الباحث القرآني

(p-٥١٤)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهم في البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْناهم مِنَ الطَيِّباتِ وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلا﴾ ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ فَمَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتابَهم ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ ﴿وَمَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلا﴾ ﴿وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا﴾ ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا﴾ ﴿إذًا لأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا﴾ "كَرَّمْنا" تَضْعِيفُ "كَرَمَ"، فالمَعْنى: جَعَلَنا لَهم كَرَمًا، أيْ شَرَفًا وفَضْلًا، وهَذا هو كَرَمُ نَفْيِ النُقْصانِ، لا كَرَمَ المالِ، وإنَّما هو كَما تَقُولُ: "ثَوْبٌ كَرِيمٌ"، أيْ: جَمَّةٌ مَحاسِنُهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الآيَةُ عَدَّدَ اللهُ تَعالى فِيها عَلى بَنِي آدَمَ ما خَصَّهم بِهِ مِن بَيْنِ سائِرِ الحَيَوانِ. والجِنُّ هو الكَثِيرُ المَفْضُولُ، والمَلائِكَةُ هُمُ الخارِجُونَ عَنِ الكَثِيرِ المَفْضُولِ. حَمَلَهم في البَرِّ والبَحْرِ مِمّا لا يَصْلُحُ لِحَيَوانٍ سِوى بَنِي آدَمَ أنْ يَكُونَ يَحْمِلُ بِإرادَتِهِ وقَصْدِهِ وتَدْبِيرِهِ في البَرِّ والبَحْرِ جَمِيعًا. والرِزْقُ مِنَ الطَيِّباتِ، ولا يَنْتَفِعُ فِيهِ حَيَوانٌ انْتِفاعَ بَنِي آدَمَ ؛ لِأنَّهم يَكْسِبُونَ المالَ خاصَّةً دُونَ الحَيَوانِ، ويَلْبَسُونَ الثِيابَ، ويَأْكُلُونَ المَرْكَباتِ مِنَ الأطْعِمَةِ، غايَةُ كُلِّ حَيَوانٍ أنْ يَأْكُلَ لَحْمًا نَيِّئًا، أو طَعامًا غَيْرَ مُرَكَّبٍ. و"الرِزْقُ": كُلُّ ما صَحَّ الِانْتِفاعُ بِهِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن جَماعَةٍ أنَّهم قالُوا: التَفْضِيلُ هو أنْ يَأْكُلَ بِيَدَيْهِ؛ وسائِرُ الحَيَوانِ بِالفَمِ. وقالَ غَيْرُهُ: وأنْ يَنْظُرَ مِن إشْرافٍ أكْثَرَ مِن كُلِّ حَيَوانٍ، ويَمْشِي قائِمًا، ونَحْوَ هَذا مِنَ التَفْضِيلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ غَيْرُ مُحْذِقٍ، وذَلِكَ لِلْحَيَوانِ مِن هَذا النَوْعِ ما كانَ يُفَضِّلُ بِهِ ابْنَ آدَمَ، كَجَرْيِ الفَرَسِ وسَمْعِهِ وإبْصارِهِ، وقُوَّةِ الفِيلِ وشَجاعَةِ الأسَدِ وكَرَمِ الدِيكِ، وإنَّما التَكْرِيمُ والتَفْضِيلُ بِالعَقْلِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الحَيَوانَ كُلَّهُ، وبِهِ يَعْرِفُ اللهَ تَعالى، ويَفْهَمُ (p-٥١٥)كَلامَهُ ويُوصِلُ إلى نَعِيمِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الآيَةُ تَقْضِي بِفَضْلِ المَلائِكَةِ عَلى الإنْسِ مِن حَيْثُ هُمُ المُسْتَثْنَوْنَ، وقَدْ قالَ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: ١٧٢]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا غَيْرُ لازِمٍ مِنَ الآيَةِ، بَلِ التَفْضِيلُ بَيْنَ الإنْسِ والجِنِّ لَمْ تَعْنِ لَهُ الآيَةُ، بَلْ يُحْتَمَلُ أنِ المَلائِكَةَ أفْضَلُ، ويُحْتَمَلُ التَساوِي، وإنَّما صَحَّ تَفْضِيلُ المَلائِكَةِ مِن مَواضِعَ أُخْرى مِنَ الشَرْعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ الآيَةُ. يُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: "يَوْمَ" أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الظَرْفِ، والعامِلُ فِيهِ فِعْلُ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، أو فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ﴾، تَقْدِيرُهُ: ولا يُظْلَمُونَ يَوْمَ نَدْعُو، ثُمَّ فَسَّرَهُ "يُظْلَمُونَ" الآخَرُ، ويَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ "وَفَضَّلْناهُمْ"، وذَلِكَ أنَّ فَضْلَ البَشَرِ عَلى سائِرِ الحَيَوانِ يَوْمَ القِيامَةِ بَيَّنٌ؛ لِأنَّهُمُ المُنَعَّمُونَ المُكَلَّمُونَ المُحاسَبُونَ الَّذِينَ لَهُمُ القَدَرُ، إلّا أنَّ هَذا يَرُدُّهُ أنَّ الكُفّارَ يَوْمَئِذٍ أخْسَرُ مَن كُلِّ حَيَوانٍ؛ إذْ يَقُولُ الكافِرُ: ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ [النبإ: ٤٠]، ولا يَعْمَلُ فِيهِ "نَدْعُوا" لِأنَّهُ مُضافٌ إلَيْهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "يَوْمَ" مَنصُوبًا عَلى البِناءِ لَمّا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، ويَكُونُ مَوْضِعُهُ رَفْعًا بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ في التَقْسِيمِ الَّذِي أتى بَعْدُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن أُوتِيَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَمَن كانَ﴾. (p-٥١٦)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَدْعُو" بِنُونِ العَظَمَةِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ: "يَدْعُو" بِالياءِ، عَلى مَعْنى: يَدْعُو اللهُ، ورُوِيَتْ عن عاصِمٍ، وقَرَأ الحَسَنُ: "يُدْعَوْ" بِضَمِّ الياءِ وسُكُونِ الواوِ، وأصْلُها: يُدْعى، ولَكِنَّها لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ، يَقْلِبُونَ هَذِهِ الألِفَ واوًا فَيَقُولُونَ: أفْعَوْ، وحُبْلَوْ. ذَكَرَ هاتَيْنِ أبُو الفَتْحِ وأبُو عَلِيٍّ في تَرْجَمَةِ أعْمى بَعْدُ. وقَرَأ الحَسَنُ: "كُلُّ" بِالرَفْعِ، عَلى مَعْنى: يُدْعَوْ كُلُّ. وذَكَرَ أبُو عَمْرُو الدانِي عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قَرَأ: "يُدْعى كُلُّ" و"الأُناسُ" اسْمُ جَمْعٍ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ. وقَوْلُهُ: "بِإمامِهِمْ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِاسْمِ إمامِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: مَعَ إمامِهِمْ، فَعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ يُقالُ: يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ-، ويا أتْباعَ فِرْعَوْنَ، ونَحْوَ هَذا، وعَلى التَأْوِيلِ الثانِي تَجِيءُ كُلُّ أُمَّةٍ مَعَها إمامُها مَن هادٍ أو مُضِلٍّ، واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في الإمامِ فَقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: نَبِيُّهُمْ، وقالَ أبُو زَيْدٍ: كِتابُهُمُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ: كِتابُهُمُ الَّذِي فِيهِ أعْمالُهُمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مُتَّبَعُهم مَن هادٍ ومُضِلٍّ. ولَفْظَةُ "الإمامِ" تَعُمُّ هَذا كُلَّهُ؛ لِأنَّ الإمامَ هو ما يُؤْتَمُّ بِهِ ويُهْتَدى بِهِ في القَصْدِ، ومِنهُ قِيلَ لِخَيْطِ البِنّاءِ: إمامٌ، قالَ الشاعِرُ يَصِفُ قَدْحًا: ؎ وقَوَّمْتُهُ حَتّى إذا تَمَّ واسْتَوى ∗∗∗ كَمُخَّةِ ساقٍ أو كَمَتْنِ إمامِ (p-٥١٧)وَمِنهُ قِيلَ لِلطَّرِيقِ: إمامٌ؛ لِأنَّهُ يُؤْتَمُّ بِهِ في المَقاصِدِ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى المُرادِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ حَقِيقَةٌ في أنَّ في يَوْمِ القِيامَةِ صَحائِفَ تَتَطايَرُ وتُوضَعُ في الأيْمانِ لِأهْلِ الإيمانِ، وفي الشَمائِلِ لِأهْلِ الكُفْرِ، وتُوضَعُ في أيْمانِ المُذْنِبِينَ الَّذِينَ يَنْفُذُهُمُ الوَعِيدُ، فَسَيَسْتَفِيدُونَ مِنها أنَّهم غَيْرُ مُخَلَّدِينَ في النارِ. وقَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿يَقْرَءُونَ كِتابَهُمْ﴾، عِبارَةٌ عَنِ السُرُورِ بِها، أيْ: يُرَدِّدُنَها ويَتَناقَلُونَها، وقَوْلُهُ: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾، أيْ: ولا أقَلَّ ولا أكْثَرَ، فَهَذا هو مَفْهُومُ الخِطابِ، حُكْمُ المَسْكُوتِ عنهُ كَحُكْمِ المَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣]، وكَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠]، وهَذا كَثِيرٌ. ومَعْنى الآيَةِ أنَّهم لا يُبْخَسُونَ مِن جَزاءِ أعْمالِهِمُ الصالِحَةِ شَيْئًا، و"الفَتِيلُ" هو الخَيْطُ الَّذِي في شِقِّ نَواةِ التَمْرِ، يُضْرَبُ بِهِ المَثَلَ في القِلَّةِ وتَفاهَةِ القَدْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن كانَ في هَذِهِ أعْمى﴾ الآيَةُ. قالَ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي مُوسى: الإشارَةُ بِـ "هَذِهِ" إشارَةٌ إلى النِعَمِ الَّتِي ذَكَرَها سُبْحانَهُ وتَعالى في قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾، أيْ: مَن عَمِيَ عن شُكْرِ هَذِهِ النِعَمِ والإيمانِ بِمُسْدِيها فَهو في أُمُورِ الآخِرَةِ وشَأْنِها أعْمى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَحْتَمَلُ "أعْمى" الثانِي أنْ يَكُونَ بِمَنزِلَةِ الأوَّلِ، عَلى أنَّهُ تَشْبِيهٌ بِأعْمى البَصَرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ صِفَةَ تَفْضِيلٍ، أيْ أشَدُّ عَمى، و"العَمى" في هَذِهِ الآيَةِ هو عَمى القَلْبِ في الأوَّلِ والثانِي، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: الإشارَةُ بِـ "هَذِهِ" إلى الدُنْيا، أيْ: مَن كانَ في هَذِهِ الدارِ أعْمى عَنِ النَظَرِ في آياتِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وعِبَرِهِ والإيمانِ بِآياتِهِ ﴿فَهُوَ في الآخِرَةِ أعْمى﴾، إمّا أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: في شَأْنِ الآخِرَةِ، وإمّا أنْ يَكُونَ: فَهو في يَوْمِ القِيامَةِ أعْمى، عَلى مَعْنى أنَّهُ حَيْرانٌ، لا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ صَوابٌ، ولا يَلُوحُ لَهُ نُجُحٌ. قالَ مُجاهِدٌ: في الآخِرَةِ أعْمى عن حُجَّتِهِ. (p-٥١٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والظاهِرُ عِنْدِي أنَّ الإشارَةَ بِـ "هَذِهِ" إلى الدُنْيا، أيْ: مَن كانَ في دُنْياهُ هَذِهِ ووَقْتُ إدْراكِهِ وفَهْمِهِ أعْمى عَنِ النَظَرِ في آياتِ اللهِ تَعالى، فَهو في الآخِرَةِ أشَدُّ حِيرَةً وأعْمى؛ لِأنَّهُ قَدْ باشَرَ الخَيْبَةَ، ورَأى مَخايِلَ العَذابِ. وبِهَذا التَأْوِيلِ تَكُونُ مُعادَلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَها، مَن ذَكَرَ مَن يُؤْتى كِتابُهُ بِيَمِينِهِ، وإذا جَعَلْنا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِي الآخِرَةِ﴾ بِمَعْنى: "فِي شَأْنِ الآخِرَةِ" لَمْ تُطْرَدِ المُعادَلَةُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ: "أعْمى" في المَوْضِعَيْنِ بِغَيْرِ إمالَةٍ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعاصِمٌ -بِخِلافٍ عنهُ- في المَوْضِعَيْنِ بِإمالَةٍ، وقَرَأ أبُو عَمْرُو بِإمالَةِ الأوَّلِ وفَتْحِ الثانِي، وتَأوَّلَهُ بِمَعْنى: "أشَدُّ عَمى"، ولِذَلِكَ لَمْ يُمِلْهُ. قالَ أبُو عَمْرُو: لِأنَّ الإمالَةَ إنَّما تَحْسُنُ في الأواخِرِ، و"أعْمى" لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ: أعْمى مِن كَذا، فَلَيْسَ يَتِمُّ إلّا في قَوْلِنا: "مِن كَذا" عَلى ما هو شَبِيهٌ بِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإنَّما جَعَلَهُ في الآخِرَةِ أضَلَّ سَبِيلًا، لِأنَّ الكافِرَ في الدُنْيا مُمْكِنٌ أنْ يُؤْمِنَ فَيَنْجُو، وهو في الآخِرَةِ لا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَهو أضَلُّ سَبِيلًا، وأشَدُّ حِيرَةً، وأقْرَبُ إلى العَذابِ. وقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: "لا يُقالُ أعْمى مِن كَذا، كَما يُقالُ: ما أيْداهْ" إنَّما هو في عَمى العَيْنُ الَّذِي لا تَفاضُلُ فِيهِ، وأمّا في عَمى القَلْبِ فَيُقالُ ذَلِكَ لِأنَّهُ يَقَعُ فِيهِ التَفاضُلُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَكَرَ مَكِّيُّ في هَذِهِ الآيَةِ، أنَّ العَمى الأوَّلَ هو عَمى العَيْنِ عَنِ الهُدى. وهَذا بَيِّنُ الِاخْتِلالِ، واللهٌ المُعِينُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوحَيْنا إلَيْكَ﴾ الآيَةُ. "إنْ" هَذِهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ، واللامُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "لَيَفْتِنُونَكَ" لامُ تَأْكِيدٍ، و"إنْ" هَذِهِ عِنْدَ الفَرّاءِ بِمَعْنى "ما"، واللامُ بِمَعْنى "إنَّما"، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "كادُوا" قِيلَ: هو لِقُرَيْشٍ، وقِيلَ: لِثَقِيفٍ، فَأمّا لِقُرَيْشٍ فَقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ: نَزَلَتِ الآيَةُ لِأنَّهم (p-٥١٩)قالُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: لا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُ الحَجَرَ الأسْوَدَ حَتّى تَمَسَّ أوثانَنا، عَلى جِهَةِ التَشَرُّعِ بِذَلِكَ، قالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ: فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يُظْهِرَ لَهم ذَلِكَ وقَلْبُهُ مُنْكِرٌ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ، قالَ الزَجّاجُ: وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في نَفْسِهِ: وما عَلَيَّ أنْ أفْعَلَ لَهم ذَلِكَ واللهُ تَعالى يَعْلَمُ ما في نَفْسِي؟ وقالَ ابْنُ إسْحاقٍ وغَيْرُهُ: إنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لَيْلَةً فَعَظَّمُوهُ وقالُوا لَهُ: أنْتَ سَيِّدُنا، ولَكِنْ: أقْبِلْ عَلى بَعْضِ أمْرِنا ونُقْبِلُ عَلى بَعْضِ أمْرِكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهِيَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: ٩]. وحَكى الزَجّاجُ أنَّ الآيَةَ قِيلَ: إنَّما هِي فِيما أرادُوهُ مِن طَرْدِ فُقَراءِ أصْحابِهِ. وأمّا لِثَقِيفٍ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما- وغَيْرُهُ: لِأنَّهم طَلَبُوا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنْ يُؤَخِّرَهم بَعْدَ إسْلامِهِمْ سَنَةً يَعْبُدُونَ فِيها اللاتَ، وقالُوا: إنّا نُرِيدُ أنْ نَأْخُذَ ما يُهْدى لَها، ولَكِنْ إنْ خِفْتَ أنْ تُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْكَ العَرَبُ فَقُلْ: أوحى اللهُ ذَلِكَ إلَيَّ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. ويَلْزَمُ قائِلُ هَذا القَوْلِ أنْ يَجْعَلَ الآيَةَ مَدَنِيَّةً، وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ، ورَوى قائِلُو الأقْوالِ الأُخَرِ أنَّها مَكِّيَّةٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وجَمِيعُ ما أُرِيدَ مِنَ النَبِيِّ ﷺ بِحَسَبِ هَذا الِاخْتِلافِ قَدْ أوحى اللهُ تَعالى إلَيْهِ خِلافَهُ، إمّا في مُعْجِزٍ، وإمّا في غَيْرِ مُعْجِزٍ، وفِعْلُهُ هو -إنَّ لَوْ وقَعَ- افْتِراءٌ عَلى اللهِ، إذْ أفْعالُهُ وأقْوالُهُ إنَّما هي كُلُّها شَرْعٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا﴾ تَوْقِيفٌ عَلى ما نَجّاهُ اللهُ تَعالى مِنهُ مِن مُخالَفَةِ الكُفّارِ والوِلايَةِ لَهم. وقَوْلُهُ " لَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ " الآيَةُ، تَعْدِيدُ نِعْمَةٍ عَلى النَبِيِّ ﷺ، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ (p-٥٢٠)وَ "الرُكُونُ": شَدُّ الظَهْرِ إلى الأمْرِ، أوِ الحَزْمُ عَلى جِهَةِ السُكُونِ إلَيْهِ، كَما يَفْعَلُ الإنْسانُ بِالرُكْنِ مِنَ الجُدْرانِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً: ﴿أو آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٨٠]، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تَرْكَنُ" بِفَتْحِ الكافِ، وقَرَأ ابْنُ مَصْرِفٍ، وقَتادَةُ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي إسْحاقَ: "تَرْكُنُ" بِضَمِّ الكافِ. ورَسُولُ اللهِ ﷺ لَمْ يَرْكَنْ، لَكِنَّهُ كادَ بِحَسْبِ هَمِّهِ بِمُوافَقَتِهِمْ طَمَعًا مِنهُ في اسْتِئْلافِهِمْ، وذَهَبَ ابْنُ الأنْبارِيِّ إلى أنَّ مَعْناهُ: لَقَدْ كادَ أنْ يُخْبِرُوا عنكَ أنَّكَ رَكَنْتَ، ونَحْوَ هَذا، ذَهَبَ في ذَلِكَ إلى نَفْيِ الهَمِّ بِذَلِكَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، فَحَمَّلَ اللَفْظَ ما لا يَحْتَمِلُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿شَيْئًا قَلِيلا﴾ يُبْطِلُ ذَلِكَ. وهَذا الهَمُّ مِنَ النَبِيِّ ﷺ إنَّما كانَتْ خَطِرَةً مِمّا لا يُمْكِنُ دَفْعَهُ، ولِذَلِكَ قِيلَ: "كِدْتَ"، وهي تُعْطِي أنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُكُونًا، ثُمَّ قِيلَ: ﴿شَيْئًا قَلِيلا﴾ إذْ كانَتِ المُقارَبَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُها "كِدْتَ" قَلِيلَةً، خَطِرَةً لَمْ تَتَأكَّدْ في النَفْسِ، وهَذا الهَمُّ هو كَهَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ، والقَوْلُ فِيهِما واحِدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذًا لأذَقْناكَ﴾ يُبْطِلُ أيْضًا ما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الأنْبارِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والضِحاكُ: يُرِيدُ: ضِعْفَ عَذابِ الحَياةِ وضِعْفَ عَذابِ المَماتِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: عَلى مَعْنى أنَّ ما يَسْتَحِقُّهُ هَذا الذَنْبُ مِن عُقُوبَتِنا في الدُنْيا والآخِرَةِ كُنّا نُضَعِّفُهُ لَكَ، وهَذا التَضْعِيفُ شائِعٌ مَعَ النَبِيِّ ﷺ في أجْرِهِ وألَمِهِ وعِقابِ أزْواجِهِ. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب