الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لَقَدْ كانَ في يُوسُفَ وإخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلِينَ﴾ ﴿إذْ قالُوا لَيُوسُفُ وأخُوهُ أحَبُّ إلى أبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أبانا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أرْضًا يَخْلُ لَكم وجْهُ أبِيكم وتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالِحِينَ﴾ ﴿قالَ قائِلٌ مِنهم لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وألْقُوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَيّارَةِ إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: "آياتٌ" بِالجَمْعِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ: "آيَةٌ" بِالإفْرادِ، وهي (p-٤٤)قِراءَةُ مُجاهِدٍ، وشِبْلٍ، وأهْلِ مَكَّةَ. فالأُولى عَلى مَعْنى أنَّ كُلَّ حالٍ مِن أحْوالِهِ آيَةٌ آيَةٌ فَجَمَعَها، والثانِيَةُ عَلى أنَّهُ بِجُمْلَتِهِ آيَةٌ، وإنْ تَفْصَّلَ بِالمَعْنى. ووَزْنُ آيَةٍ فَعَلَةٍ أو فَعْلَةٍ أو فاعِلَةٍ عَلى الخِلافِ فِيهِ، وذَكَرَ الزَجّاجُ أنَّ في غَيْرِ مُصْحَفِ عُثْمانَ "عِبْرَةٌ لِلسّائِلِينَ"، قالَ أبُو حاتِمٍ: هو في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وقَوْلُهُ: "لِلسّائِلِينَ" يَقْتَضِي حَضًّا ما عَلى تَعَلُّمِ هَذِهِ الأنْباءِ، لِأنَّهُ إنَّما المُرادُ: "آيَةٌ لِلنّاسِ"، فَوَصَفَهم بِالسُؤالِ إذْ كُلُّ واحِدٍ يَنْبَغِي أنْ يَسْألَ عن مَثَلِ هَذِهِ القَصَصِ، إذْ هي مَقَرُّ العِبَرِ والِاتِّعاظِ، ويَصِحُّ أيْضًا أنْ يَصِفَ الناسَ بِالسُؤالِ مِن حَيْثُ كانَ سَبَبُ نُزُولِ السُورَةِ سُؤالَ سائِلٍ كَما رُوِيَ. وقَوْلُهُمْ: "وَأخُوهُ" يُرِيدُونَ بِهِ "بِنْيامِينَ"، وهو أصْغَرُ مِن يُوسُفَ، ويُقالُ لَهُ: "يامِينَ"، وقِيلَ: كانَ شَقِيقَ يُوسُفَ وكانَتْ أُمُّهُما ماتَتْ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُما شَقِيقانِ تَخْصِيصُ الأُخُوَّةِ لَهُما بِـ "أخُوهُ" وهي دَلالَةٌ غَيْرُ قاطِعَةٍ، وكانَ حُبُّ يَعْقُوبَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ وبِنْيامِينَ لِصِغَرِهِما ومَوْتِ أُمِّهِما، وهَذا مِن "حُبُّ الصَغِيرِ هي فِطْرَةُ البَشَرِ"، وقَدْ قِيلَ لِابْنَةِ الحَسَنِ: أيُّ بَنِيكِ أحَبُّ إلَيْكِ؟ قالَتِ: الصَغِيرُ حَتّى يَكْبُرَ، والغائِبُ حَتّى يَقْدُمَ، والمَرِيضُ حَتّى يُفِيقَ. وقَوْلُهُمْ: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أيْ: نَحْنُ جَماعَةٌ تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وتَحْمِي وتُخَذِّلُ، أيْ: لَنا كانَتْ تَنْبَغِي المَحَبَّةُ والمُراعاةُ. والعُصْبَةُ في اللُغَةِ: الجَماعَةُ، قِيلَ: مِن عَشَرَةٍ إلى خَمْسَةَ عَشَرَ، وقِيلَ: مِن عَشَرَةٍ إلى أرْبَعِينَ، وقالَ الزَجّاجُ: العَشَرَةُ ونَحْوُهُمْ، وفي الزَهْراوِيِّ: الثَلاثَةُ: نَفَرٌ، فَإذا زادُوا فَهم رَهْطٌ إلى التِسْعَةِ، فَإذا زادُوا فَهم عُصْبَةٌ، ولا يُقالُ لِأقَلِّ مِن عَشَرَةٍ: عُصْبَةٌ. وقَوْلُهُمْ: ﴿لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: لَفي اخْتِلافٍ وخَطَأٍ في مَحَبَّةِ يُوسُفَ وأخِيهِ، وهَذا هو مَعْنى الضَلالِ، وإنَّما يَصْغُرُ قَدْرُهُ أو يَعْظُمُ بِحَسْبِ الشَيْءِ الَّذِي فِيهِ يَقَعُ الِائْتِلافُ. و"مُبِينٍ" مَعْناهُ: يَظْهَرُ لِلْمُتَأمِّلِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، (p-٤٥)وَحَمْزَةُ " مُبِين اقْتُلُوا " بِكَسْرِ التَنْوِينِ في الوَصْلِ لِالتِقاءِ ساكِنِ التَنْوِينِ والقافِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، والكِسائِيُّ: "مُبِينِنُ اقْتُلُوا" بِكَسْرِ النُونِ وضَمِّ التَنْوِينِ إتْباعًا لِضَمَّةِ التاءِ ومُراعاةً لَها. وقَوْلُهُ: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ الآيَةُ. كانَتْ هَذِهِ مَقالَةُ بَعْضِهِمْ: ﴿أوِ اطْرَحُوهُ﴾ مَعْناهُ: أبْعِدُوهُ، ومِنهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الوَرْدِ: ؎ ومَن يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِرًا ∗∗∗ يُغَرَّرْ ويَطْرَحْ نَفْسَهُ كُلَّ مَطْرَحِ والنَوى الطَرُوحُ: البَعِيدَةُ، و"أرْضًا" مَفْعُولٌ ثانٍ بِإسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، لِأنَّ "طَرَحَ" لا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ إلّا كَذَلِكَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو نَصْبٌ عَلى الظَرْفِ، وذَلِكَ خَطَأٌ لِأنَّ الظَرْفَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُبْهَمًا، وهَذِهِ هُنا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ هي أرْضٌ مُقَيَّدَةٍ بِأنَّها بَعِيدَةٌ أو قاصِيَةٌ ونَحْوُ ذَلِكَ، فَزالَ بِذَلِكَ إبْهامُها، ومَعْلُومٌ أنْ يُوسُفَ لَمْ يَخْلُ مِنَ الكَوْنِ في أرْضٍ فَبَيَّنَ أنَّها أرْضٌ بَعِيدَةٌ غَيْرُ الَّتِي هو فِيها قَرِيبٌ مِن أبِيهِ. وقَوْلُهُ: ﴿يَخْلُ لَكم وجْهُ أبِيكُمْ﴾ اسْتِعارَةٌ، أيْ: إذا فَقَدَ يُوسُفَ رَجَعَتْ مَحَبَّتُهُ إلَيْكُمْ، ونَحْوُ هَذا قَوْلُ العَرَبِيِّ حِينَ أحَبَّتْهُ أُمُّهُ لَمّا قُتِلَ إخْوَتُهُ وكانَتْ قَبْلُ لا تُحِبُّهُ: "الثُكْلُ أرْأمَها"، أيْ عَطْفُها عَلَيْهِ، والضَمِيرُ في "بَعْدِهِ" عائِدٌ عَلى " يُوسُفَ " أو (p-٤٦)"قَتْلِهِ" أو "طَرْحِهِ"، و"صالِحِينَ"، قالَ السُدِّيُّ، ومُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: إنَّهم أرادُوا صَلاحَ الحالِ عِنْدَ أبِيهِمْ، وهَذا يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَصْدُهم في تِلْكَ الحالِ، ولَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ أنْبِياءَ، وقالَ الجُمْهُورُ: "صالِحِينَ" مَعْناهُ بِالتَوْبَةِ، وهَذا هو الأظْهَرُ مِنَ اللَفْظِ، وحالُهم أيْضًا تُعْطِيهِ، لِأنَّهم مُؤْمِنُونَ بَثُّوا عَلى عَظِيمَةٍ وعَلَّلُوا أنْفُسَهم بِالتَوْبَةِ، والقائِلُ مِنهُمْ، قِيلَ: هو رُوبِيلُ -أسَنُّهُمْ-، قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ إسْحاقَ. وقِيلَ: يَهُوذا أحْلَمُهُمْ-، وقِيلَ: شَمْعُونُ أُشْجَعُهُمْ- قالَهُ مُجاهِدٌ، وهَذا عَطْفٌ مِنهُ عَلى أخِيهِ لا مَحالَةَ لِما أرادَ اللهُ مِن إنْفاذِ قَضائِهِ، و "الغَيابَةُ": ما غابَ عنكَ مِنَ الأماكِنِ أو غَيَّبَ عنكَ شَيْئًا آخَرَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "غَيابَةِ الجُبِّ"، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "غَياباتِ الجُبِّ"، وقَرَأ الأعْرَجُ: "غَيّاباتِ الجُبِّ" بِشَدِّ الياءِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: "هُوَ اسْمٌ جاءَ عَلى (فَعّالَةِ)، كانَ أبُو عَلِيٍّ يُلْحِقُهُ بِما ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الفَيّادِ ونَحْوِهُ، ووَجَدْتُ أنا مِن ذَلِكَ: التَيّارُ لِلْمَوْجِ، والفَخّارُ لِلْخَزَفِ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي شَبَهِ "غَيّابَةٍ" بِهَذِهِ الأمْثِلَةِ نَظَرٌ لِأنَّ "غَيّابَةً" جارِيَةٌ عَلى فِعْلٍ. وقَرَأ الحَسَنُ: "فِي غَيْبَةِ الجُبِّ" عَلى وزْنِ (فَعْلَةِ)، وكَذَلِكَ خُطَّتْ في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ الشاعِرِ: وهو المُنَخَّلُ: ؎ فَإنْ أنا يَوْمًا غَيَّبَتْنِي غَيابَتِي ∗∗∗ ∗∗∗ فَسِيرُوا بِسَيْرِي في العَشِيرَةِ والأهْلِ و"الجُبُّ": البِئْرُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ لِأنَّها جُبَّتْ مِنَ الأرْضِ فَقَطْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ:"يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ عَلى لَفْظِ "بَعْضُ"، وقَرَأ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وأبُو رَجاءَ: "تَلْتَقِطْهُ" بِالتاءِ، وهَذا مِن حَيْثُ أُضِيفَ "البَعْضُ" إلى "السَيّارَةِ" فاسْتَفادَ مِنها تَأْنِيثَ العَلاقَةِ، ومِن هَذا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ أرى مَرَّ السِنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ∗∗∗ ∗∗∗ كَما أخَذَ السِرارُ مِنَ الهِلالِ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ إذا ماتَ مِنهم سَيِّدٌ قامَ سَيِّدٌ ∗∗∗ ∗∗∗ فَذَلَّتْ لَهُ أهْلُ القُرى والكَنائِسُ وقَوْلُ كَعْبٍ: ................................... ؎ ذَلَّتْ لِوَقْعَتِها جَمِيعُ نِزارِ حِينَ أرادَ بـِ "نِزارِ" القَبِيلَةَ، وأمْثِلَةُ هَذا كَثِيرٌ. ورُوِيَ أنَّ جَماعَةً مِنَ الأعْرابِ التَقَطَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ. و"السَيّارَةُ" جَمْعُ سَيّارٍ، وهو بِناءٌ لِلْمُبالَغَةِ. وقِيلَ في هَذا الجُبِّ: إنَّهُ بِئْرُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وقِيلَ: غَيْرُهُ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ حَيْثُ (p-٤٨)طَرَحُوهُ ماءٌ، ولَكِنْ أخْرَجَهُ اللهُ فِيهِ حَتّى قَصَدَهُ الناسُ لِلِاسْتِقاءِ، وقِيلَ: بَلْ كانَ فِيهِ ماءٌ كَثِيرٌ يُغْرِقُ يُوسُفَ فَنَشَزَ حَجَرٌ مِن أسْفَلِ الجُبِّ حَتّى ثَبَتَ عَلَيْهِ يُوسُفُ، ورُوِيَ أنَّهم رَمَوْهُ بِحَبْلٍ في الجُبِّ فَتَماسَكَ بِيَدَيْهِ حَتّى رَبَطُوا يَدَيْهِ ونَزَعُوا قَمِيصَهُ ورَمَوْهُ حِينَئِذٍ، وهَمُّوا بِرَضْخِهِ بِالحِجارَةِ فَمَنَعَهم أخُوهُمُ المُشِيرُ بِطَرْحِهِ مِن ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب