الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَهارَ مُبْصِرًا إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللهُ ولَدًا سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ لَهُ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ إنْ عِنْدَكم مِن سُلْطانٍ بِهَذا أتَقُولُونَ عَلى اللهُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿قُلْ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ ﴿مَتاعٌ في الدُنْيا ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العَذابَ الشَدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ لَمّا نَصَّ عَظَمَةَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ في هَذِهِ بِالتَنْبِيهِ عَلى أفْعالِهِ لِتَبَيُّنِ العَظَمَةِ المَحْكُومِ بِها قَبْلُ. وقَوْلُهُ: ﴿لِتَسْكُنُوا﴾ دالٌّ عَلى أنَّ النَهارَ لِلْحَرَكَةِ والتَصَرُّفِ، وكَذَلِكَ هو في الوُجُودِ، وذَلِكَ أنَّ حَرَكَةَ اللَيْلِ مُتَعَذِّرَةٌ بِفَقْدِ الضَوْءِ. وقَوْلُهُ: ﴿والنَهارَ مُبْصِرًا﴾ مَجازٌ، لِأنَّ النَهارَ لا يُبْصِرُ، ولَكِنَّهُ ظَرْفٌ لِلْإبْصارِ، وهَذا مَوْجُودٌ في كَلامِ العَرَبِ، إذِ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ مَفْهُومٌ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ:(p-٥٠٢) ؎ لَقَدْ لُمْتِنا يا أمَّ غِيلانَ في السُرى ∗∗∗ ونِمْتِ وما لَيْلُ المَطِيِّ بِنائِمِ ولَيْسَ هَذا مِن بابِ النَسَبِ كَعِيشَةٍ راضِيَةٍ ونَحْوِها. وإنَّما ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ أمّا النَهارُ فَفي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ واللَيْلُ في بَطْنِ مَنحُوتٍ مِنَ الساجِ فَجَعَلَ اللَيْلَ والنَهارَ بِهاتَيْنِ الحالَتَيْنِ، ولَيْسَ يُرِيدُ إلّا أنَّهُ هو فِيهِما كَذَلِكَ، وهَذا البَيْتُ لِمَسْجُونٍ كانَ يَبِيتُ في خَشَبَةِ السِجْنِ، وعَلى أنَّ هَذا البَيْتَ قَدْ يُنْشَدُ: "أمّا النَهارَ" بِالنَصْبِ، وفي هَذِهِ الألْفاظِ إيجازٌ وإحالَةٌ عَلى ذِهْنِ السامِعِ لِأنَّ العِبْرَةَ هي في أنَّ اللَيْلَ مُظْلِمٌ يُسْكَنُ فِيهِ، والنَهارُ مُبْصِرٌ يُتَصَرَّفُ فِيهِ، فَذُكِرَ طَرَفٌ مِن هَذا والطَرْفُ الآخَرُ مِنَ الجِهَةِ الثانِيَةِ، ودَلَّ المَذْكُورانِ عَلى المَتْرُوكَيْنِ، وهَذا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ﴾ [البقرة: ١٧١]. وقَوْلُهُ: "يَسْمَعُونَ" يُرِيدُ: ويَعُونَ. والضَمِيرُ في "قالُوا" لِلْكُفّارِ العَرَبِ، وذَلِكَ قَوْلُ طائِفَةٍ مِنهُمُ: "المَلائِكَةُ بَناتُ اللهِ"، والآيَةُ بَعْدُ تَعُمُّ كُلَّ مَن قالَ نَحْوَ هَذا القَوْلِ كالنَصارى ومَن يُمْكِنُ أنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ مِنَ الكَفَرَةِ، و"سُبْحانَهُ": مَصْدَرٌ مَعْناهُ: تَنْزِيهًا لَهُ وبَراءَةً مِن ذَلِكَ، فَسَّرَهُ بِهَذا النَبِيِّ ﷺ، وقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الغَنِيُّ﴾ صِفَةٌ عَلى الإطْلاقِ، أيْ لا يَفْتَقِرُ إلى شَيْءٍ مِنَ الجِهاتِ، والوَلَدُ جُزْءٌ مِمّا هو غَنِيٌّ عنهُ، والحَقُّ هو قَوْلُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿أنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللهِ﴾ [فاطر: ١٥]، وقَوْلُهُ: ﴿ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ﴾ بِالمِلْكِ والإحاطَةِ والخَلْقِ، و"إنْ" نافِيَةٌ، والسُلْطانُ: الحُجَّةُ، وكَذَلِكَ مَعْناهُ حَيْثُ تَكَرَّرَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ (p-٥٠٣)وَقَّفَهم مُوَبِّخًا بِقَوْلِهِ: ﴿أتَقُولُونَ عَلى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللهِ﴾ الآيَةُ، هَذا تَوَعُّدٌ لَهم بِأنَّهم لا يَظْفَرُونَ بِبُغْيَةٍ ولا يَبْقَوْنَ في نِعْمَةٍ، إذْ هَذِهِ حالُ مَن يَصِيرُ إلى العَذابِ وإنْ نُعِّمَ في دُنْياهُ يَسِيرًا، وقَوْلُهُ: "مَتاعٌ" مَرْفُوعٌ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ، أيْ: ذَلِكَ مَتاعٌ، أو هو عَلى الِابْتِداءِ بِتَقْدِيرِ: لَهم مَتاعٌ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُهُمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ تَوَعُّدٌ بِحَقٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب