الباحث القرآني

﴿وإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يَظْهَرُ لِي أنَّ جُمْلَةَ وإذا قِيلَ لَهم عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿وإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ إخْبارٌ عَنْ بَعْضِ عَجِيبِ أحْوالِهِمْ، ومِن تِلْكَ الأحْوالِ أنَّهم قالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ في حِينِ أنَّهم مُفْسِدُونَ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى أقْرَبِ الجُمَلِ المُلِظَّةِ لِأحْوالِهِمْ وإنْ كانَ ذَلِكَ آيِلًا في المَعْنى إلى كَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلى الصِّلَةِ في قَوْلِهِ ﴿مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٨] و”إذا“ هُنا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ ولَيْسَتْ مُتَضَمِّنَةً مَعْنى الشَّرْطِ كَما أنَّها هُنا لِلْماضِي ولَيْسَتْ لِلْمُسْتَقْبَلِ وذَلِكَ كَثِيرٌ فِيها كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿حَتّى إذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] الآيَةَ. ومِن نُكَتِ القُرْآنِ المَغْفُولِ عَنْها تَقْيِيدُ هَذا الفِعْلِ بِالظَّرْفِ فَإنَّ الَّذِي يَتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ مَحَلَّ المَذَمَّةِ هو أنَّهم يَقُولُونَ إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُفْسِدِينَ، ولَكِنْ عِنْدَ التَّأمُّلِ يَظْهَرُ أنَّ هَذا القَوْلَ يَكُونُ قائِلُوهُ أجْدَرَ بِالمَذَمَّةِ حِينَ يَقُولُونَهُ في جَوابِ مَن يَقُولُ لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ فَإنَّ هَذا الجَوابَ الصّادِرَ مِنَ المُفْسِدِينَ لا يَنْشَأُ إلّا عَنْ مَرَضِ القَلْبِ وأفَنِ الرَّأْيِ، لِأنَّ شَأْنَ الفَسادِ أنْ لا يَخْفى ولَئِنْ خَفِيَ فالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ واعْتِقادُ أنَّهُ صَلاحٌ بَعْدَ الإيقاظِ إلَيْهِ والمَوْعِظَةِ، إفْراطٌ في الغَباوَةِ أوِ المُكابَرَةِ وجَهْلٌ فَوْقَ جَهْلٍ. وعِنْدِي أنَّ هَذا هو المُقْتَضِي لِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ عَلى جُمْلَةِ قالُوا. . .، لِأنَّهُ أهَمُّ إذْ هو مَحَلُّ التَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ، ونُكَتُ الإعْجازِ لا تَتَناهى. (p-٢٨٤)والقائِلُ لَهم ﴿لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ بَعْضُ مَن وقَفَ عَلى حالِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ اطِّلاعٌ عَلى شُؤُونِهِمْ لِقَرابَةٍ أوْ صُحْبَةٍ، فَيُخْلِصُونَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ والمَوْعِظَةَ رَجاءَ إيمانِهِمْ ويَسْتُرُونَ عَلَيْهِمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ وعِلْمًا بِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ يُغْضِي عَنْ زَلّاتِهِمْ كَما أشارَ إلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وفِي جَوابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ما يُفِيدُ أنَّ الَّذِينَ قالُوا لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ كانُوا جازِمِينَ بِأنَّهم مُفْسِدُونَ لِأنَّ ذَلِكَ مُقْتَضى حَرْفِ ”إنَّما“ كَما سَيَأْتِي ويَدُلُّ لِذَلِكَ عِنْدِي بِناءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ بِحَسَبِ ما يَأْتِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا﴾ [البقرة: ١٤] ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ القائِلُ لَهُمُ اللَّهُ والرَّسُولُ إذْ لَوْ نَزَلَ الوَحْيُ وبَلَّغَ إلى مُعَيَّنِينَ مِنهم لَعُلِمَ كُفْرُهم ولَوْ نَزَلَ مُجْمَلًا كَما تَنْزِلُ مَواعِظُ القُرْآنِ لَمْ يَسْتَقِمْ جَوابُهم بِقَوْلِهِمْ إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وقَدْ عَنَّ لِي في بَيانِ إيقاعِهِمُ الفَسادَ أنَّهُ مَراتِبٌ: أوَّلُها إفْسادُهم أنْفُسَهم بِالإصْرارِ عَلى تِلْكَ الأدْواءِ القَلْبِيَّةِ الَّتِي أشَرْنا إلَيْها فِيما مَضى وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ المَذامِّ ويَتَوَلَّدُ مِنَ المَفاسِدِ. الثّانِيَةُ: إفْسادُهُمُ النّاسَ بِبَثِّ تِلْكَ الصِّفاتِ، والدَّعْوَةِ إلَيْها، وإفْسادُهم أبْناءَهم وعِيالَهم في اقْتِدائِهِمْ بِهِمْ في مَساوِيهِمْ كَما قالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ [نوح: ٢٧] الثّالِثَةُ: إفْسادُهم بِالأفْعالِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْها فَسادُ المُجْتَمَعِ، كَإلْقاءِ النَّمِيمَةِ والعَداوَةِ وتَسْعِيرِ الفِتَنِ وتَأْلِيبِ الأحْزابِ عَلى المُسْلِمِينَ وإحْداثِ العَقَباتِ في طَرِيقِ المُصْلِحِينَ. والإفْسادُ فِعْلُ ما بِهِ الفَسادُ والهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ أيْ جَعْلِ الأشْياءِ فاسِدَةً في الأرْضِ. والفَسادُ أصْلُهُ اسْتِحالَةُ مَنفَعَةِ الشَّيْءِ النّافِعِ إلى مَضَرَّةٍ بِهِ أوْ بِغَيْرِهِ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى وُجُودِ الشَّيْءِ مُشْتَمِلًا عَلى مَضَرَّةٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ مِن قَبْلُ، يُقالُ: فَسَدَ الشَّيْءُ بَعْدَ أنْ كانَ صالِحًا ويُقالُ: فاسِدٌ إذا وُجِدَ فاسِدًا مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، وكَذَلِكَ يُقالُ: أفْسَدَ إذا عَمَدَ إلى شَيْءٍ صالِحٍ فَأزالَ صَلاحَهُ، ويُقالُ: أفْسَدَ إذا أوْجَدَ فَسادًا مِن أوَّلِ الأمْرِ. والأظْهَرُ أنَّ الفَسادَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ مِنَ المَعْنَيَيْنِ ولَيْسَ مِنَ الوَضْعِ المُشْتَرَكِ، فَلَيْسَ إطْلاقُهُ عَلَيْهِما كَما هُنا مِن قَبِيلِ اسْتِعْمالِ المُشْتَرِكِ في مَعْنَيَيْهِ. فالإفْسادُ في الأرْضِ مِنهُ تَصْيِيرُ الأشْياءِ الصّالِحَةِ مُضِرَّةً كالغِشِّ في الأطْعِمَةِ، ومِنهُ إزالَةُ الأشْياءِ النّافِعَةِ كالحَرْقِ والقَتْلِ لِلْبَراءِ، ومِنهُ إفْسادُ الأنْظِمَةِ كالفِتَنِ والجَوْرِ، ومِنهُ إفْسادُ المَساعِي كَتَكْثِيرِ الجَهْلِ وتَعْلِيمِ الدَّعارَةِ وتَحْسِينِ الكُفْرِ ومُناوَأةِ (p-٢٨٥)الصّالِحِينَ المُصْلِحِينَ، ولَعَلَّ المُنافِقِينَ قَدْ أخَذُوا مِن ضُرُوبِ الإفْسادِ بِالجَمِيعِ، فَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ تُفْسِدُوا تَأْكِيدًا لِلْعُمُومِ المُسْتَفادِ مِن وُقُوعِ الفِعْلِ في حَيِّزِ النَّفْيِ. وذِكْرُ المَحَلِّ الَّذِي أفْسَدُوا ما يَحْتَوِي عَلَيْهِ وهو الأرْضُ لِتَفْظِيعِ فَسادِهِمْ بِأنَّهُ مَبْثُوثٌ في هَذِهِ الأرْضِ لِأنَّ وُقُوعَهُ في رُقْعَةٍ مِنها تَشْوِيهٌ لِمَجْمُوعِها. والمُرادُ بِالأرْضِ هَذِهِ الكُرَةُ الأرْضِيَّةُ بِما تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الأشْياءِ القابِلَةِ لِلْإفْسادِ مِنَ النّاسِ والحَيَوانِ والنَّباتِ وسائِرِ الأنْظِمَةِ والنَّوامِيسِ الَّتِي وضَعَها اللَّهُ تَعالى لَها، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿قالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ جَوابٌ بِالنَّقْضِ فَإنَّ الإصْلاحَ ضِدُّ الإفْسادِ، أيْ جَعْلِ الشَّيْءِ صالِحًا، والصَّلاحُ ضِدُّ الفَسادِ يُقالُ: صَلَحَ بَعْدَ أنْ كانَ فاسِدًا، ويُقالُ: صَلَحَ بِمَعْنى وُجِدَ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ صالِحًا فَهو مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ كَما قُلْنا. وجاءُوا بِإنَّما المُفِيدَةِ لِلْقَصْرِ بِاتِّفاقِ أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ والتَّفْسِيرِ ولا اعْتِدادَ بِمُخالِفِهِ شُذُوذًا في ذَلِكَ. وأفادَ إنَّما هُنا قَصْرَ المَوْصُوفِ عَلى الصِّفَةِ رَدًّا عَلى قَوْلِ مَن قالَ لَهم: لا تُفْسِدُوا، لِأنَّ القائِلَ أثْبَتَ لَهم وصْفَ الفَسادِ إمّا بِاعْتِقادِ أنَّهم لَيْسُوا مِنَ الصَّلاحِ في شَيْءٍ أوْ بِاعْتِقادِ أنَّهم قَدْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وفاسِدًا، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِقَصْرِ القَلْبِ، ولَيْسَ هو قَصْرًا حَقِيقِيًّا لِأنَّ قَصْرَ المَوْصُوفِ عَلى الصِّفَةِ لا يَكُونُ حَقِيقِيًّا ولِأنَّ حَرْفَ إنَّما يَخْتَصُّ بِقَصْرِ القَلْبِ كَما في دَلائِلِ الإعْجازِ، واخْتِيرَ في كَلامِهِمْ حَرْفُ إنَّما لِأنَّهُ يُخاطَبُ بِهِ مُخاطَبٌ مُصِرٌّ عَلى الخَطَأِ كَما في دَلائِلِ الإعْجازِ وجُعِلَتْ جُمْلَةُ القَصْرِ اسْمِيَّةً لِتُفِيدَ أنَّهم جَعَلُوا اتِّصافَهم بِالإصْلاحِ أمْرًا ثابِتًا دائِمًا، إذْ مِن خُصُوصِيّاتِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ إفادَةُ الدَّوامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب