياءِ وتَخْفِيفِ الذالِ، فالقِراءَةُ بِالتَثْقِيلِ يُؤَيِّدُها قَوْلُهُ تَعالى قَبْلُ: ﴿وَما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] فَهَذا إخْبارٌ بِأنَّهم يُكَذِّبُونَ، والقِراءَةُ بِالتَخْفِيفِ يُؤَيِّدُها أنَّ سِياقَ الآياتِ إنَّما هي إخْبارٌ بِكَذِبِهِمْ، والتَوَعُّدُ بِالعَذابِ الألِيمِ مُتَوَجِّهٌ عَلى التَكْذِيبِ، وعَلى الكَذِبِ في مِثْلِ هَذِهِ النازِلَةِ إذْ هو مُنْطَوٍ عَلى الكُفْرِ، وقِراءَةُ التَثْقِيلِ أرْجَحُ.
(p-١٢١)وَ"إذا" ظَرْفُ زَمانٍ. وحُكِيَ عَنِ المُبَرِّدِ أنَّها في قَوْلِكَ في المُفاجَأةِ: "خَرَجَتْ فَإذا زِيدَ" ظَرْفُ مَكانٍ لِأنَّها تَضَمَّنَتْ جُثَّةً، وهَذا مَرْدُودٌ، لِأنَّ المَعْنى: خَرَجَتْ فَإذا حُضُورُ زَيْدٍ، فَإنَّما تَضَمَّنَتِ المَصْدَرَ كَما يَقْتَضِيهِ سائِرُ ظُرُوفِ الزَمانِ، ومِنهُ قَوْلُهُمُ: "اليَوْمَ خَمْرٌ، وغَدًا أمْرٌ" فَمَعْناهُ وُجُودُ خَمْرٍ، ووُقُوعُ أمْرٍ، والعامِلُ في "إذا" في هَذِهِ الآيَةِ: قالُوا. وأصْلُ "قِيلَ" قَوْلٌ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الواوِ إلى القافِ فَقُلِبَتْ ياءً لِانْكِسارِ ما قَبْلَها، وقَرَأ الكِسائِيُّ: "قِيلَ وغِيضَ وسِيءَ وسِيئَتْ وحِيلَ وسِيقَ وجِيءَ" بِضَمِّ أوائِلِ ذَلِكَ كُلِّهِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ كَسَرَ "غِيضَ وقِيلَ وجِيءَ"، الغَيْنُ والقافُ والجِيمُ، حَيْثُ وقَعَ مِنَ القُرْآنِ، وضَمَّ نافِعٌ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ حَرْفَيْنِ "سِيءَ وسِيئَتْ" وكَسْرِ ما بَقِيَ. وكانَ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، يَكْسِرُونَ أوائِلَ هَذِهِ الحُرُوفِ كُلِّها.
والضَمِيرُ في "لَهُمْ" عائِدٌ إلى المُنافِقِينَ المُشارِ إلَيْهِمْ قَبْلُ. وقالَ بَعْضُ الناسِ: الإشارَةُ هُنا هي إلى مُنافِقِي اليَهُودِ. وقالَ سَلْمانُ الفارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: لَمْ يَجِئْ هَؤُلاءِ بَعْدُ، ومَعْنى قَوْلِهِ: لَمْ يَنْقَرِضُوا، بَلْ هم يَجِيئُونَ في كُلِّ زَمانٍ.
و﴿لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ مَعْناهُ: بِالكُفْرِ ومُوالاةُ الكَفَرَةِ، و"نَحْنُ" اسْمٌ مِن ضَمائِرِ الرَفْعِ مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ إذْ كانَ اسْمًا قَوِيًّا يَقَعُ لِلْواحِدِ المُعَظَّمِ، والِاثْنَيْنِ، والجَماعَةِ، فَأُعْطِيَ أسْنى الحَرَكاتِ، وأيْضًا فَلَمّا كانَ في الأغْلَبِ ضَمِيرُ جَماعَةٍ، وضَمِيرُ الجَماعَةِ في الأسْماءِ الظاهِرَةِ الواوُ أُعْطِي الضَمَّةَ إذْ هي أُخْتُ الواوِ؟
ولِقَوْلِ المُنافِقِينَ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ثَلاثُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: جَحَدَ أنَّهم يُفْسِدُونَ، وهَذا اسْتِمْرارٌ مِنهم عَلى النِفاقِ. والثانِي: أنْ يُقِرُّوا بِمُوالاةِ الكُفّارِ، ويَدَّعُونَ (p-١٢٢)أنَّها صَلاحٌ مِن حَيْثُ أنَّهم قَرابَةٌ تُوصَلُ، والثالِثُ: أنَّهم مُصْلِحُونَ بَيْنَ الكُفّارِ والمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ يُداخِلُونَ الكُفّارَ.
و"ألا" اسْتِفْتاحُ كَلامٍ، و"إنَّ" بِكَسْرِ الألْفِ اسْتِئْنافٌ، و"هُمُ" الثانِي رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، و"المُفْسِدُونَ" خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرُ "إنَّ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فَصْلًا، ويُسَمِّيهِ الكُوفِيُّونَ العِمادَ، ويَكُونُ "المُفْسِدُونَ" خَبَرُ "إنَّ"، فَعَلى هَذا لا مَوْضِعَ لـِ "هُمُ" مِنَ الإعْرابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ في "إنَّهُمْ"، فَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ.
ودَخَلَتِ الألِفُ واللامُ في قَوْلِهِ: "المُفْسِدُونَ" لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَفْظَةِ في قَوْلِهِ: "لا تُفْسِدُوا" فَكَأنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ العَهْدِ، ولَوْ جاءَ الخَبَرُ عنهم ولَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَفْظَةِ ذِكْرٌ لَكانَ "ألا إنَّهم مُفْسِدُونَ" قالَهُ الجُرْجانِيُّ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الألِفُ واللامُ تَتَضَمَّنُ المُبالَغَةَ كَما تَقُولُ: "زَيْدٌ هو الرَجُلُ"، أيْ: حَقُّ الرَجُلِ، فَقَدْ تَسْتَغْنِي عن مُقَدِّمَةٍ تَقْتَضِي عَهْدًا
و"لَكِنْ" بِجُمْلَتِهِ حَرْفُ اسْتِدْراكٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ هُنا: لا يَشْعُرُونَ أنَّهم مُفْسِدُونَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ: لا يَشْعُرُونَ أنَّ اللهَ يَفْضَحُهُمْ، وهَذا مَعَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم "إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ" جَحْدًا مَحْضًا لِلْإفْسادِ، والِاحْتِمالُ الأوَّلُ هو بِأنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: "إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ" اعْتِقادًا مِنهم أنَّهُ صَلاحٌ في صِلَةِ القَرابَةِ، أو إصْلاحٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ.
{"ayahs_start":10,"ayahs":["فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ","وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ","أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا یَشۡعُرُونَ"],"ayah":"وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق