الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ارْجِعُوا إلى أبِيكم فَقُولُوا يا أبانا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إلا بِما عَلِمْنا﴾ إنَّما أخْبَرُوا عَنْ ظاهِرِ الحالِ لا عَنْ باطِنِها؛ إذْ لَمْ يَكُونُوا عالِمِينَ بِباطِنِها ولِذَلِكَ قالُوا: ﴿وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ فَكانَ في الظّاهِرِ لَمّا وُجِدَ الصّاعُ في رَحْلِهِ أنَّهُ هو الآخِذُ لَهُ فَقالُوا: ﴿وما شَهِدْنا إلا بِما عَلِمْنا﴾ يَعْنِي مِنَ الأمْرِ الظّاهِرِ لا مِنَ الحَقِيقَةِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى جَوازِ إطْلاقِ اسْمِ العِلْمِ مِن طَرِيقِ الظّاهِرِ (p-٣٩٢)وإنْ لَمْ يُعْلَمْ حَقِيقَةً، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠] ومَعْلُومٌ أنّا لا نُحِيطُ بِضَمائِرِهِنَّ عِلْمًا وإنَّما هو عَلى ما يَظْهَرُ مِن إيمانِهِنَّ. وقَدْ قِيلَ في قَوْلِهِ: ﴿وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ مَعْنَيانِ:
أحَدُهُما: ما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ: " ما كُنّا نَشْعُرُ أنَّ ابْنَكَ سَيَسْرِقُ "، والآخَرُ: ما قَدَّمْنا، وهو أنّا لا نَدْرِي باطِنَ الأمْرِ في السَّرِقَةِ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ جازَ لَهُ اسْتِخْراجُ الصّاعِ مِن رَحْلِ أخِيهِ عَلى حالٍ يُوجِبُ تُهْمَتَهُ عِنْدَ النّاسِ مَعَ بَراءَةِ ساحَتِهِ وعَمَّ أبِيهِ وإخْوَتَهُ بِهِ ؟ قِيلَ لَهُ: لِأنَّهُ كانَ في ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنَ الصَّلاحِ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ عَنْ مُواطَأةٍ مِن أخِيهِ لَهُ عَلى ذَلِكَ وتَلَطُّفٍ في إعْلامِ أبِيهِ بِسَلامَتِهِما، ولَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ أنْ يَتَّهِمَهُ بِالسَّرِقَةِ مَعَ إمْكانِ أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَعَلَهُ في رَحْلِهِ، ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ بِذَلِكَ تَعْرِيضًا لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْبَلْوى بِفَقْدِهِ أيْضًا لِيَصْبِرَ فَيَتَضاعَفَ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ الثَّوابُ الجَزِيلُ بِصَبْرِهِ عَلى فَقْدِهِما.
وفِيما حَكى اللَّهُ تَعالى مِن أمْرِ يُوسُفَ وما عامَلَ بِهِ إخْوَتَهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ﴾ [يوسف: ٧٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٧٦] دَلالَةٌ عَلى إجازَةِ الحِيلَةِ في التَّوَصُّلِ إلى المُباحِ واسْتِخْراجِ الحُقُوقِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى رَضِيَ ذَلِكَ مِن فِعْلِهِ ولَمْ يُنْكِرْهُ، وقالَ في آخِرِ القِصَّةِ: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٧٦] ومِن نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤] وكانَ حَلَفَ أنْ يَضْرِبَها عَدَدًا، فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأخْذِ الضِّغْثِ وضَرْبِها بِهِ لِيَبَرَّ في يَمِينِهِ مِن غَيْرِ إيصالِ ألَمٍ كَبِيرٍ إلَيْها. ومِن نَحْوِهِ النَّهْيُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالخِطْبَةِ وإباحَةُ التَّوَصُّلِ إلى إعْلامِها رَغْبَتَهُ بِالتَّعْرِيضِ. ومِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلى خَيْبَرَ فَأتاهُ بِتَمْرٍ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذا ؟ فَقالَ: لا واَللَّهِ، إنَّما نَأْخُذُ الصّاعَ بِالصّاعَيْنِ والصّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ، قالَ: فَلا تَفْعَلْ بِعِ الجَمِيعَ بِالدَّراهِمِ ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّراهِمِ تَمْرًا»، كَذا رَوى ذَلِكَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ عَنْ عَبْدِ المَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ وأبِي هُرَيْرَةَ «فَحَظَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ التَّفاضُلَ في التَّمْرِ وعَلَّمَهُ كَيْفَ يَحْتالُ في التَّوَصُّلِ إلى أخْذِ هَذا التَّمْرِ». ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ لِهِنْدٍ: «خُذِي مِن مالِ أبِي سُفْيانَ ما يَكْفِيكَ ووَلَدَكَ بِالمَعْرُوفِ» . فَأمَرَها بِالتَّوَصُّلِ إلى أخْذِ حَقِّها وحَقِّ ولَدِها. ورُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ إذا أرادَ سَفَرًا ورّى بِغَيْرِهِ» .
ورَوى يُونُسُ ومَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: «أرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلى أبِي سُفْيانَ بْنِ حَرْبٍ أنِ ائْتُونا فَإنّا سَنُغِيرُ عَلى بَيْضَةِ المُسْلِمِينَ مِن ورائِهِمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وكانَ مُوادِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ (p-٣٩٣)وكانَ عِنْدَ عُيَيْنَةَ حِينَ أرْسَلَتْ بِذَلِكَ بَنُو قُرَيْظَةَ إلى الأحْزابِ أبِي سُفْيانَ وأصْحابِهِ، فَأقْبَلَ نُعَيْمُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخْبَرَهُ خَبَرَها وما أرْسَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ إلى الأحْزابِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَلَّنا أُمِرْنا بِذَلِكَ فَقامَ نُعَيْمٌ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ مِن عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: وكانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لا يَكْتُمُ الحَدِيثَ، فَلَمّا ولّى مِن عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذاهِبًا إلى غَطَفانَ قالَ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما هَذا الَّذِي قُلْتُ إنْ كانَ أمْرًا مِن أمْرِ اللَّهِ فَأمْضِهِ وإنْ كانَ هَذا رَأْيًا رَأيْتَهُ مِن قِبَلِ نَفْسِكَ فَإنَّ شَأْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ أهْوَنُ مِن أنْ تَقُولَ شَيْئًا يُؤْثَرُ عَنْكَ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَلْ هَذا رَأْيٌ إنَّ الحَرْبَ خُدْعَةٌ» .
ورَوى أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ عَنْ عُمَرَ قالَ: " إنَّ في مَعارِيضِ الكَلامِ لَمَندُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ " .
ورَوى الحَسَنُ بْنُ عُمارَةَ عَنِ الحَكَمِ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " ما يَسُرُّنِي بِمَعارِيضِ الكَلامِ حُمُرُ النَّعَمِ " . وقالَ إبْراهِيمُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ لِلْمَلِكِ حِينَ سَألَهُ عَنْ سارَةَ فَقالَ: مَن هي مِنكَ ؟ قالَ: هي أُخْتِي لِئَلّا يَأْخُذَها، وإنَّما أرادَ أُخْتِي في الدِّينِ وقالَ لِلْكُفّارِ: إنِّي سَقِيمٌ، حِينَ تَخَلَّفَ لِيُكَسِّرَ آلِهَتَهم، وكانَ مَعْناهُ: إنِّي سَأسْقَمُ يَعْنِي أمُوتُ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ﴾ [الزمر: ٣٠] فَعارَضَ بِكَلامِهِ عَمّا سَألُوهُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ عَلى وجْهٍ لا يَلْحَقُ فِيهِ الكَذِبُ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيها بِالِاحْتِيالِ في التَّوَصُّلِ إلى المُباحِ، وقَدْ كانَ لَوْلا وجْهُ الحِيلَةِ فِيهِ مَحْظُورًا وقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الوَطْءَ بِالزِّنا وأمَرَنا بِالتَّوَصُّلِ إلَيْهِ بِعَقْدِ النِّكاحِ وحَظَرَ عَلَيْنا أكْلَ المالِ بِالباطِلِ وأباحَهُ بِالشِّرى والهِبَةِ ونَحْوِها، فَمَن أنْكَرَ التَّوَصُّلَ إلى اسْتِباحَةِ ما كانَ مَحْظُورًا مِنَ الجِهَةِ الَّتِي أباحَتْهُ الشَّرِيعَةُ فَإنَّما يَرُدُّ أُصُولَ الدِّينِ وما قَدْ ثَبَتَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ.
فَإنْ قِيلَ: حَظَرَ اللَّهُ تَعالى عَلى اليَهُودِ صَيْدَ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ فَحَبَسُوا السَّمَكَ يَوْمَ السَّبْتِ وأخَذُوهُ يَوْمَ الأحَدِ فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُمُ اعْتَدَوْا في السَّبْتِ، وهَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ حَبْسُها في السَّبْتِ قَدْ كانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ حَبْسُهم لَها في السَّبْتِ مُحَرَّمًا لَما قالَ: ﴿اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥]
{"ayah":"ٱرۡجِعُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَبِیكُمۡ فَقُولُوا۟ یَـٰۤأَبَانَاۤ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَاۤ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَیۡبِ حَـٰفِظِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق