الباحث القرآني

﴿ومَن كانَ﴾ مِنَ المَدْعُوِّينَ المَذْكُورِينَ ﴿فِي هَذِهِ﴾ الدُّنْيا الَّتِي فُعِلَ بِهِمْ فِيها مِنَ التَّكْرِيمِ والتَّفْضِيلِ ما فُعِلَ ﴿أعْمى﴾ لا يَهْتَدِي إلى طَرِيقِ نَجاتِهِ مِنَ النَّظَرِ إلى ما أوْلاهُ مَوْلاهُ جَلَّ عُلاهُ والقِيامِ بِحُقُوقِهِ وشُكْرِهِ سُبْحانَهُ بِما يَنْبَغِي لَهُ عَزَّ شَأْنُهُ مِنَ الإيمانِ والعَمَلِ ﴿فَهُوَ في الآخِرَةِ﴾ الَّتِي عَبَّرَ عَنْها بِ: «يَوْمَ نَدْعُو» ﴿أعْمى﴾ لا يَهْتَدِي أيْضًا إلى ما يُنَجِّيهِ ولا يَظْفَرُ بِما يُجْدِيهِ لِأنَّ العَمى الأوَّلَ مُوجِبٌ لِلثّانِي وهو في المَوْضِعَيْنِ مُسْتَعارٌ مِن آفَةِ البَصَرِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ﴿أعْمى﴾ الثّانِي أفْعَلَ تَفْضِيلٍ مِن عَمى البَصِيرَةِ وهو مِنَ العُيُوبِ الباطِنَةِ الَّتِي يَجُوزُ أنْ يُصاغَ مِنها أفْعَلُ التَّفْضِيلِ كالأحْمَقِ والأبْلَهِ، وبُنِيَ عَلى ذَلِكَ إمالَةُ أبِي عَمْرٍو الأوَّلَ وتَفْخِيمُهُ الثّانِي وبَيانُ أنَّ الألِفَ في الأوَّلِ آخِرُ الكَلِمَةِ كَما تَرى وتَحْسُنُ الإمالَةُ في الأواخِرِ وهي في الثّانِي عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ أفْعَلَ تَفْضِيلٍ كَأنَّها في وسَطِ الكَلِمَةِ لِأنَّ أفْعَلَ المَذْكُورَ غَيْرُ مُعَرَّفٍ بِاللّامِ ولا مُضافٍ لا يُسْتَعْمَلُ بِدُونِ مِن الجارَّةِ لِلْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ مَلْفُوظَةً أوْ مُقَدَّرَةً وهو مَعَها في حُكْمِ الكَلِمَةِ الواحِدَةِ ولا تَحْسُنُ الإمالَةُ فِيها ولا تَكْثُرُ كَما في المُتَطَرِّفَةِ. وقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أبُو عَلِيٍّ في الحُجَّةِ فَلا يَرُدُّ إمالَةَ «أدْنى مِن ذَلِكَ» و«الكافِرِينَ» وأنَّ حَمْزَةَ والكِسائِيَّ وأبا بَكْرٍ يُمِيلُونَ الأعْمى في المَوْضِعَيْنِ ولا حاجَةَ إلى أنْ يُقالَ: إنَّهم لا يَرَوْنَهُ أفْعَلَ تَفْضِيلٍ أوْ أنَّ الإمالَةَ فِيما يَرَوْنَهُ كَذَلِكَ لِلْمُشاكَلَةِ. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّهُ لَمّا أُرِيدَ افْتِراقُ مَعْنى الأعْمى في المَوْضِعَيْنِ افْتَرَقَ اللَّفْظانِ إمالَةً وتَفْخِيمًا، وفُخِّمَ الثّانِي لِأنَّ ما يَدُلُّ عَلى زِيادَةِ المَعْنى أوْلى بِالتَّفْخِيمِ مَعَ عَدَمِ حُسْنِ الإمالَةِ فِيهِ حُسْنَها في الأوَّلِ، ولا يُظَنُّ بِأبِي عَلِيٍّ أنَّهُ يَقُولُ بِامْتِناعِ الإمالَةِ وإنَّما يَقُولُ بِأوْلَوِيَّةِ التَّفْخِيمِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كانَ العَمى فِيما يَكُونُ لِلْبَصَرِ وما يَكُونُ لِلْبَصِيرَةِ حَقِيقَةً فَلا إشْكالَ، وإنْ كانَ حَقِيقَةً في الأوَّلِ وتُجُوِّزَ بِهِ عَنِ الثّانِي فَفِيهِ إشْكالٌ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ أُلْحِقَ بِما وُضِعَ لِذَلِكَ وقَدْ مَنَعَهُ آخَرُونَ؛ لِأنَّ العِلَّةَ وهي الإلْباسُ بِالوَصْفِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ فَتَدَبَّرْ، وقَوِيَ هَذا التَّأْوِيلُ بِعَطْفِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأضَلُّ سَبِيلا﴾ مِنهُ في الدُّنْيا لِزَوالِ الِاسْتِعْدادِ وعَدَمِ إمْكانِ تَدارُكِ ما فاتَ، وهَذا بِعَيْنِهِ هو الَّذِي أُوتِيَ كِتابَهُ بِشَمالِهِ بِدَلالَةِ حالِ ما سَبَقَ مِنَ الفَرِيقِ المُقابِلِ لَهُ، ولَعَلَّ العُدُولَ إلى هَذا العُنْوانِ لِلْإيذانِ بِالعِلَّةِ المُوجِبَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأمّا إنْ كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ ولِلرَّمْزِ إلى عِلَّةِ حالِ الفَرِيقِ الأوَّلِ وفي ذَلِكَ ما هو مِن قَبِيلِ الِاحْتِباكِ حَيْثُ ذُكِرَ في أحَدِ الجانِبَيْنِ المُسَبَّبُ وفي الآخَرِ السَّبَبُ ودُلَّ بِالمَذْكُورِ في كُلٍّ مِنهُما (p-124)عَلى المَتْرُوكِ في الآخَرِ تَعْوِيلًا عَلى شَهادَةِ العَقْلِ، وجَعَلَهُ ابْنُ المُنَيِّرِ مُقابِلًا لِلْقِسْمِ الأوَّلِ عَلى مَعْنى: ﴿فَمَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ فَهو الَّذِي يَتَبَصَّرُهُ ويَقْرَؤُهُ ومَن كانَ في الدُّنْيا أعْمى غَيْرَ مُتَبَصِّرٍ في نَفْسِهِ ولا ناظِرٍ في مَعادِهِ فَهو في الآخِرَةِ كَذَلِكَ غَيْرُ مُتَبَصِّرٍ في كِتابِهِ بَلْ أعْمى عَنْهُ أوْ أشَدُّ عَمًى مِمّا كانَ في الدُّنْيا عَلى اخْتِلافِ التَّأْوِيلَيْنِ وهو خِلافُ الظّاهِرِ. ويُشْعِرُ أيْضًا بِأنَّ مَن كانَ في الدُّنْيا أعْمى عَنِ السُّلُوكِ في طَرِيقِ نَجاتِهِ لا يَقْرَأُ في الآخِرَةِ كِتابَهُ وهو خِلافُ المُصَرَّحِ بِهِ في الآياتِ والأحادِيثِ، نَعَمْ فَرْقٌ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ ولَعَلَّ الآيَةَ تُشْعِرُ بِالفَرْقِ وإنْ لَمْ تُقَرِّرِ المُقابَلَةَ بِما ذُكِرَ، هَذا وعَنْ أبِي مُسْلِمٍ تَفْسِيرُ ﴿أعْمى﴾ الثّانِي بِأعْمى العَيْنِ ولا تَجُوزُ؛ أيْ: مَن كانَ في الدُّنْيا أعْمى القَلْبِ فَهو في الآخِرَةِ أعْمى العَيْنِ، أيْ: يُحْشَرُ كَذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلى ضَلالَتِهِ في الدُّنْيا وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ الآيَةَ. وتَأوَّلَ ﴿فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ بِالعِلْمِ والمَعْرِفَةِ، وعَنْهُ أيْضًا تَجْوِيزُ أنْ يَكُونَ العَمى عِبارَةً عَمّا يَلْحَقُهُ مِنَ الغَمِّ المُفْرِطِ كَأنَّهُ قِيلَ: مَن كانَ في الدُّنْيا ضالًّا فَهو في الآخِرَةِ مَغْمُومٌ جِدًّا فَإنَّ مَن لا يَرى إلّا ما يَسُوءُهُ والأعْمى سَواءٌ، وهَذا كَما يُقالُ: فُلانٌ سَخِينُ العَيْنِ وهو كَما تَرى. وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ إشارَةٌ إلى النِّعَمِ المَذْكُورَةِ قَبْلُ عَلى مَعْنى: مَن كانَ أعْمى غَيْرَ مُتَبَصِّرٍ في هَذِهِ النِّعَمِ وقَدْ عايَنَها فَهو في شَأْنِ الآخِرَةِ الَّتِي لَمْ يُعايِنْها أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا، واسْتَنَدَ في ذَلِكَ إلى ما أخْرَجَهُ الفِرْيابِيُّ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: جاءَ نَفَرٌ مِن أهْلِ اليَمَنِ إلى ابْنِ عَبّاسٍ فَسَألَهُ رَجُلٌ مِنهُمْ: أرَأيْتَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ تَصِلِ المَسْألَةَ؛ اقْرَأْ ما قَبْلَها ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ في البَحْرِ﴾ حَتّى بَلَغَ ﴿وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلا﴾ ثُمَّ قالَ: مَن كانَ أعْمى عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي قَدْ رَأى وعايَنَ فَهو في أمْرِ الآخِرَةِ الَّتِي لَمْ يَرَ ولَمْ يُعايِنْ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا. وفِي رِوايَةٍ أُخْرى أخْرَجَها عَنْهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ مِن طَرِيقِ الضَّحّاكِ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: يَقُولُ تَعالى: مَن كانَ في الدُّنْيا أعْمى عَمّا رَأى مِن قُدْرَتِي مِن خَلْقِ السَّماءِ والأرْضِ والجِبالِ والبِحارِ والنّاسِ والدَّوابِّ وأشْباهِ هَذا فَهو عَمّا وصَفْتُ لَهُ في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا يَقُولُ سُبْحانَهُ: أبْعَدُ حُجَّةً. ورَوى أبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَهُ، ولا يَخْفى أنَّ كِلا التَّأْوِيلَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا؛ وإنْ كانَ الثّانِي دُونَ الأوَّلِ في البُعْدِ، ولا أظُنُّ الحَبْرَ يَقُولُ ذَلِكَ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. * * * «ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ» ﴿وقَضى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إيّاهُ﴾ قالَتِ الوُجُودِيَّةُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: إنَّهُ تَعالى سَبَقَ قَضاؤُهُ أنْ لا يُعْبَدُ سِواهُ فَكُلُّ عابِدٍ إنَّما يَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحانَهُ مِن حَيْثُ يَدْرِي ومِن حَيْثُ لا يَدْرِي؛ فَإنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ والأعْيانُ الثّابِتَةُ ما شَمَّتْ رائِحَةَ الوُجُودِ ولا تَشُمُّهُ أبَدًا، ومِمّا يَنْسُبُونَهُ إلى زَيْنِ العابِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ويَزْعُمُونَ أنَّهُ مُشِيرٌ إلى مُدَعّاهم قَوْلُهُ: ؎إنِّي لَأكْتُمُ مِن عِلْمِي جَواهِرَهُ كَيْلا يَرى الحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيَفْتَتِنا ؎وقَدْ تَقَدَّمَ في هَذا أبُو حَسَنٍ ∗∗∗ إلى الحُسَيْنِ وأوْصى قَبْلَهُ الحَسَنا ؎فَرُبَّ جَوْهَرٍ عَلَمٍ لَوْ أبُوحُ بِهِ ∗∗∗ لَقِيلَ لِي: أنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الوَثَنا ؎ولاسْتَحَلَّ رِجالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي ∗∗∗ يَرَوْنَ أقْبَحَ ما يَأْتُونَهُ حَسَنا (p-125)قالُوا: إنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَنى بِهَذا الجَوْهَرِ الَّذِي لَوْ باحَ بِهِ لَقِيلَ لَهُ: أنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الوَثَنَ عِلْمَ الوَحْدَةِ؛ إذْ مِنهُ يُعْلَمُ أنَّ الوَثَنَ وكَذا غَيْرُهُ مَظْهَرٌ لَهُ جَلَّ وعَلا ولَيْسَ في الدّارِ غَيْرُهُ دَيّارٌ، وقَدْ مَرَّ عَنْ قُرْبٍ ما نُقِلَ عَنِ الحَلّاجِ ومِثْلُهُ كَثِيرٌ لِلشَّيْخِ الأكْبَرِ قُدِّسَ سِرُّهُ ولِغَيْرِهِ عَرَبًا وعَجَمًا وهو عَفا اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قَدْ فَتَحَ بابًا في هَذا المَطْلَبِ لا يُسَدُّ إلى أنْ يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وكَأنَّهُ أوْصى إلَيْهِ بِأنْ يَبُوحَ ويَنْثُرَ هاتِيكَ الجَواهِرَ بَيْنَ الأصاغِرِ والأكابِرِ كَما أوْصى إلى الحَسَنَيْنِ بِأنْ يَكْتُما مِن ذَلِكَ ما عَلِما، وفي بَعْضِ كُتُبِهِ قُدِّسَ سِرُّهُ ما هو صَرِيحٌ في أنَّهُ مَأْمُورٌ؛ فَإنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهو مَعْذُورٌ، وأنا لا أرى عُذْرًا لِمَن يَقْفُو أثَرَهُ في المَقالِ مَعَ مُبايَنَتِهِ لَهُ في الحالِ، فَإنَّ هَذا المَطْلَبَ أجَلُّ مِن أنْ يَحْصُلَ لِغَرِيقِ الشَّهَواتِ وأسِيرِ المَأْلُوفاتِ ورَهِينِ العاداتِ، ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ مَن قالَ: ؎تَقُولُ نِساءُ الحَيِّ: تَطْمَعُ أنْ تَرى ∗∗∗ مَحاسِنَ لَيْلى مُتْ بِداءِ المَطامِعِ ؎وكَيْفَ تَرى لَيْلى بِعَيْنٍ تَرى بِها ∗∗∗ سِواها وما طَهَّرْتَها بِالمَدامِعِ ؎وتَطْمَعُ مِنها بِالحَدِيثِ وقَدْ جَرى ∗∗∗ حَدِيثُ سِواها في خُرُوقِ المَسامِعِ ولا يَخْفى أنَّهُ عَلى تَأْوِيلِ الصُّوفِيَّةِ هَذِهِ الآيَةُ لا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ داخِلًا فِيما قَضى؛ إذْ لا يَسْمَعُهم أنْ يَقُولُوا: إنَّ كُلَّ أحَدٍ مُحْسِنٌ بِوالِدَيْهِ مِن حَيْثُ يَدْرِي ومِن حَيْثُ لا، ويُفْهَمُ مِن كَلامِ بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ أنَّ هَذا إيصاءٌ بِالإحْسانِ إلى الشَّيْخِ أيْضًا، وعَلَيْهِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَثْنِيَةُ الوالِدَيْنِ كَما في قَوْلِهِمُ: القَلَمُ أحَدُ اللِّسانَيْنِ. ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ﴾ قِيلَ: ذُو القُرْبى إشارَةٌ إلى الرُّوحِ لِأنَّها كانَتْ قَبْلَ في القُرْبَةِ والمُشاهَدَةِ ثُمَّ هَبَطَتْ حَيْثُ هَبَطَتْ، والمِسْكِينُ إشارَةٌ إلى العَقْلِ لِأنَّهُ عاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ العِلْمِ بِحَقِيقَةِ رَبِّهِ سُبْحانَهُ، وابْنُ السَّبِيلِ إشارَةٌ إلى القَلْبِ لِأنَّهُ يَتَقَلَّبُ في سُبُلِ السُّلُوكِ إلى مَلِكِ المُلُوكِ، وحَقُّ الرُّوحِ المُشاهَدَةُ، والعَقْلِ الفِكْرُ، والقَلْبِ الذِّكْرُ، وقِيلَ: الأوَّلُ إشارَةٌ إلى إخْوانِ المَعْرِفَةِ الَّذِينَ وصَلُوا مَعالِيَ المَقاماتِ وحَقُّهم ذِكْرُ ما يَزِيدُ تَمْكِينَهُمْ، والثّانِي إشارَةٌ إلى العاشِقِينَ الَّذِينَ سَكَنَهم عِشْقُ مَوْلاهم عَنْ طَلَبِ ما سِواهُ وحَقُّهم ذِكْرُ ما يَزِيدُ عِشْقَهُمْ، والثّالِثُ إشارَةٌ إلى السّالِكِينَ سُبُلَ الطَّلَبِ المُمْتَطِينَ نَجائِبَ الهِمَّةِ وحَقُّهم ذِكْرُ ما يَزِيدُ رَغْبَتَهم ويُهَوِّنُ مَشَقَّتَهم ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ﴾ فِيهِ إشارَةٌ لِلْمَشايِخِ كَيْفَ يَكُونُونَ مَعَ المُرِيدِينَ؛ أيْ: لا يَبْخَلُ عَلى المُرِيدِ بِنَشْرِ فَضائِلِ المَعْرِفَةِ وحَقائِقِ القُرْبَةِ، ولا تَذْكُرْ شَيْئًا لا يُتْحَمَلُ فَيَهْلَكُ وكُنْ بَيْنَ بَيْنَ. ﴿وأوْفُوا بِالعَهْدِ﴾ الَّذِي أُخِذَ مِنكم قَبْلَ خَلْقِ الأشْباحِ؛ وهو أنْ تُوَحِّدُوهُ تَعالى ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: لِرَبِّكَ عَلَيْكَ عُهُودٌ ظاهِرًا وباطِنًا فَعَهْدٌ عَلى الأسْرارِ أنْ لا تُشاهِدَ سِواهُ جَلَّ جَلالُهُ، وعَهْدٌ عَلى الرُّوحِ أنْ لا تُفارِقَ مَقامَ القُرْبَةِ، وعَهْدٌ عَلى القَلْبِ أنْ لا يُفارِقَ الخَوْفَ، وعَهْدٌ عَلى النَّفْسِ أنْ لا تَتْرُكَ شَيْئًا مِنَ الفَرائِضِ، وعَهْدٌ عَلى الجَوارِحِ أنْ تُلازِمَ الأدَبَ وتَتْرُكَ المُخالَفاتِ. ﴿وأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ﴾ قِيلَ: فِيهِ إشارَةٌ لِلْمَشايِخِ أيْضًا أنْ لا يَنْقُصُوا المُسْتَعِدِّينَ ما يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهم مِنَ الفَيُوضاتِ القَلْبِيَّةِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ﴾ إشارَةٌ لَهم أنْ يَعْرِضُوا أعْمالَ المُرِيدِينَ القَلْبِيَّةَ والقالَبِيَّةَ عَلى الشَّرِيعَةِ فَهي القِسْطاسُ المُسْتَقِيمُ وكِفَّتاها الحَظْرُ والإباحَةُ. ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ الآيَةَ. فِيهِ إشارَةٌ إلى بَعْضِ ما يَلْزَمُ السّالِكَ مِنَ التَّثَبُّتِ والِاحْتِياطِ والكَفِّ عَنِ الدَّعاوى العاطِلَةِ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ﴾ الآيَةَ. وقَدْ عَلِمْتَ ما عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ في تَسْبِيحِ الأشْياءِ مِن أنَّهُ قالَ: إلّا أنَّهُ لا يَسْمَعُهُ إلّا مَن فازَ بِقُرْبِ النَّوافِلِ أوْ مَن أشْرَقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أنْوارِهِ (p-126)كالَّذِينِ سَمِعُوا تَسْبِيحَ الحَصى في مَجْلِسِ سَيِّدِ الكامِلِينَ ﷺ، والتَّسْبِيحُ الحالِيُّ مِمّا لا يُنْكِرُهُ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وقَرَّرَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ بِأنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ خاصِّيَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ وكَما لا يَخُصُّهُ دُونَ ما عَداهُ فَهو يَشْتاقُهُ ويَطْلُبُهُ إذا لَمْ يَكُنْ حاصِلًا لَهُ ويَحْفَظُهُ ويُحِبُّهُ إذا حَصَلَ فَهو بِإظْهارِ خاصِّيَّتِهِ يُنَزِّهُ اللَّهَ تَعالى مِنَ الشَّرِيكِ وإلّا لَمْ يَكُنْ مُتَوَحِّدًا فِيها فَلِسانُ حالِهِ يَقُولُ: أُوَحِّدُهُ عَلى ما وحَّدَنِي وبِطَلَبِ كَمالِهِ يُنَزِّهُهُ سُبْحانَهُ عَنْ صِفاتِ النَّقْصِ كَأنَّهُ يَقُولُ: يا كامِلُ كَمِّلْنِي وبِإظْهارِ كَمالِهِ كَأنَّهُ يَقُولُ: كَمَّلَنِي الكامِلُ المُكَمِّلُ وعَلى هَذا القِياسُ، وحِينَئِذٍ يُقالُ: تُسَبِّحُهُ السَّماواتُ بِالكَمالِ والتَّأْثِيرِ والرُّبُوبِيَّةِ وبِأنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، والأرْضُ بِالخِلاقِيَّةِ والرِّزاقِيَّةِ والرَّحْمَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، والمَلائِكَةُ بِالعِلْمِ والقُدْرَةِ والتَّجَرُّدِ عَنِ المادَّةِ عَلى القَوْلِ بِأنَّهم أرْواحٌ مُجَرَّدَةٌ وهَكَذا. ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ مِنَ الجَهْلِ وعَمى القَلْبِ فَلا يَرَوْنَ حَقِيقَتَكَ القُدْسِيَّةَ ولا يُدْرِكُونَ مِنكَ إلّا الصُّورَةَ البَشَرِيَّةَ، وإنَّما خَصَّ ذَلِكَ بِوَقْتِ قِراءَةِ القُرْآنِ مَعَ أنَّهم في كُلِّ وقْتٍ هم أجْهَلُ الخَلْقِ بِهِ ﷺ لِأنَّ في ذَلِكَ الوَقْتِ يَظْهَرُ إشْراقُ أنْوارِ الصِّفاتِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَإذا كانُوا مَحْجُوبِينَ إذْ ذاكَ كانُوا في غَيْرِهِ مِنَ الأوْقاتِ أحْجَبَ وأحْجَبَ. ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ مِنَ الغِشاواتِ الطَّبِيعِيَّةِ والهَيْئاتِ البَدَنِيَّةِ ﴿أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ فَإنَّ القُرْآنَ كَلامُهُ تَعالى وهو أحَدُ صِفاتِهِ وإذا لَمْ يَعْرِفُوا نَبِيَّهُ ﷺ لَمْ يَعْرِفُوهُ عَزَّ وجَلَّ، وإذا لَمْ يَعْرِفُوهُ سُبْحانَهُ لَمْ يَعْرِفُوا صِفاتِهِ تَعالى فَلَمْ يَعْرِفُوا كَلامَهُ سُبْحانَهُ ﴿وفِي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ لِرُسُوخِ أوْساخِ التَّعَلُّقاتِ فِيها يَمْنَعُهم عَنْ سَماعِ القِراءَةِ وهَذا ناشِئٌ مِن جَهْلِهِمْ بِأفْعالِهِ تَعالى. ﴿وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا﴾ لِتَشَتُّتِ أهْوائِها وتَفَرُّقِ هَمِّهِمْ في عِبادَةِ آلِهَتِهِمُ المُتَنَوِّعَةِ فَلا تُناسِبُ الوَحْدَةُ بَواطِنَهم. ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ لِلْقِيامِ مِنَ القُبُورِ ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ حامِدِينَ لَهُ تَعالى مَجْدَهُ بِلِسانِ القالِ أوْ بِلِسانِ الحالِ حَيْثُ أظْهَرَ فِيكُمُ الحَياةَ بَعْدَ المَوْتِ ونَحْوَ ذَلِكَ. ﴿وتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ﴾ في القُبُورِ أوْ في الدُّنْيا ﴿إلا قَلِيلا﴾ لِذُهُولِكم عَنْ ذَلِكَ الزَّمانِ أوِ اسْتِقْصارِكُمُ الدُّنْيا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخِرَةِ ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ المَشِيئَةَ تابِعَةٌ لِلْعِلْمِ فَمَن عَلِمَ سُبْحانَهُ أهْلِيَّتَهُ لِلرَّحْمَةِ شاءَ تَعالى رَحْمَتَهُ فَرَحِمَهُ ومَن عَلِمَ جَلَّ وعَلا أهْلِيَّتَهُ لِلْعَذابِ شاءَ عَذابَهُ فَعَذَّبَهُ، ولا يَخْفى ما في تَقْدِيمِ شِقِّ مَشِيئَتِهِ الرَّحْمَةَ مِن تَقْوِيَةِ الأمَلِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أيْ يَدْعُونَهُمُ الكُفّارُ ويَعْبُدُونَهم ﴿يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ﴾ أيْ: يَطْلُبُ الأقْرَبُ مِنهُمُ الوَسِيلَةَ إلى اللَّهِ تَعالى فَكَيْفَ بِغَيْرِ الأقْرَبِ؟ والوَسِيلَةُ في الأصْلِ الواسِطَةُ الَّتِي يُتَوَسَّلُ ويُتَقَرَّبُ بِها إلى الشَّيْءِ وهي هُنا الطّاعَةُ كَما تَقَدَّمَ. وقِيلَ: هي كَرَمُهُ تَعالى القَدِيمُ وإحْسانُهُ عَزَّ وجَلَّ العَمِيمُ، وقِيلَ: هي الشَّفاعَةُ يَوْمَ القِيامَةِ، ولَمّا كانَ مَقامُ الوَسِيلَةِ بِهَذا المَعْنى خاصًّا بِنَبِيِّنا ﷺ أطْلَقُوا الوَسِيلَةَ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفَسَّرَها بِذَلِكَ هُنا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فَكُلُّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى مِن عِيسى وعُزَيْرٍ والمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وسِيلَتُهم إلى اللَّهِ تَعالى نَبِيِّنا ﷺ بَلْ هو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وسِيلَةُ سائِرِ المَوْجُوداتِ والواسِطَةُ بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى في إفاضَتِهِ سُبْحانَهُ الوُجُودَ وكَذا سائِرُ ما أُفِيضَ عَلَيْهِمْ وأحْظى الخَلْقِ بِوَساطَتِهِ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَإنَّهم أشِعَّةُ أنْوارِهِ وعُكُوساتُ آثارِهِ وهو النُّورُ الحَقُّ والنَّبِيُّ المُطْلَقُ وكانَ نَبِيًّا وآدَمُ بَيْنَ الماءِ والطِّينِ، وقَدْ تَلَقّى الأنْبِياءُ مِنهُ مِن وراءِ حِجابِ الأرْحامِ والأصْلابِ، وظَهَرُوا إذْ كانَ مُحْتَجِبًا ظُهُورَ الكَواكِبِ في اللَّيْلِ فَلَمّا بَزَغَتْ شَمْسُ النُّبُوَّةِ (p-127)المُطْلَقَةِ مِن أُفُقِ الظُّهُورِ غابُوا ونُسِخَتْ أحْكامُهم عَلى نَحْوِ غَيْبُوبَةِ الكَواكِبِ وانْمِحاقِ أنْوارِها وأضْوائِها عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن تَحْتِ الحِجابِ مُنْخَلِعَةً عَنِ الجِلْبابِ. ﴿ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ﴾ لِعِلْمِهِمْ بِجَمالِهِ وجَلالِهِ، والرَّجاءُ والخَوْفُ جَناحا مَن يَطِيرُ إلى حَضْرَةِ القُدْسِ ورَوْضَةِ الأُنْسِ، ومَن عَطَّلَ أحَدَهُما تَعَطَّلَ عَنِ الطَّيَرانِ. ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِصَوْتِكَ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلا﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى اخْتِلافِ مَراتِبِ تَمَكُّنِ الشَّيْطانِ مِن إغْواءِ بَنِي آدَمَ، فَمَن كانَ مِنهم ضَعِيفَ الِاسْتِعْدادِ اسْتَفَزَّهُ واسْتَخَفَّهُ بِصَوْتِهِ فَأغْواهُ بِوَسْوَسَةٍ وهَمْسٍ بَلْ هاجِسَةٍ ولَمَّةٍ، ومَن كانَ قَوِيَّ الِاسْتِعْدادِ فَإنْ كانَ خالِصًا عَنْ شَوائِبِ الغَيْرِيَّةِ أوْ عَنْ شَوائِبِ الصِّفاتِ النَّفْسانِيَّةِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِن إغْوائِهِ وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ وإنْ لَمْ يَكُنْ خالِصًا فَإنْ كانَ مُنْغَمِسًا في الشَّواغِلِ الحِسِّيَّةِ مُنْهَمِكًا في الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ شارَكَهُ في أمْوالِهِ وأوْلادِهِ وحَرَّضَهُ عَلى إشْراكِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى في المَحَبَّةِ وسَوَّلَ لَهُ التَّمَتُّعَ والتَّكاثُرَ والتَّفاخُرَ بِهِمْ ومَنّاهُ الأمانِيَّ الكاذِبَةَ وزَيَّنَ لَهُ الآمالَ الفارِغَةَ، وإنْ لَمْ يَنْغَمِسْ فَإنْ كانَ عالِمًا بِتَسْوِيلاتِهِ أجْلَبَ عَلَيْهِ بِخَيْلِهِ ورَجْلِهِ؛ أيْ: مَكَرَ بِأنْواعِ الحِيَلِ وكادَهُ بِصُنُوفِ الفِتَنِ وأفْتاهُ بِأنَّ تَحْصِيلَ أنْواعِ الحُطامِ والمَلاذِّ مِن جُمْلَةِ مَصالِحِ المَعاشِ وغَرَّهُ بِعِلْمِهِ وحَمْلِهِ عَلى الإعْجابِ بِهِ وأمْثالِ ذَلِكَ حَتّى أضَلَّهُ عَلى عِلْمٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بَلْ كانَ عابِدًا مُتَنَسِّكًا أغْواهُ بِالوَعْدِ وغَرَّهُ بِرُؤْيَةِ الطّاعَةِ وتَزْكِيَةِ النَّفْسِ. ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ الآيَةَ. قِيلَ: كَرَّمَهم تَعالى بِأنْ خَلَقَ أباهم آدَمَ عَلى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وجَعَلَ لَهم ذَلِكَ بِحُكْمِ الوِراثَةِ، وأنَّ الوَلَدَ سِرُّ أبِيهِ، وفَضَّلَهم عَلى الكَثِيرِ بِأنْ جَعَلَ لَهم مِنَ النِّعَمِ ما يَسْتَغْرِقُ العَدَّ، وجُوِّزَ أنْ يُقالَ: تَكْرِيمُهم بِأنْ بَسَطَ مَوائِدَ الإنْعامِ لَهم وجَعَلَ مَن عَداهم طُفَيْلِيًّا، وتَفْضِيلُهم بِما ذُكِرَ في التَّكْرِيمِ أوَّلًا وفِيهِ احْتِمالاتٌ أُخَرُ. ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ أيْ: نُنادِيهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إلى مَن كانُوا يَقْتَدُونَ بِهِ في الدُّنْيا لِأنَّهُ المُسْتَعْلِي مَحَبَّتُهم إيّاهُ عَلى سائِرِ مَحَبّاتِهِمْ. ﴿فَمَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ أيْ: مِن جِهَةِ العَقْلِ الَّذِي هو أقْوى جانِبَيْهِ ﴿فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتابَهُمْ﴾ ويَأْخُذُونَ أُجُورَ أعْمالِهِمُ المَكْتُوبَةِ فِيهِ ﴿ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ أدْنى شَيْءٍ حَقِيرٍ مِن ذَلِكَ ﴿ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى﴾ عَنِ الِاهْتِداءِ إلى الحَقِّ فَهو في الآخِرَةِ أعْمى أيْضًا ﴿وأضَلُّ سَبِيلا﴾ لِبُطْلانِ الكَسْبِ هُناكَ وهَذا الَّذِي يُؤْتى كِتابَهُ بِشَمالِهِ؛ أيْ: مِن جِهَةِ النَّفْسِ الَّتِي هي أضْعَفُ جانِبَيْهِ إلّا أنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِما ذُكِرَ لِما قَدَّمْنا، واللَّهُ تَعالى هو الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب