قوله عزّ وجلّ:
﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ ﴿وَكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنهم مِن أحَدٍ أو تَسْمَعُ لَهم رِكْزًا﴾
الضَمِيرُ في "يَسَّرْنا" لِلْقُرْآنِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] ؛ لَأنَّ المَعْنى يَقْتَضِي المُرادَ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ، ووَقَعَ التَيْسِيرُ في كَوْنِهِ بِلِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وبِلُغَتِهِ المَفْهُومَةِ المُبَيِّنَةِ. وبِشارَةُ المُتَّقِينَ هي الجَنَّةُ والنَعِيمُ الدائِمْ والعِزُّ في الدُنْيا. و"القَوْمُ اللُدُّ" هم قُرَيْشٌ، ومَعْناهُ: مُجادِلِينَ مُخاصِمِينَ بِباطِلٍ، والألَدُّ: المُخاصِمُ المُبالَغُ في ذَلِكَ. وقالَ مُجاهِدٌ: "لُدًّا" مَعْناهُ: فِجارًا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا عِنْدِي فُجُورُ الخُصُومَةِ، ولا يَلِدُّ إلّا المُبْطِلُ. وفي الحَدِيثِ: «أبْغَضُ الرِجالِ إلى اللهِ الألَدُّ الخَصْمُ».
ثُمْ لَمّا وصَفَهُمُ اللهُ تَعالى بِأنَّهم لُدٌّ - وهي صِفَةُ سُوءٍ بِحُكْمِ الشَرْعِ والحَقِّ - وجَبَ أنْ يَقْسُوَ عَلَيْهِمْ بِالوَعِيدِ والتَمْثِيلِ بِإهْلاكِ مَن كانَ أشَدَّ مِنهم وألَدَّ وأعْظَمَ قَدْرًا ما كانَ يَسُرُّهم (p-٧٦)فِي أنْفُسِهِمْ مِنَ الوَصْفِ بِـ "لُدٍّ"، فَإنَّ العَرَبَ لِجَهالَتِها وعُتُوِّها وكُفْرِها كانَتْ تَتَمَدَّحُ بِاللَدَدِ، وتَراهُ إدْراكًا وشَهامَةً، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ إنَّ تَحْتَ الأحْجارِ عَزْمًا وحَزْمًا وخَصِيمًا ألَدَّ ذا مِغْلاقِ
فَمَثَّلَ لَهم بِإهْلاكِ مَن قَبْلَهم لِيَحْتَقِرُوا أنْفُسَهم ويَتَبَيَّنَ صِغَرَ شَأْنِهِمْ، وعَبَّرَ المُفَسِّرُونَ عَنِ "اللُدِّ" بِالفَجَرَةِ وبِالظُلْمَةِ، وتَلْخِيصِ مَعْناها ما ذَكَرْناهُ.
و"القَرْنُ": الأُمَّةُ، و"الرِكْزُ": الصَوْتُ الخَفِيُّ دُونَ نُطْقٍ بِحُرُوفٍ ولا فَمٍ، وإنَّما هو صَوْتُ الحَرَكاتِ وخَشْفُها، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
؎ وتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الأنِيسِ فَراعَها ∗∗∗ عن ظَهْرِ غَيْبٍ والأنِيسُ سَقامُها
فَكَأنَّهُ قالَ: أوَتَسْمَعُ مِن أخْبارِهِمْ قَلِيلًا أو كَثِيرًا، أو طَرَفًا خَفِيًّا ضَعِيفًا، وهَذا يُرادُ بِهِ مِن تَقَدَّمَ أمْرُهِ مِنَ الأُمَمِ ودَرَسَ خَبَرُهُ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: هَلْ بَقِيَ لِأحَدٍ مِنهم كَلامٌ أو تَصْوِيبٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ؟ فَيَدْخُلُ في هَذا مِن عُرْفَ هَلاكُهُ مِنَ الأُمَمِ.
تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ مَرْيَمَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
{"ayahs_start":97,"ayahs":["فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِینَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمࣰا لُّدࣰّا","وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا"],"ayah":"فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِینَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمࣰا لُّدࣰّا"}