الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ارْجِعُوا إلى أبِيكم فَقُولُوا يا أبانا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إلا بِما عَلِمْنا وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ ﴿واسْألِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها والعِيرَ الَّتِي أقْبَلْنا فِيها وإنّا لَصادِقُونَ﴾ ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسى اللهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ الأمْرُ بِالرُجُوعِ قِيلَ: هو مِن قَوْلِ كَبِيرِهِمْ، وقِيلَ: بَلْ هو مِن قَوْلِ يُوسُفَ لَهُمْ، والأوَّلُ أظْهَرُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "سَرَقَ" عَلى تَحْقِيقِ السَرِقَةِ عَلى "يامِينَ" بِحَسْبَ ظاهِرِ الأمْرِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو رَزِينٍ: "سُرِّقَ" بِضَمِّ السِينِ وكَسْرِ الراءِ وتَشْدِيدِها، وكَأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ لَهم تَحَرٍّ ولَمْ يَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ، وإنَّما أرادُوا: جُعِلَ سارِقًا بِما ظَهَرَ مِنَ الحالِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ الكِسائِيِّ، وقَرَأ الضَحّاكُ: "إنَّ ابْنَكَ سارِقٌ" بِالألِفِ وتَنْوِينِ القافِ، ثُمَّ تَحَرَّوْا بَعْدُ -عَلى القِراءَتَيْنِ- في قَوْلِهِمْ: ﴿وَما شَهِدْنا إلا بِما عَلِمْنا﴾، أيْ: وقَوْلُنا لَكَ: ﴿إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ إنَّما هي شَهادَةٌ عِنْدَكَ بِما عَلِمْناهُ مِن ظاهِرِ ما جَرى، والعِلْمُ في الغَيْبِ إلى اللهِ، لَيْسَ في ذَلِكَ حِفْظُنا، هَذا قَوْلُ ابْنِ إسْحاقَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلُهُمْ: ﴿وَما شَهِدْنا إلا بِما عَلِمْنا﴾ أرادُوا بِهِ: وما شَهِدْنا عِنْدَ يُوسُفَ بِأنَّ السارِقَ يُسْتَرَقُّ في شَرْعِكَ إلّا بِما عَلِمْنا مِن ذَلِكَ، وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أنَّ السَرِقَةَ تُخْرَجُ مِن رَحْلِ أحَدِنا، بَلْ حَسِبْنا أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ البَتَّةَ، فَشَهِدْنا عِنْدَهُ -حِينَ سَألْنا- بِعِلْمِنا. وقَرَأ الحَسَنُ: "وَما شَهِدْنا عَلَيْهِ إلّا بِما عَلِمْنا" بِزِيادَةِ "عَلَيْهِ". (p-١٣٢)وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿وَما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ أيْ حِينَ واثَقْناكَ إنَّما قَصَدْنا ألّا يَقَعَ مِنّا نَحْنُ في جِهَتِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، ولَمْ نَعْلَمِ الغَيْبَ في أنَّهُ سَيَأْتِي هو بِما يُوجِبُ رِقَّهُ، ورُوِيَ أنَّ مَعْنى "لِلْغَيْبِ" أيْ: لِلَّيْلِ، والغَيْبُ: اللَيْلُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، فَكَأنَّهم قالُوا: وما شَهِدْنا عِنْدَكَ إلّا بِما عَلِمْناهُ مِن ظاهِرِ حالِهِ، وما كُنّا بِاللَيْلِ حافِظِينَ لِما يَقَعُ مِن سَرِقَتِهِ هو أوِ التَدْلِيسِ عَلَيْهِ. ثُمَّ اسْتَشْهَدُوا بِأهْلِ القَرْيَةِ الَّتِي كانُوا فِيها، وهي مِصْرُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ، وهَذا مَجازٌ، والمُرادُ أهْلُها، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "والعِيرَ"، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ وهو الصَحِيحُ، وحَكى أبُو المَعالِي في التَلْخِيصِ عن بَعْضِ المُتَكَلِّمِينَ أنَّهُ قالَ: هَذا مِنَ الحَذْفِ ولَيْسَ مِنَ المَجازِ، وإنَّما المَجازُ لَفْظَةٌ تُسْتَعارُ لِغَيْرِ ما هي لَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وحَذْفُ المُضافِ هو عَيْنُ المَجازِ وعَظْمُهُ، هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهَ وغَيْرِهِ مِن أهْلِ النَظَرِ، ولَيْسَ كُلُّ حَذْفٍ مَجازًا، ورَجَّحَ أبُو المَعالِي في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ مَجازٌ، وحَكى أنَّهُ قَوْلُ الجُمْهُورِ أو نَحْوَ هَذا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أحالُوهُ عَلى سُؤالِ الجَماداتِ والبَهائِمِ حَقِيقَةً، ومِن حَيْثُ هو نَبِيٌّ فَلا يَبْعُدُ أنْ تُخْبِرَهُ بِالحَقِيقَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا وإنْ جُوِّزَ فَبَعِيدٌ، والأوَّلُ أقْوى. وهُنا كَلامٌ مُقَدَّرٌ يَقْتَضِيهِ الظاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: فَلَمّا قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ لِأبِيهِمْ قالَ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾، وهَذا عَلى أنْ يَتَّصِلَ كَلامُ كَبِيرِهِمْ إلى هُنا، ومَن يَرى أنَّ كَلامَ كَبِيرِهِمْ تَمَّ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ فَإنَّهُ يَجْعَلُ الكَلامَ هُنالِكَ تَقْدِيرُهُ: فَلَمّا رَجَعُوا قالُوا: ﴿إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ الآيَةُ، والظاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ إنَّما هو ظَنٌّ سَيِّئٌ بِهِمْ، كَما كانَ في قِصَّةِ يُوسُفَ قَبْلُ، فاتَّفَقَ أنَّ صِدْقَ ظَنِّهِ هُناكَ ولَمْ يَتَحَقَّقْ هُنا. و"سَوَّلَتْ" مَعْناهُ: زَيَّنَتْ وخَيَّلَتْ وجَعَلَتْهُ سُولًا، والسُولُ: ما يَتَمَنّاهُ الإنْسانُ ويَحْرِصُ عَلَيْهِ. (p-١٣٣)وَقَوْلُهُ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ إمّا ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ: أمْثَلُ أو أولى، وحَسُنَ الِابْتِداءُ بِالنَكِرَةِ مِن حَيْثُ وُصِفَتْ. وإمّا خَبَرُ ابْتِداءٍ تَقْدِيرُهُ: فَأمْرِي، أو شَأْنِي، أو صَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، وهَذا ألْيَقُ بِالنَكِرَةِ، أنْ تَكُونَ خَبَرًا، ومَعْنى وصْفِهِ بِالجَمالِ أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَكْوًى إلى بَشَرٍ ولا ضَجَرٌ بِقَضاءِ اللهِ تَعالى. ثُمَّ تَرَجّى عَلَيْهِ السَلامُ مِنَ اللهِ أنْ يَجْبُرَهم عَلَيْهِ، وهُمْ: يُوسُفُ ويامِينُ ورُوبِيلُ الَّذِي لَمْ يَبْرَحِ الأرْضَ، ورَجاؤُهُ هَذا مِن جِهاتٍ: إحْداها: الرُؤْيا الَّتِي رَأى يُوسُفُ، فَكانَ يَعْقُوبُ يَنْتَظِرُها. والثانِيَةُ: حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللهِ تَعالى في كُلِّ حالٍ. والثالِثَةُ: ما أخْبَرُوهُ بِهِ عن مَلِكِ مِصْرَ أنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِرُؤْيَةِ ابْنِهِ،فَوَقَعَ لَهُ -مِن هُنا- تَحَسُّسٌ ورَجاءٌ، والوَصْفُ بِالعِلْمِ والإحْكامِ لائِقٌ بِما يَرْجُوهُ مِن لِقاءِ بَنِيهِ، وفِيها تَسْلِيمٌ لِحِكْمَةِ اللهِ تَعالى في جَمِيعِ ما جَرى عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب