الباحث القرآني

" إذا " في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الظَّرْفِ والعامِلُ فِيهِ " قالُوا " المَذْكُورُ بَعْدَهُ. وفِيهِ مَعْنى الشَّرْطِ. والفَسادُ ضِدُّ الصَّلاحِ، وحَقِيقَتُهُ العُدُولُ عَنِ الِاسْتِقامَةِ إلى ضِدِّها. فَسَدَ الشَّيْءُ يَفْسُدُ فَسادًا وفُسُودًا فَهو فاسِدٌ وفَسِيدٌ. والمُرادُ في الآيَةِ: ﴿لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ بِالنِّفاقِ ومُوالاةِ الكَفَرَةِ وتَفْرِيقِ النّاسِ عَنِ الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ والقُرْآنِ، فَإنَّكم إذا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَسَدَ ما في الأرْضِ بِهَلاكِ الأبْدانِ وخَرابِ الدِّيارِ وبُطْلانِ الذَّرائِعِ، كَما هو مُشاهَدٌ عِنْدَ ثَوَرانِ الفِتَنِ والتَّنازُعِ. و" إنَّما " مِن أدَواتِ القَصْرِ كَما هو مُبَيَّنٌ في عِلْمِ المَعانِي. والصَّلاحُ ضِدُّ الفَسادِ. لِما نَهاهُمُ اللَّهُ عَنِ الفَسادِ الَّذِي هو دَأْبُهم أجابُوا بِهَذِهِ الدَّعْوى العَرِيضَةِ، ونَقَلُوا أنْفُسَهم مِنَ الِاتِّصافِ بِما هي عَلَيْهِ حَقِيقَةً وهو الفَسادُ، إلى الِاتِّصافِ بِما هو ضِدٌّ لِذَلِكَ وهو الصَّلاحُ، ولَمْ يَقِفُوا عِنْدَ هَذا الكَذِبِ البَحْتِ والزُّورِ المَحْضِ حَتّى جَعَلُوا صِفَةَ الصَّلاحِ مُخْتَصَّةً بِهِمْ خالِصَةً لَهم، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أبْلَغَ رَدٍّ لِما يُفِيدُهُ حَرْفُ التَّنْبِيهِ مِن تَحَقُّقِ ما بَعْدَهُ، ولِما في ( إنَّ ) مِنَ التَّأْكِيدِ، وما في تَعْرِيفِ الخَبَرِ مَعَ تَوْسِيطِ ضَمِيرِ الفَصْلِ مِنَ الحَصْرِ المُبالَغِ فِيهِ بِالجَمْعِ بَيْنَ أمْرَيْنِ مِنَ الأُمُورِ المُفِيدَةِ لَهُ، ورَدَّهم إلى صِفَةِ الفَسادِ الَّتِي هي مُتَّصِفُونَ بِها في الحَقِيقَةِ رَدًّا مُؤَكَّدًا مُبالَغًا فِيهِ بِزِيادَةٍ عَلى ما تَضَمَّنَتْهُ دَعْواهُمُ الكاذِبَةُ مِن مُجَرَّدِ الحَصْرِ المُسْتَفادِ مِن إنَّما. وأمّا نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهم فَيُحْتَمَلُ أنَّهم لَمّا كانُوا يُظْهِرُونَ الصَّلاحَ مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّهم عَلى الفَسادِ الخالِصِ، ظَنُّوا أنَّ ذَلِكَ يَنْفُقُ عَلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ويَنْكَتِمُ عَنْهُ بُطْلانُ ما أضْمَرُوهُ، ولَمْ يَشْعُرُوا بِأنَّهُ عالِمٌ بِهِ، وأنَّ الخَبَرَ يَأْتِيهِ بِذَلِكَ مِنَ السَّماءِ، فَكانَ نَفْيُ الشُّعُورِ عَنْهم مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ لا مِن جِهَةِ أنَّهم لا يَشْعُرُونَ بِأنَّهم عَلى الفَسادِ. ويُحْتَمَلُ أنَّ فَسادَهم كانَ عِنْدَهم صَلاحًا لِما اسْتَقَرَّ في عُقُولِهِمْ مِن مَحَبَّةِ الكُفْرِ وعَداوَةِ الإسْلامِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: الفَسادُ هُنا هو الكُفْرُ والعَمَلُ بِالمَعْصِيَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أيْ إنَّما نُرِيدُ الإصْلاحَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وأهْلِ الكِتابِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قالَ: إذا رَكِبُوا مَعْصِيَةً فَقِيلَ لَهم: لا تَفْعَلُوا كَذا قالُوا: إنَّما نَحْنُ عَلى الهُدى. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَلْمانَ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ: لَمْ تَجِئْ أهْلُ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدُ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُحْتَمَلُ أنَّ سَلْمانَ أرادَ بِهَذا أنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أعْظَمُ فَسادًا مِنَ الَّذِينَ كانُوا في زَمَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، لا أنَّهُ عَنى أنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ تِلْكَ صِفَتُهُ أحَدٌ انْتَهى. ويُحْتَمَلُ أنَّ سَلْمانَ يَرى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ في المُنافِقِينَ، بَلْ يَحْمِلُها عَلى مِثْلِ أهْلِ الفِتَنِ الَّتِي يَدِينُ أهْلُها بِوَضْعِ السَّيْفِ في المُسْلِمِينَ، كالخَوارِجِ وسائِرِ مَن يَعْتَقِدُ في فَسادِهِ أنَّهُ صَلاحٌ لِما يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهِ الباطِلَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب