الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهم في البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْناهم مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٠] ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ فَمَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتابَهم ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ ﴿ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ . لَمّا ذَكَرَ تَعالى ما امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِن إزْجاءِ الفُلْكِ في البَحْرِ ومِن تَنْجِيَتِهِمْ مِنَ الغَرَقِ، تَمَّمَ ذِكْرَ المِنَّةِ بِذِكْرِ تَكْرِمَتِهِمْ ورِزْقِهِمْ وتَفْضِيلِهِمْ، أوْ لَمّا هَدَّدَهم بِما هَدَّدَ مِنَ الخَسْفِ والغَرَقِ وأنَّهم كافِرُو نِعْمَتَهُ ذَكَرَ ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَتَذَكَّرُوا فَيَشْكُرُوا نِعَمَهُ، ويُقْلِعُوا عَنْ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الكُفْرِ ويُطِيعُوهُ تَعالى، وفي ذِكْرِ النِّعَمِ وتَعْدادِها هَزٌّ لِشُكْرِها. وكَرَّمَ مُعَدًّى بِالتَّضْعِيفِ مِن كَرُمَ أيْ: جَعَلْناهم ذَوِي كَرَمٍ بِمَعْنى الشَّرَفِ والمَحاسِنِ الجَمَّةِ، كَما تَقُولُ: ثَوْبٌ كِرِيمٌ وفَرَسٌ كَرِيمٌ أيْ: جامِعٌ لِلْمَحاسِنِ ولَيْسَ مِن كَرَمِ المالِ. وما جاءَ عَنْ أهْلِ التَّفْسِيرِ مِن تَكْرِيمِهِمْ وتَفْضِيلِهِمْ بِأشْياءَ ذَكَرَها هو عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لا عَلى الحَصْرِ في ذَلِكَ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ التَّفْضِيلَ بِالعَقْلِ وعَنِ الضَّحّاكِ بِالنُّطْقِ، وعَنْ عَطاءٍ بِتَعْدِيلِ القامَةِ وامْتِدادِها، وعَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ بِالمَطاعِمِ واللَّذّاتِ، وعَنْ يَمانٍ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بِجَعْلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِنهم، وعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِالتَّسْلِيطِ عَلى غَيْرِهِ مِنَ الخَلْقِ وتَسْخِيرِهِ لَهُ. وقِيلَ: بِالخَطِّ، وقِيلَ: بِاللِّحْيَةِ لِلرَّجُلِ والذُّؤابَةِ لِلْمَرْأةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: بِأكْلِهِ بِيَدِهِ وغَيْرِهِ بِفَمِهِ. وقِيلَ: بِتَدْبِيرِ المَعاشِ والمَعادِ، وقِيلَ: بِخَلْقِ اللَّهِ آدَمَ بِيَدِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدْ ذُكِرَ أنَّ مِنَ الحَيَوانِ ما يَفْضُلُ بِنَوْعٍ ما ابْنَ آدَمَ كَجَرْيِ الفَرَسِ وسَمْعِهِ وإبْصارِهِ، وقُوَّةِ الفِيلِ، وشَجاعَةِ الأسَدِ، وكَرَمِ الدِّيكِ. قالَ: وإنَّما التَّكْرِيمُ والتَّفْضِيلُ بِالعَقْلِ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الحَيَوانُ كُلُّهُ وبِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ، ويُفْهَمُ كَلامُهُ ويُوصَلُ إلى نَعِيمِهِ. انْتَهى. ﴿وحَمَلْناهم في البَرِّ والبَحْرِ﴾ [الإسراء: ٧٠] وهَذا أيْضًا مِن تَكْرِيمِهِمْ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في البَرِّ عَلى الخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ والإبِلِ، وفي البَحْرِ عَلى السُّفُنِ. وقالَ غَيْرُهُ: عَلى أكْبادٍ رَطْبَةٍ وأعْوادٍ يابِسَةٍ. (والطَّيِّباتِ) كَما تَقَدَّمَ الحَلالُ أوِ المُسْتَلَذُّ، ولا يَتَّسِعُ غَيْرُهُ مِنَ الحَيَوانِ في الرِّزْقِ اتِّساعَهُ؛ لِأنَّهُ يَكْتَسِبُ المالَ ويَلْبَسُ الثِّيابَ ويَأْكُلُ المُرَكَّبَ مِنَ الأطْعِمَةِ بِخِلافِ الحَيَوانِ، فَإنَّهُ لا يَكْتَسِبُ ولا يَلْبَسُ ولا يَأْكُلُ غالِبًا إلّا لَحْمًا نَيِّئًا وطَعامًا غَيْرَ مُرَكَّبٍ، والظّاهِرُ أنُّ كَثِيرًا باقٍ عَلى حَقِيقَتِهِ، فَقالَتْ طائِفَةٌ: فُضِّلُوا عَلى الخَلائِقِ كُلِّهِمْ غَيْرَ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ وإسْرافِيلَ وعِزْرائِيلَ وأشْباهِهِمْ وهَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وعَنْهُ إنَّ الإنْسانَ لَيْسَ أفْضَلَ مِنَ المَلَكِ وهو اخْتِيارُ الزَّجّاجِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والحَيَوانُ والجِنُّ هو الكَثِيرُ المَفْضُولُ، والمَلائِكَةُ هُمُ الخارِجُونَ عَنِ الكَثِيرِ المَفْضُولِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الآيَةُ تَقْضِي بِفَضْلِ المَلائِكَةِ عَلى الإنْسِ مِن حَيْثُ هم (p-٦٢)المُسْتَثْنَوْنَ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: ١٧٢] وهَذا غَيْرُ لازِمٍ مِنَ الآيَةِ، بَلِ التَّفْضِيلُ بَيْنَ الإنْسِ والجِنِّ لَمْ تَعْنِ لَهُ الآيَةُ، بَلْ يُحْتَمَلُ أنَّ المَلائِكَةَ أفْضَلُ ويُحْتَمَلُ التَّساوِي، وإنَّما يَصِحُّ تَفْضِيلُ المَلائِكَةِ مِن مَواضِعَ أُخَرَ مِنَ الشَّرْعِ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا﴾ [الإسراء: ٧٠] هو ما سِوى المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وحَسْبُ بَنِي آدَمَ (تَفْضِيلًا) أنْ تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ وهم هم ومَنزِلَتُهم عِنْدَ اللَّهِ مَنزِلَتُهم، والعَجَبُ مِنَ المُجْبِرَةِ كَيْفَ عَكَسُوا في كُلِّ شَيْءٍ وكابَرُوا حَتّى جَسَرَتْهُمُ المُكابَرَةُ عَلى العَظِيمَةِ الَّتِي هي تَفْضِيلُ الإنْسانِ عَلى المَلَكِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَشْنِيعًا أقْذَعَ فِيهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِن كِتابِهِ. وقِيلَ: ﴿وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ﴾ [الإسراء: ٧٠] بِالغَلَبَةِ والِاسْتِيلاءِ. وقِيلَ: بِالثَّوابِ والجَزاءِ يَوْمَ القِيامَةِ، وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ لَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِلتَّفْضِيلِ المُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الإنْسِ والمَلائِكَةِ. وقِيلَ: المُرادُ بِكَثِيرٍ مَجازُهُ وهو إطْلاقُهُ عَلى الجَمِيعِ، والعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وهو القَوْلُ لا يَنْبَغِي أنْ يُقالَ هُنا؛ لِأنَّكَ لَوْ جَعَلْتَ جَمِيعًا كانَ بِكَثِيرٍ، فَقُلْتُ: عَلى جَمِيعٍ مِمَّنْ خَلَقَنا لَكانَ نائِيًا عَنِ الفَصاحَةِ، ولا يَلِيقُ أنْ يُحْمَلَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى الَّذِي هو أفْصَحُ الكَلامِ عَلَيْهِ، ولِأبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ كَلامٌ في تَكْرِيمِ ابْنِ آدَمَ وتَفْضِيلِهِ مُسْتَمَدٌّ مِن كَلامِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهم حُكَماءَ يُوقَفُ عَلَيْهِ في تَفْسِيرِهِ، إذْ هو جارٍ عَلى غَيْرِ طَرِيقَةِ العَرَبِ في كَلامِها. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنْواعًا مِن كَراماتِ الإنْسانِ في الدُّنْيا ذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِ الآخِرَةِ فَقالَ: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ واخْتَلَفُوا في العامِلِ في (يَوْمَ) . فَقِيلَ: العامِلُ فِيهِ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَتى هو. وقِيلَ: فَتَسْتَجِيبُونَ. وقِيلَ: هو بَدَلٌ مِن يَوْمَ يَدْعُوكم، وهَذِهِ أقْوالٌ في غايَةِ الضَّعْفِ، ولَوْلا أنَّهم ذَكَرُوها لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِها صَفْحًا وهو في هَذِهِ الأقْوالِ ظَرْفٌ. وقالَ الحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: انْتَصَبَ عَلى الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ اذْكُرْ وعَلى تَقْدِيرِ اذْكُرْ لا يَكُونُ ظَرْفًا بَلْ هو مَفْعُولٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا بَعْدَ قَوْلِهِ هو ظَرْفٌ: والعامِلُ فِيهِ اذْكُرْ أوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولا يُظْلَمُونَ﴾ وحَكاهُ أبُو البَقاءِ وقَدَّرَهُ ﴿ولا يُظْلَمُونَ﴾ يَوْمَ نَدْعُو. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا: ويَصِحُّ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ ﴿وفَضَّلْناهُمْ﴾ [الإسراء: ٧٠] وذَلِكَ أنَّ فَضْلَ البَشَرِ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى سائِرِ الحَيَوانِ بَيِّنٌ؛ لِأنَّهُمُ المُنَعَّمُونَ المُكَلَّفُونَ المُحاسَبُونَ الَّذِينَ لَهُمُ القَدْرُ إلّا أنَّ هَذا يَرُدُّهُ أنَّ الكُفّارَ يَوْمَئِذٍ أخْسَرُ مَن كُلِّ حَيَوانٍ، إذْ يَقُولُ الكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا: ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ (يَوْمَ) مَنصُوبًا عَلى البِناءِ لَمّا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، ويَكُونُ مَوْضِعُهُ رَفْعًا بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ في التَّقْسِيمِ الَّذِي أتى بَعْدُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن أُوتِيَ كِتابَهُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن كانَ﴾ . انْتَهى. وقَوْلُهُ مَنصُوبًا عَلى البِناءِ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ: مَبْنِيًّا عَلى الفَتْحِ، وقَوْلُهُ: لَمّا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلى مُتَمَكِّنٍ وغَيْرِ مُتَمَكِّنٍ هو الِاسْمُ لا الفِعْلُ، وهَذا أُضِيفَ إلى فِعْلٍ مُضارِعٍ، ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ أنَّهُ إذا أُضِيفَ إلى فِعْلٍ مُضارِعٍ مُعْرَبٍ لا يَجُوزُ بِناؤُهُ، وهَذا الوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ هو عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ. وأمّا قَوْلُهُ: والخَبَرُ في التَّقْسِيمِ عارٍ مِن رابِطٍ لِهَذِهِ الجُمْلَةِ التَّقْسِيمِيَّةِ بِالمُبْتَدَأِ إلّا إنْ قَدَّرَ مَحْذُوفًا، فَقَدْ يُمْكِنُ أيْ: مِمَّنْ ﴿أُوتِيَ كِتابَهُ﴾ فِيهِ (بِيَمِينِهِ) وهو بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْرِيجِ تَخْرِيجٌ مُتَكَلَّفٌ. وقالَ بَعْضُ النُّحاةِ: العامِلُ فِيهِ ﴿وفَضَّلْناهُمْ﴾ [الإسراء: ٧٠] عَلى تَقْدِيرِ ﴿وفَضَّلْناهُمْ﴾ [الإسراء: ٧٠] بِالثَّوابِ، وهَذا القَوْلُ قَرِيبٌ مِن قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ الَّذِي ذَكَرْناهُ عَنْهُ قَبْلُ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ لا تَجِدُ. وقالَ الفَرّاءُ: هو مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: نُعِيدُكم مُضْمَرَةٌ أيْ: نُعِيدُكم ﴿يَوْمَ نَدْعُوا﴾ والأقْرَبُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى المَفْعُولِ بِهِ بِاذْكُرْ مُضْمَرَةً. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نَدْعُو) بِنُونِ العَظَمَةِ، ومُجاهِدٌ يَدْعُو بِياءِ الغَيْبَةِ أيْ: يَدْعُو اللَّهَ، والحَسَنُ فِيما ذَكَرَ أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ يُدْعى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (كُلُّ) مَرْفُوعٌ بِهِ، وفِيما ذَكَرَ غَيْرُهُ يَدْعُو بِالواوِ وخُرِّجَ عَلى إبْدالِ الألِفِ واوًا عَلى لُغَةِ مَن (p-٦٣)يَقُولُ: أفْعُو في الوَقْفِ عَلى أفْعى، وإجْراءُ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ وكُلُّ مَرْفُوعٌ بِهِ، وعَلى أنْ تَكُونَ الواوُ ضَمِيرًا مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وأصْلُهُ يَدْعُونَ فَحُذِفَتِ النُّونُ كَما حُذِفَتْ في قَوْلِهِ: ؎أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتِي تَدْلُكِي وجْهَكِ بِالعَنْبَرِ والمِسْكِ الزَّكِيِّ أيْ: تَبِيتِينَ تَدْلُكِينَ، وكُلُّ بَدَلٌ مِن واوِ الضَّمِيرِ. و(أُناسٍ) اسْمُ جَمْعٍ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، والباءُ في ﴿بِإمامِهِمْ﴾ الظّاهِرُ أنَّها تَتَعَلَّقُ بِنَدْعُو، أيْ: بِاسْمِ إمامِهِمْ. وقِيلَ: هي باءُ الحالِ أيْ: مَصْحُوبِينَ ﴿بِإمامِهِمْ﴾ . والإمامُ هُنا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وأبُو العالِيَةِ والرَّبِيعُ: كِتابُهُمُ الَّذِي فِيهِ أعْمالُهم. وقالَ الضَّحّاكُ وابْنُ زَيْدٍ: كِتابُهُمُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِمْ. وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: نَبِيُّهم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والإمامُ يَعُمُّ هَذا كُلَّهُ؛ لِأنَّهُ مِمّا يُؤْتَمُ بِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إمامُهم مَنِ ائْتَمُّوا بِهِ نَبِيٌّ أوْ مُقَدَّمٌ في الدِّينِ أوْ كِتابٌ أوْ دِينٌ، فَيُقالُ: يا أهْلَ دِينِ كَذا وكِتابِ كَذا. وقِيلَ: بِكِتابِ أعْمالِهِمْ يا أصْحابَ كِتابِ الخَيْرِ ويا أصْحابَ كِتابِ الشَّرِّ. وفي قِراءَةِ الحَسَنِ بِكِتابِهِمْ ومِن بِدَعِ التَّفْسِيرِ أنَّ الإمامَ جَمْعُ أُمٍّ وأنَّ النّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بِأُمَّهاتِهِمْ، وأنَّ الحِكْمَةَ في الدُّعاءِ بِالأُمَّهاتِ دُونَ الآباءِ رِعايَةَ حَقِّ عِيسى وشَرَفِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ، وأنْ لا يَفْتَضِحَ أوْلادُ الزِّنا ولَيْتَ شِعْرِي أيُّهُما أبْدَعُ أصِحَّةُ لَفْظِهِ أمْ بَهاءُ حِكْمَتِهِ. انْتَهى. وإيتاءُ الكِتابِ دَلِيلٌ عَلى ما تَقَرَّرَ في الشَّرِيعَةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي يُؤْتاها المُؤْمِنُ والكافِرُ، وإيتاؤُهُ بِاليَمِينِ دَلِيلٌ عَلى نَجاةِ الطّائِعِ وخَلاصِ الفاسِقِ مِنَ النّارِ إنْ دَخَلَها وبِشارَتِهِ أنَّهُ لا يُخَلَّدُ فِيها (فَأُولَئِكَ) جاءَ جَمْعًا عَلى مَعْنى مَن إذْ قَدْ حُمِلَ عَلى اللَّفْظِ أوَّلًا فَأُفْرِدَ في قَوْلِهِ: ﴿أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ وقِراءَتُهم كُتُبَهم هو عَلى سَبِيلِ التَّلَذُّذِ بِالِاطِّلاعِ عَلى ما تَضَمَّنَتْها مِنَ البِشارَةِ، وإلّا فَقَدْ عَلِمُوا مِن حَيْثُ إيِتاؤُهم إيّاها بِاليَمِينِ أنَّهم مَن أهْلِ السَّعادَةِ، ومِن فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ يَقُولُ البارِي لِأهْلِ المَحْشَرِ: ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] ولَمْ يَأْتِ هُنا قَسِيمُ مَن ﴿أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ وهو مَن يُؤْتى كِتابَهُ بِشَمالِهِ، وإنْ كانَ قَدْ أتى في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ بَلْ جاءَ قَسِيمُهُ قَوْلُهُ. ﴿ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى﴾ وذَلِكَ مِن حَيْثُ المَعْنى مُقابِلُهُ؛ لِأنَّ مَن ﴿أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ هم أهْلُ السَّعادَةِ ﴿ومَن كانَ في هَذِهِ أعْمى﴾ هم أهْلُ الشَّقاوَةِ ﴿ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ أيْ: لا يَنْقُصُونَ أدْنى شَيْءٍ، وتَقَدَّمَ شَرْحُ الفَتِيلِ في سُورَةِ النِّساءِ. والظّاهِرُ أنَّ الإشارَةَ بِقَوْلِهِ: (في هَذِهِ) إلى الدُّنْيا، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ أيْ: مَن كانَ في هَذِهِ الدّارِ أعْمى عَنِ النَّظَرِ في آياتِ اللَّهِ وعِبَرِهِ والإيمانِ بِأنْبِيائِهِ، فَهو في الآخِرَةِ أعْمى إمّا أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: في شَأْنِ الآخِرَةِ، وإمّا أنْ يَكُونَ فَهو يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى، مَعْنى أنَّهُ خَبَرانِ لا يَتَوَجَّهَ لَهُ صَوابٌ ولا يَلُوحَ لَهُ نُجْحٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو أعْمى في الآخِرَةِ عَنْ حُجَجِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: ﴿ومَن كانَ في هَذِهِ﴾ النِّعَمُ يُشِيرُ إلى نِعَمِ التَّكْرِيمِ والتَّفْضِيلِ فَهو في الآخِرَةِ الَّتِي لَمْ تَرَ ولَمْ تُعايِنْ (أعْمى) . وقِيلَ: ومَن كانَ في الدُّنْيا ضالًّا كافِرًا فَهو في الآخِرَةِ أعْمى ﴿وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ لِأنَّهُ في الدُّنْيا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وفي الآخِرَةِ لا تُقْبَلُ، وفي الدُّنْيا يَهْتَدِي إلى التَّخَلُّصِ مِنَ الآفاتِ، وفي الآخِرَةِ لا يَهْتَدِي إلى ذَلِكَ ألْبَتَّةَ. وقِيلَ: فَهو في الآخِرَةِ أعْمى عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ. وقِيلَ: أعْمى البَصَرِ كَما قالَ: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا﴾ [الإسراء: ٩٧] وقَوْلُهُ: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٤] . وقِيلَ: مَن كانَ في الدُّنْيا أعْمى عَنْ إبْصارِ الحَقِّ والِاعْتِبارِ فَهو في الآخِرَةِ أعْمى عَنِ الِاعْتِذارِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والظّاهِرُ عِنْدِي أنَّ الإشارَةَ بِهَذِهِ إلى الدُّنْيا أيْ مَن كانَ في دُنْياهُ هَذِهِ وقْتَ إدْراكِهِ وفَهْمِهِ أعْمى عَنِ النَّظَرِ في آياتِ اللَّهِ فَهو في يَوْمِ القِيامَةِ أشَدُّ حَيْرَةً وعَمًى؛ لِأنَّهُ قَدْ باشَرَ الخَيْبَةَ ورَأى مَخائِلَ العَذابِ، وبِهَذا التَّأْوِيلِ تَكُونُ مُعادِلَةً الَّتِي قَبْلَها مِن ذِكْرِ مَن يُؤْتى كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. وإذا جَعَلْنا قَوْلَهُ: ﴿فِي الآخِرَةِ﴾ بِمَعْنى في شَأْنِ الآخِرَةِ لَمْ تَطَّرِدِ المُعادَلَةُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (p-٦٤)والأعْمى مُسْتَعارٌ مِمَّنْ لا يُدْرِكُ المُبْصَراتِ لِفَسادِ حاسَّتِهِ لِمَن لا يَهْتَدِي إلى طَرِيقِ النَّجاةِ، أمّا في الدُّنْيا فَلِفَقْدِ النَّظَرِ، وأمّا في الآخِرَةِ فَلِأنَّهُ لا يَنْفَعُهُ الِاهْتِداءُ إلَيْهِ، وقَدْ جَوَّزُوا أنْ يَكُونَ الثّانِي بِمَعْنى التَّفْضِيلِ. ومِن ثَمَّ قَرَأ أبُو عُمَرَ، والأوَّلُ مُمالًا والثّانِي مُفَخَّمًا؛ لِأنَّ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ تَمامُهُ بِمِن فَكانَتْ ألِفُهُ في حُكْمِ الواقِعَةِ في وسَطِ الكَلامِ كَقَوْلِهِ: (أعْمالُكم) وأمّا الأوَّلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ فَكانَتْ ألِفُهُ واقِعَةً في الطَّرَفِ مُعَرَّضَةً لِلْإمالَةِ. انْتَهى. وتَعْلِيلُهُ تَرْكُ إمالَةِ أعْمى الثّانِي أخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن أبِي عَلِيٍّ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: لِأنَّ الإمالَةَ إنَّما تَحْسُنُ في الأواخِرِ، و(أعْمى) لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ (أعْمى) مِن كَذا فَلَيْسَ يَتِمُّ إلّا في قَوْلِنا مِن كَذا فَهو إذَنْ لَيْسَ بِآخِرٍ، ويُقَوِّي هَذا التَّأْوِيلَ عَطْفُ ﴿وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ لِأنَّ الإنْسانَ في الدُّنْيا يُمْكِنُ أنْ يُؤْمِنَ فَيَنْجُوَ وهو في الآخِرَةِ لا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَهو ﴿أضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٢] وأشَدُّ حَيْرَةً وأقْرَبُ إلى العَذابِ، و(أعْمى) هُنا مِن عَمى القَلْبِ لا مِن عَمى البَصَرِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ التَّفاضُلُ لا هَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب