الباحث القرآني

﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أرْضًا﴾ الظّاهِرُ أنَّ هَذا مِن جُمْلَةِ ما حُكِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إذْ قالُوا﴾ وقَدْ قالَهُ بَعْضٌ مِنهم مُخاطِبًا لِلْباقِينَ وكانُوا راضِينَ بِذَلِكَ إلّا مَن قالَ: ﴿لا تَقْتُلُوا﴾ إلَخْ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ قالَهُ كُلٌّ مِنهم مُخاطِبًا لِلْبَقِيَّةِ، والِاسْتِثْناءُ هو الِاسْتِثْناءُ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ القائِلَ رَجُلٌ غَيْرُهم شاوَرُوهُ في ذَلِكَ وهو خِلافُ الظّاهِرِ ولا ثَبْتَ لَهُ، والظّاهِرُ أنَّ القائِلَ خَيَّرَهم بَيْنَ الأمْرَيْنِ القَتْلِ والطَّرْحِ. وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ قالَ بَعْضٌ: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ وبَعْضٌ ﴿اطْرَحُوهُ﴾ والطَّرْحُ رَمْيُ الشَّيْءِ وإلْقاؤُهُ، ويُقالُ: طَرَحْتُ الشَّيْءَ أبْعَدْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الوَرْدِ: ؎ومَن يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقَتِّرًا مِنَ المالِ يَطْرَحُ نَفْسَهُ كُلَّ مَطْرَحٍ ونُصِبَ (أرْضًا) عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الحَوْفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ أيْ ألْقُوهُ في أرْضٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الأرْضِ الَّتِي هو فِيها، وقِيلَ: نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ –لِاطْرَحُوهُ- لِتَضْمِينِهِ مَعْنى أنْزِلُوهُ فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبارَكًا)،﴾ وقِيلَ: مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، ورَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ بِأنَّ ما يَنْتَصِبُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ لا يَكُونُ إلّا مُبْهَمًا وحَيْثُ كانَ المُرادُ أرْضًا بَعِيدَةً عَنْ أرْضِهِ لَمْ يَكُنْ هُناكَ إبْهامٌ، ودُفِعَ بِما لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، وحاصِلُ المَعْنى اقْتُلُوهُ أوْ غَرِّبُوهُ فَإنَّ التَّغْرِيبَ كالقَتْلِ في حُصُولِ المَقْصُودِ مَعَ السَّلامَةِ مِن إثْمِهِ، ولَعَمْرِي لَقَدْ ذَكَرُوا أمْرَيْنِ مُرَّيْنِ فَإنَّ الغُرْبَةَ كُرْبَةٌ أيَّةُ كُرْبَةٍ؛ ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ مَن قالَ: ؎حَسَّنُوا القَوْلَ وقالُوا غُرْبَةٌ ∗∗∗ إنَّما الغُرْبَةُ لِلْأحْرارِ ذَبْحٌ ﴿يَخْلُ لَكم وجْهُ أبِيكُمْ﴾ بِالجَزْمِ جَوابُ الأمْرِ، والوَجْهُ الجارِحَةُ المَعْرُوفَةُ، وفي الكَلامِ كِنايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ عَنْ خُلُوصِ المَحَبَّةِ، ومِن هُنا قِيلَ: أيْ يُقْبِلُ عَلَيْكم إقْبالَةً واحِدَةً لا يَلْتَفِتُ عَنْكم إلى غَيْرِكُمْ، والمُرادُ سَلامَةُ مَحَبَّتِهِ لَهم مِمَّنْ يُشارِكُهم فِيها ويُنازِعُهم إيّاها، وقَدْ فُسِّرَ الوَجْهُ بِالذّاتِ والكِنايَةِ بِحالِها خَلا أنَّ الِانْتِقالَ إلى المَقْصُودِ بِمَرْتَبَتَيْنِ عَلى الأوَّلِ وبِمَرْتَبَةٍ عَلى هَذا، وقِيلَ: الوَجْهُ بِمَعْنى الذّاتِ، وفي الكَلامِ كِنايَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ والتَّقَيُّدِ بِنَظْمِ أحْوالِهِمْ وتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ لِأنَّ خُلُوَّهُ لَهم يَدُلُّ عَلى فَراغِهِ عَنْ شَغْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَشْتَغِلُ بِهِمْ ويُنَظِّمُ أُمُورَهُمْ، ولَعَلَّ الوَجْهَ الأوْجَهَ هو الأوَّلُ ﴿وتَكُونُوا﴾ بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى جَوابِ الأمْرِ، وبِالنَّصْبِ بَعْدَ الواوِ بِإضْمارِ أنَّ أيْ يَجْتَمِعُ لَكم خُلُوُّ وجْهِهِ والكَوْنُ ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ بَعْدِ يُوسُفَ عَلى مَعْنى بَعْدِ الفَراغِ مِن أمْرِهِ، أوْ مِن بَعْدِ قَتْلِهِ أوْ طَرْحِهِ، فالضَّمِيرُ إمّا لِيُوسُفَ أوْ لِأحَدِ المَصْدَرَيْنِ المَفْهُومَيْنِ مِنَ الفِعْلَيْنِ. ﴿قَوْمًا صالِحِينَ﴾ بِالتَّوْبَةِ والتَّنَصُّلِ إلى اللَّهِ تَعالى عَمّا جِئْتُمْ بِهِ مِنَ الذَّنْبِ -كَما رُوِيَ عَنِ الكَلْبِيِّ- وإلَيْهِ ذَهَبَ الجُمْهُورُ، فالمُرادُ بِالصَّلاحِ الصَّلاحُ الدِّينِيُّ بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى، ويَحْتَمِلُ أنَّ المُرادَ ذَلِكَ لَكِنْ بَيْنَهم وبَيْنَ أبِيهِمْ بِالعُذْرِ، وهو وإنْ كانَ مُخالِفًا لِلدِّينِ لِكَوْنِهِ كَذِبًا لَكِنَّهُ مُوافِقٌ لَهُ مِن جِهَةِ أنَّهم يَرْجُونَ عَفْوَ أبِيهِمْ وصَفْحَهُ (p-192)بِهِ لِيَخْلُصُوا مِنَ العُقُوقِ عَلى ما قِيلَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ الصَّلاحُ الدُّنْيَوِيُّ أيْ صالِحِينَ في أمْرِ دُنْياكم فَإنَّهُ يَنْتَظِمُ لَكم بَعْدَهُ بِخُلُوِّ وجْهِ أبِيكُمْ، وإيثارُ الخِطابِ في (لَكُمْ) وما بَعْدَهُ لِلْمُبالَغَةِ في حَمْلِهِمْ عَلى القَبُولِ فَإنَّ اعْتِناءَ المَرْءِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ واهْتِمامِهِ بِتَحْصِيلِ مَنافِعِهِ أتَمُّ وأكْمَلُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب