الباحث القرآني

﴿فَلَمّا اسْتَيْأسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهم ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ أباكم قَدْ أخَذَ عَلَيْكم مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ومِن قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ حَتّى يَأْذَنَ لِي أبِي أوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وهو خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ ﴿ارْجِعُوا إلى أبِيكم فَقُولُوا يا أبانا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إلّا بِما عَلِمْنا وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ ﴿واسْألِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها والعِيرَ الَّتِي أقْبَلْنا فِيها وإنّا لَصادِقُونَ﴾ ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ (p-٣٣٥)اسْتَفْعَلَ هُنا بِمَعْنى المُجَرَّدِ، يَئِسَ واسْتَيْأسَ بِمَعْنًى واحِدٍ، نَحْوَ: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ. وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ زِيادَةَ السِّينِ والتّاءِ في المُبالَغَةِ، قالَ نَحْوَ ما مَرَّ في اسْتَعْصَمَ، انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (اسْتَيْأسُوا) اسْتَفْعَلُوا، مِن أيِسَ مَقْلُوبًا مَن يَئِسَ، ودَلِيلُ القَلْبِ كَوْنُ ياءِ أيِسَ لَمْ تَنْقَلِبْ ألِفًا لِتَحَرُّكِها وانْفِتاحِ ما قَبْلَها، ومَعْنى ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ انْفَرَدُوا مِن غَيْرِهِمْ يُناجِي بَعْضُهم بَعْضًا، والنَّجِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ، كالخَلِيطِ والعَشِيرِ، ومَعْنى المَصْدَرِ الَّذِي هو التَّناجِي كَما قِيلَ: النَّجْوى بِمَعْنى التَّناجِي، وهو لَفْظٌ يُوصَفُ بِهِ مَن لَهُ نَجْوًى واحِدًا كانَ أوْ جَماعَةً، مُؤَنَّثًا أوْ مُذَكَّرًا، فَهو كَعَدْلٍ، ويُجْمَعُ عَلى أنْجِيَةٍ، قالَ لَبِيَدٌ: ؎وشَهِدْتُ أنْجِيَةَ الأفاقَةِ عالِيًا كَعْبِي وأرْدافُ المُلُوكِ شُهُودُ وقالَ آخَرُ: ؎إنِّي إذا ما القَوْمُ كانُوا أنْجِيَهْ ويَقُولُ قَوْمٌ نَجِيٌّ وهم نَجْوى تَنْزِيلًا لِلْمَصْدَرِ مَنزِلَةَ الأوْصافِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هم نَجِيٌّ مِن بابِ هم صَدِيقٌ؛ لِأنَّهُ بِزِنَةِ المَصادِرِ مَحْصُوًّا لِلتَّناجِي، يَنْظُرُونَ ماذا يَقُولُونَ لِأبِيهِمْ في شَأْنِ أخِيهِمْ لِهَذا الَّذِي دَهَمَهم مِنَ الخَطْبِ فِيهِ، فاحْتاجُوا إلى التَّشاوُرِ، و(كَبِيرُهم) أيْ: رَأْيًا وتَدْبِيرًا وعِلْمًا، وهو شَمْعُونُ قالَهُ: مُجاهِدٌ، أوْ كَبِيرُهم في السِّنِّ وهو رُوبِيلُ قالَهُ: قَتادَةُ، وقِيلَ: في العَقْلِ والرَّأْيِ، وهو يَهُوذا، ذَكَّرَهُمُ المِيثاقَ في قَوْلِ يَعْقُوبَ: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلّا أنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦] و”ما“ زائِدَةٌ أيْ: (p-٣٣٦)ومِن قَبْلِ هَذا فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ، و(مِن قَبْلُ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (فَرَّطْتُمْ) وقَدْ جَوَّزُوا في إعْرابِهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنْ تَكُونَ ”ما“ مَصْدَرِيَّةً أيْ: ومِن قَبْلُ تَفْرِيطُكم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى أنَّ مَحَلَّ المَصْدَرِ الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرَهُ الظَّرْفُ، وهو ومِن قَبْلُ، ومَعْناهُ: ووَقَعَ مِن قَبْلُ تَفْرِيطُكم في يُوسُفَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (مِن قَبْلُ) مُتَعَلِّقًا بِـ (ما فَرَّطْتُمْ) وإنَّما تَكُونُ عَلى هَذا مَصْدَرِيَّةً، التَّقْدِيرُ: مِن قَبْلُ تَفْرِيطُكم في يُوسُفَ واقِعٌ ومُسْتَقِرٌّ، وبِهَذا القَدْرِ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: (مِن قَبْلُ) انْتَهى. وهَذا وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ راجِعٌ إلى مَعْنًى واحِدٍ وهو: إنَّ ما فَرَّطْتُمْ؛ يُقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ بِالِابْتِداءِ، و(مِن قَبْلُ) في مَوْضِعِ الخَبَرِ، وذَهْلًا عَنْ قاعِدَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وحَقَّ لَهُما أنْ يَذْهَلا وهو أنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ الَّتِي هي غاياتٌ إذا ثَبَتَتْ لا تَقَعُ أخْبارًا لِلْمُبْتَدَأِ جُرَّتْ أوْ لَمْ تُجَرَّ، تَقُولُ: يَوْمُ السَّبْتِ مُبارَكٌ والسَّفَرُ بَعْدَهُ، ولا يَجُوزُ والسَّفَرُ بَعْدُ وعُمَرُ وزَيْدٌ خَلْفَهُ، ولا يُقالُ: عُمَرُ وزَيْدٌ خَلْفُ، وعَلى ما ذَكَراهُ يَكُونُ ”تَفْرِيطُكم“ مُبْتَدَأٌ، و”مِن قَبْلُ“ خَبَرٌ وهو مَبْنِيٌّ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ وهَذا مُقَرَّرٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، ولِهَذا ذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ إلى أنَّ المَصْدَرَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، و(في يُوسُفَ) هو الخَبَرُ؛ أيْ: كائِنٌ أوْ مُسْتَقِرٌّ في يُوسُفَ، والظّاهِرُ أنَّ (في يُوسُفَ) مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: (فَرَّطْتُمْ) لا أنَّهُ في مَوْضِعِ خَبَرٍ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: أنْ تَكُونَ (ما) مَصْدَرِيَّةً، والمَصْدَرُ المَسْبُوكُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، والتَّقْدِيرُ: ألَمْ تَعْلَمُوا أخْذَ أبِيكم عَلَيْكم مَوْثِقًا مِن قَبْلُ، وتَفْرِيطُكم في يُوسُفَ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتَفْرِيطُكم مِن قَبْلُ في يُوسُفَ، وهَذا الَّذِي ذَهَبا إلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ فِيهِ الفَصْلَ بِالجارِّ والمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ الَّذِي هو عَلى حَرْفٍ واحِدٍ وبَيْنَ المَعْطُوفِ، فَصارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وبِسَيْفِ عَمْرًا، وقَدْ زَعَمَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وأمّا تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وتَفْرِيطُكم مِن قَبْلُ في يُوسُفَ، فَلا يَجُوزُ؛ لِأنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ المَصْدَرِ المُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ عَلَيْهِ، وهو لا يَجُوزُ، وأجازَ أيْضًا أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ أوِ النَّصْبُ عَلى الوَجْهَيْنِ، انْتَهى. يَعْنِي بِالرَّفْعِ أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الِابْتِداءِ، و(مِن قَبْلُ) الخَبَرُ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، ويَعْنِي بِالنَّصْبِ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِن قَوْلِهِ: (إنَّ أباكم قَدْ أخَذَ) وفِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ الَّذِي هو الواوُ، وبَيْنَ المَعْطُوفِ، وأحْسَنُ هَذِهِ الأوْجُهِ ما بَدَأْنا بِهِ مِن كَوْنِ ما زائِدَةً، وبَرِحَ التّامَّةُ تَكُونُ بِمَعْنى ذَهَبَ وبِمَعْنى ظَهَرَ، ومِنهُ بَرِحَ الخَفاءُ أيْ: ظَهَرَ، وذَهَبَ لا يَنْتَصِبُ الظَّرْفُ المَكانِيُّ المُخْتَصُّ بِها، إنَّما يَصِلُ إلَيْهِ بِوَساطَةِ ”في“ فاحْتِيجَ إلى اعْتِقادِ تَضْمِينِ بَرِحَ بِمَعْنى فارَقَ، فانْتَصَبَ الأرْضُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ناقِصَةً لِأنَّهُ لا يَنْعَقِدُ مِنِ اسْمِها، والأرْضُ المَنصُوبُ عَلى الظَّرْفِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ؛ لِأنَّهُ لا يَصِلُ إلّا بِحَرْفِ ”في“ . لَوْ قُلْتَ: زَيْدُ الأرْضِ لَمْ يَجُزْ، وعُنِيَ بِالأرْضِ أرْضُ مِصْرَ الَّتِي فِيها الواقِعَةُ، ثُمَّ غَيّا ذَلِكَ بِغايَتَيْنِ؛ إحْداهُما: خاصَّةٌ وهي قَوْلُهُ: ﴿حَتّى يَأْذَنَ لِي أبِي﴾ يَعْنِي في الِانْصِرافِ إلَيْهِ. والثّانِيَةُ: عامَّةٌ وهي قَوْلُهُ: ﴿أوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ لِأنَّ إذْنَ اللَّهِ لَهُ هو مِن حُكْمِ اللَّهِ لَهُ في مُفارَقَةِ أرْضِ مِصْرَ، وكَأنَّهُ لَمّا عَلَّقَ الأمْرَ بِالغايَةِ الخاصَّةِ رَجَعَ إلى نَفْسِهِ فَأتى بِغايَةٍ عامَّةٍ تَفْوِيضًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعالى، ورُجُوعًا إلى مَن لَهُ الحُكْمُ حَقِيقَةً، ومَقْصُودُهُ التَّضْيِيقُ عَلى نَفْسِهِ، كَأنَّهُ سَجَنَها في القُطْرِ الَّذِي أدّاهُ إلى سُخْطِ أبِيهِ إبْلاءً لِعُذْرِهِ، وحَكَمَ اللَّهُ تَعالى لَهُ بِجَمِيعِ أنْواعِ العُذْرِ كالمَوْتِ، وخَلاصِ أخِيهِ، أوِ انْتِصافِهِ مِن أخْذِ أخِيهِ. وقالَ أبُو صالِحٍ: أوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بِالسَّيْفِ أوْ (p-٣٣٧)غَيْرِ ذَلِكَ. والظّاهِرُ أنَّ ”يَحَكُمَ“ مَعْطُوفٌ عَلى (يَأْذَنَ) وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِإضْمارِ (أنْ) بَعْدَ (أوْ) في جَوابِ النَّفْيِ، وهو: ﴿فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ﴾ أيْ: إلّا أنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، كَقَوْلِكَ: لَألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِّي حَقِّي؛ أيْ: إلّا أنْ تَقْضِيَنِي، ومَعْناها ومَعْنى الغايَةِ مُتَقارِبانِ. رُوِيَ أنَّهم لَمّا وصَلُوا إلى يَعْقُوبَ أخْبَرُوهُ بِالقِصَّةِ فَبَكى وقالَ: يا بَنِيَّ ما تَذْهَبُونَ عَنِّي مَرَّةً إلّا نَقَصْتُمْ، ذَهَبْتُمْ فَنَقَصَتُمْ شَمْعُونَ حَيْثُ ارْتُهِنَ، ثُمَّ ذَهَبْتُمْ فَنَقَصْتُمْ بِنْيامِينَ ورُوبِيلَ، والظّاهِرُ أنَّ الأمْرَ بِالرُّجُوعِ هو مِن قَوْلِ كَبِيرِهِمْ، وقِيلَ: مِن قَوْلِ يُوسُفَ لَهم، وقَرَأ الجُمْهُورُ: (سَرَقَ) ثُلاثِيًّا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، إخْبارًا بِظاهِرِ الحالِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو رَزِينٍ والكِسائِيُّ في رِوايَةٍ: (سُرِّقَ) بِتَشْدِيدِ الرّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَمْ يَقْطَعُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ بَلْ ذَكَرُوا أنَّهُ نُسِبَ إلى السَّرِقَةِ، ويَكُونُ مَعْنى ﴿وما شَهِدْنا إلّا بِما عَلِمْنا﴾ مِنَ التَّسْرِيقِ، ﴿وما كُنّا لِلْغَيْبِ﴾ أيْ: لِلْأمْرِ الخَفِيِّ (حافِظِينَ) أسَرَقَ بِالصِّحَّةِ أمْ دُسَّ الصّاعُ في رَحْلِهِ ولَمْ يَشْعُرْ ؟ وقَرَأ الضَّحّاكُ: (سارِقٌ) اسْمُ فاعِلٍ. وعَلى قِراءَةِ (سُرِّقَ) و(سارِقٌ)، اخْتَلَفَ التَّأْوِيلُ في قَوْلِهِ: (إلّا بِما عَلِمْنا) . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِما عَلِمْنا مِن سَرِقَتِهِ وتَيَقَّنّا؛ لِأنَّ الصُّواعَ أُخْرِجَ مِن وِعائِهِ، ولا شَيْءَ أبْيَنُ مِن هَذا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ، وقَوْلُنا لَكَ إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ إنَّما هي شَهادَةٌ عِنْدَكَ بِما عَلِمْناهُ مِن ظاهِرِ ما جَرى، والعِلْمُ في الغَيْبِ إلى اللَّهِ تَعالى لَيْسَ ذَلِكَ في حِفْظِنا، هَذا قَوْلُ ابْنِ إسْحاقَ: وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أرادُوا وما شَهِدْنا بِهِ عِنْدَ يُوسُفَ أنَّ السّارِقَ يَسْتَرِقُّ في شَرْعِكَ، إلّا بِما عَلِمْنا مِن ذَلِكَ، وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أنَّ السَّرِقَةَ تَخْرُجُ مِن رَحْلِ أحَدِنا، بَلْ حَسِبْنا أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ البَتَّةَ، فَشَهِدْنا عِنْدَهُ حِينَ سَألَنا بِعِلْمِنا، ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: ﴿وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ أيْ: حِينَ واثَقْناكَ، إنَّما قَصَدْنا أنْ لا يَقَعَ مِنّا نَحْنُ في جِهَتِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، ولَمْ نَعْلَمِ الغَيْبَ في أنَّهُ سَيَأْتِي هو بِما يُوجِبُ رِقَّهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وما كُنّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ﴾ وما عَلِمْنا أنَّهُ يُسْتَرَقُّ حِينَ أعْطَيْناكَ المَوْثِقَ، أوْ رُبَّما عَلِمْنا أنَّكَ تُصابُ كَما أُصِبْتَ بِ يُوسُفَ، ومِن غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أنَّ المَعْنى قَوْلُهم: (لِلْغَيْبِ) لِلَّيْلِ، والغَيْبُ اللَّيْلُ بِلُغَةِ حِمْيَرٍ، وكَأنَّهم قالُوا: وما شَهِدْنا إلّا بِما عَلِمْنا مِن ظاهِرِ حالِهِ، وما كُنّا بِاللَّيْلِ حافِظِينَ لِما يَقَعُ مِن سَرِقَتِهِ هو، أوِ التَّدْلِيسِ عَلَيْهِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: رَجَعُوا إلى أبِيهِمْ وأُخْبِرَ بِالقِصَّةِ، وقَوْلُ مَن قالَ: ارْجِعُوا، ثُمَّ اسْتَشْهَدُوا بِأهْلِ القَرْيَةِ الَّتِي كانُوا فِيها وهي مِصْرُ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ أيْ: أرْسِلْ إلى القَرْيَةِ واسْألْ عَنْ كُنْهِ القِصَّةِ، والعِيرُ كانُوا قَوْمًا مِن كَنْعانَ مِن جِرانِ يَعْقُوبَ، وقِيلَ: مِن أهْلِ صَنْعاءَ، فالظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ عَلى إضْمارِ أهْلٍ كَأنَّهُ قِيلَ: وسَلْ أهْلَ القَرْيَةِ وأهْلَ العِيرِ، إلّا أنْ أُرِيدَ بِالعِيرِ القافِلَةُ، فَلا إضْمارَ في قَوْلِهِ: (والعِيرَ)، وأحالُوا في تَوْضِيحِ القِصَّةِ عَلى ناسٍ حاضِرِينَ الحالَ فَيَشْهَدُونَ بِما سَمِعُوا، وعَلى ناسٍ غُيَّبٍ يُرْسَلُ إلَيْهِمْ فَيَسْألُونَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أحالُوهُ عَلى سُؤالِ الجَماداتِ والبَهائِمِ حَقِيقَةً، ومِن حَيْثُ هو نَبِيٌّ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُخْبِرَهُ بِالحَقِيقَةِ، وحَذْفُ المُضافِ هو قَوْلُ الجُمْهُورِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا مَجازٌ. وحَكى أبُو المَعالِي عَنْ بَعْضِ المُتَكَلِّمِينَ أنَّهُ قالَ: هَذا مِنَ الحَذْفِ ولَيْسَ مِنَ المَجازِ، قالَ: وإنَّما المَجازُ لَفْظَةٌ اسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِ ما هي لَهُ، قالَ: وحَذْفُ المُضافِ هو عَيْنُ المَجازِ، وعَظَّمَ هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وغَيْرِهِ، وحَكى أنَّهُ قَوْلُ الجُمْهُورِ أوْ نَحْوُ هَذا، انْتَهى. وفِي المَحْصُولِ لِأبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الرّازِيِّ، وفي مُخْتَصَراتِهِ: أنَّ الإضْمارَ والمَجازَ مُتَبايِنانِ لَيْسَ أحَدُهُما قِسْمًا مِنَ الآخَرِ، و(بَلْ) لِلْإضْرابِ، فَيَقْتَضِي كَلامًا مَحْذُوفًا قَبْلَها حَتّى يَصِحَّ الإضْرابُ فِيها، وتَقْدِيرُهُ: لَيْسَ الأمْرُ حَقِيقَةً كَما أخْبَرْتُمْ بَلْ سَوَّلَتْ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ إنَّما هو ظَنُّ سُوءٍ بِهِمْ كَما كانَ في قِصَّةِ يُوسُفَ قَبْلُ، فاتَّفَقَ أنْ صَدَقَ ظَنَّهُ هُناكَ، ولَمْ يَتَحَقَّقْ هُنا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ أرَدْتُمُوهُ، وإلّا فَما أدْرى ذَلِكَ الرَّجُلَ أنَّ السّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ لَوْلا فَتْواكم وتَعْلِيمُكم، وتَقَدَّمَ شَرْحُ (سَوَّلَتْ) وإعْرابُ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾، ثُمَّ (p-٣٣٨)تَرَجّى أنَّ اللَّهَ يَجْمَعُهم عَلَيْهِ وهم: يُوسُفُ وبِنْيامِينُ، وكَبِيرُهم عَلى الخِلافِ الَّذِي فِيهِ، وتَرَجّى يَعْقُوبُ لِلرُّؤْيا الَّتِي رَآها يُوسُفُ، فَكانَ يَنْتَظِرُها ويُحْسِنُ ظَنَّهُ بِاللَّهِ في كُلِّ حالٍ، ولِما أُخْبِرَ بِهِ عَنْ مَلِكِ مِصْرَ أنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِرُؤْيَةِ ابْنِهِ، ووَصْفُهُ اللَّهُ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لائِقٌ بِما يُؤَخِّرُهُ تَعالى مِن لِقاءِ بَنِيهِ، وتَسْلِيمٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِيما جَرى عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب