الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى﴾ الآية. قال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية، فقال: اقرأ ما قبلها: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي﴾ إلى قوله: ﴿تَفْضِيلًا﴾ فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النِّعَم -التي قد رأى وعاين- فهو في أمر الآخرة -التي لم ير ولم يعاين- أعمى وأضل سبيلًا [[ورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 177، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 110، و"ابن الجوزي" 5/ 66، و"الفخر الرازي" 21/ 18، و"القرطبي" 10/ 298، و"الدر المنثور" 4/ 357 وعزاه إلى الفريابي وابن أبي حاتم، من طريق عكرمة جيدة.]]. وروى أبو رَوْق عن الضحاك عن ابن عباس قال: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب، فهو عما وصفت لك في الآخرة ولم تره أعمى وأضل سبيلا [[أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص 36، 56 بنصه من طريق الضحاك، (منقطعة)، ورد بمعناه في: "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"الطوسي" 6/ 504، انظر: "تفسير == ابن عطية" 9/ 150، و"ابن الجوزي" 5/ 66، و"الفخر الرازي" 21/ 19، و"القرطبي" 10/ 128، و"الدر المنثور" 4/ 352 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.]]، يقول: وأبعد حجة، قال قتادة: من عاين الشمس والقمر فلم يؤمن فهو أعمى عما يغيب عنه أن يؤمن به [[أخرجه "الطبري" 15/ 128 بمعناه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص 55، بنحوه، وورد بمعناه في: "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"السمرقندي" 2/ 278، و"الطوسي" 6/ 504، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 150، و"ابن كثير" 2/ 59.]]؛ هذا قول المفسرين في هذه الآية. وقوله تعالى: ﴿في هَذِهِ﴾ الإشارة إلى النِّعَم التي ذكرها على رواية عكرمة، وبه قال السدي [[انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 66.]]، وعلى قول الآخرين: الإشارة إلى الدنيا [[وقد رجح هذا القول "الطبري" 15/ 129، و"ابن عطية" 9/ 151.]]، وبه قال مجاهد [[أخرجه "الطبري" 15/ 128 بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" 3/ 205، و"السمرقندي" 3/ 277، و"الطوسي" 6/ 505، انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 150، و"ابن الجوزي" 5/ 65، و"ابن كثير" 2/ 59.]]. وقوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ﴾، أي: في أمرها على تقدير المضاف، وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالًّا كافرًا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً؛ لأنه [[في (أ)، (د): (الآية)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح.]] في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته [[ورد في "تفسير هود الهواري" 2/ 433 - بمعناه، و"الثعلبي" 7/ 114 ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 110، و"ابن الجوزي" 5/ 66، و"الفخر الرازي" 21/ 19، و"القرطبي" 10/ 298.]]. واختار أبو إسحاق هذا القول، فقال: تأويله أنه إذا عَمِيَ في الدنيا وقد عَرَّفَه الله الهدى وجعل له إلى التوبة وُصْلَةً، وفَسَحَ له في ذلك إلى وقت مماته، فعمي عن رشده ولم يَتُبْ، ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ ، أي: أشد عمى، ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ لأنه لا [[في (د): (لم).]] يجد طريقًا إلى الهداية [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 253، بتصرف يسير.]]. وقال أبو علي: معنى قوله: ﴿فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾، أي: أشد عمى، إنه في الدنيا كان مُمَكَّنًا من الخروج عن عَمَاه بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إلى الخروج من عماه؛ لأنه قد حصل على عمله، ولذلك قوله: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ لأن ضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه [["الحجة للقراء" 5/ 113، بتصرف.]]. وعلى هذا القول: لا يُحتاج إلى تقدير المضاف في قوله: ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾، وهذا قول الحسن وقتادة؛ روينا ذلك عنه في مسند التفسير، والعمى في الآية المراد منه: عمى القلب، ولذلك جاز ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ بمعنى أشد عمى، ولو كان من عمى العين لم يجز أعمى بمعنى أشَدَّ عمى. قال الفراء: [العرب إذا قالوا: هو أفعل منك، قالوه فيما كان فعله على ثلاثة أحرف، فإذا زاد على ثلاثة أحرف لم يقولوا: هو أفعل منك، حتى يقولوا: هو أشدّ حمرة منك؛ لأنه يقال في الفعل منه: أحمر، وأما في العمى فإنه يقال: فلان أعمى من فلان في القلب، ولا يقال: هو أعمى منه في العين؛ وذلك أنه لما جاء على مذهب أحمر وحمراء تُرك فيه أفعل منه كما ترك] [[ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د)]] في كثير من أشباهه. قال: وبعض النحويين يقول: أجيزه في الأعمى والأعشى والأعرج والأزرق [[هذه من مسائل الخلاف المشهورة بين البصريين والكوفيين، فذهب الكوفيون إلى جواز استعمال ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان، وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان. انظر التفصيل حول هذه المسألة في: "الإنصاف" ص 124، و"شرح المفصل" 6/ 93، و"المقرب" 1/ 72، و"الخزانة" 8/ 230.]]؛ لأنا نقول: عَمِي وزَرِق وعَرِج وعَشِي، ولا نقول: حَمِر ولا بَيِض ولا صَفِر. قال الفراء: وليس ذلك بشيء؛ إنما يُنظر في هذا إلى ما يجوز أن يكون أقل أو أكثر، فيكون أفعل دليلًا على قلة الشيء وكثرته، ألا ترى أنك تقول: فلان أجمل من فلان؛ لأن جماله يزيد على جماله، ولا تقول للأعشى: هذا أعمى من ذلك، ولا لميتين هذا أموت من ذا، فأمّا قول الشاعر [[هو طرفة بن العبد (جاهلي).]]: أمَّا الملوكُ فأنتَ اليومَ ألأَمُهُم ... لُؤمًا وأبيضُهُم سِرْبالَ طبَّاخِ [["ديوانه" ص 18، و"اللسان" (بيض) 1/ 397، وورد بلا نسبة في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 379، "تفسير الثعلبي" 4/ 117 ب، و"الطوسي" 6/ 505، و"القرطبي" 10/ 299، و"اللسان" (عمي) 5/ 3115، و"شرح التصريح" 1/ 324، وله رواية اخرى استشهد بها النجاة في باب أفعل التفضيل، وهي: إذا الرجالُ شتَوْا واشتدَّ أَكلهمُ ... فأنت أبيضهُم سربالَ طبَّاخِ ورد هذه الرواية في: "الإنصاف" ص 124، و"شرح المفصل" 6/ 931، و"المقرب" 1/ 73، و"الخزانة" 8/ 230.]] فهو شاذ؛ هذا كلامه [["معاني القرآن" للفراء 2/ 128، نقل طويل تصرف فيه.]]، وعلى هذا التحديد إنما يجوز أن يقال: أفعل منك فيما يكون فعله على ثلاثة أحرف، وذلك الشيء مما يقل ويكثر، وما عدا هذا فإنما يقال فيه: أفعل منه، شاذًّا. وقرأ أبو عمرو ﴿فِي هَذِهِ أَعْمَى﴾ بكسر الميم، ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ بفتح الميم [[انظر: "السبعة" ص 383، و"علل القراءات" 1/ 325، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 378، و"الحجة للقراء" 5/ 112، و"المبسوط في القراءات" ص 229.]]، قال أبو علي الفارسي: أمال الألف من الكلمة الأولى ولم يملها من الثانية؛ لأنها بمعنى أفعل من كذا، مثل أَبْلَه من فلان، وليست عبارة عن الموؤفِ [[في (ش)، (ع): (المألوف)، وفي هامش (ش) كتب: (أحسبه المؤوف).]] الجارحةِ المصاب ببصره، فإذا كان كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة؛ لأن آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسنُ الإمالةُ في الأواخر؛ لأنها موضع الوقف، والألف تخفى في الوقف، فإذا أمالها نحا بها نحو الياء ليكون أظهر لها وأبين، ومما يقوِّي ذلك أن من العرب من يقلب هذه الألفات ياءات في الوقف فيقول: أَفعي، بإظهار الياء في اللفظ، وحُبْلي، وقد حذف في الآية من أفعل -الذي هو للتفضيل- الجار والمجرور، وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، المعنى: وأخفى من السر، فلذلك قوله: ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾، أي: منه في الدنيا. ومعنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طرق الثواب، ويدل على أن المراد بقوله: ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾: أشد عمى، قوله: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ فكما أن هذا لا يكون إلا على أفعل من كذا، كذلك المعطوف عليه، انتهى كلامه. [["الحجة للقراء" 5/ 112، وهو نقل طويل تصرف فيه بالحذف والإضافة والتقديم والتأخير والاختصار.]] فأراد أبو عمرو أن يفرق بين ما هو اسم وبين ما هو بمعنى أفعل منه، فغاير بينهما بالإمالة وتركهما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب