الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ولا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ نَهْيٌ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَنِ الحُزْنِ مِن قَوْلِ الكُفّارِ المُتَضَمِّنِ لِلطَّعْنِ عَلَيْهِ وتَكْذِيبِهِ والقَدْحِ في دِينِهِ، والمَقْصُودِ التَّسْلِيَةُ لَهُ والتَّبْشِيرُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ سُبْحانَهُ الكَلامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مُعَلِّلًا لِما ذَكَرَهُ مِنَ النَّهْيِ لِرَسُولِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: ﴿إنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ أيِ الغَلَبَةُ والقَهْرُ لَهُ في مَمْلَكَتِهِ وسُلْطانِهِ لَيْسَتْ لِأحَدٍ مِن عِبادِهِ، وإذا كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُ فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ حَتّى تَحْزَنَ لِأقْوالِهِمُ الكاذِبَةِ وهم لا يَمْلِكُونَ مِنَ الغَلَبَةِ شَيْئًا. وقُرِئَ " يُحْزِنْكَ " مِن أحْزَنَهُ. وقُرِئَ " أنَّ العِزَّةَ " بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى مَعْنى لِأنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ، ولا يُنافِي ما في هَذِهِ الآيَةِ مِن جَعْلِ العِزَّةِ جَمِيعِها لِلَّهِ تَعالى قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] لِأنَّ كُلَّ عِزَّةٍ بِاللَّهِ فَهي كُلُّها لِلَّهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا﴾ (p-٦٣٤)[غافر: ٥١] . ﴿ألا إنَّ لِلَّهِ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ﴾ ومَن جُمْلَتِهِمْ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ المُعاصِرُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وإذا كانُوا في مُلْكِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشاءُ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِما لا يَأْذَنُ اللَّهُ بِهِ، وغَلَّبَ العُقَلاءَ عَلى غَيْرِهِمْ لِكَوْنِهِمْ أشْرَفَ. وفِي الآيَةِ نَعْيٌ عَلى عُبّادِ البَشَرِ والمَلائِكَةِ والجَماداتِ، لِأنَّهم عَبَدُوا المَمْلُوكَ وتَرَكُوا المالِكَ، وذَلِكَ مُخالِفٌ لِما يُوجِبُهُ العَقْلُ، ولِهَذا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ﴾ والمَعْنى: أنَّهم وإنْ سَمَّوْا مَعْبُوداتِهِمْ شُرَكاءَ لِلَّهِ فَلَيْسَتْ شُرَكاءَ لَهُ عَلى الحَقِيقَةِ، لِأنَّ ذَلِكَ مُحالٌ ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] و" ما " في ( وما يَتَّبِعُ ) نافِيَةٌ، و" شُرَكاءَ " مَفْعُولُ يَتَّبِعُ، وعَلى هَذا يَكُونُ مَفْعُولُ ( يَدْعُونَ ) مَحْذُوفًا، والأصْلُ وما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ شُرَكاءَ في الحَقِيقَةِ، إنَّما هي أسْماءٌ لا مُسَمَّياتِ لَها، فَحُذِفَ أحَدُهُما لِدَلالَةِ المَذْكُورِ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَذْكُورُ مَفْعُولَ ( يَدْعُونَ )، وحُذِفَ مَفْعُولُ ( يَتَّبِعُ ) لِدَلالَةِ المَذْكُورِ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً بِمَعْنى أيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَن دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ ؟ !، ويَكُونُ عَلى هَذا الوَجْهِ ( شُرَكاءَ ) مَنصُوبًا بِـ ( يَدْعُونَ )، والكَلامُ خارِجٌ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ لَهم والإزْراءِ عَلَيْهِمْ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ " ما " مَوْصُولَةً مَعْطُوفَةً عَلى ( مَن في السَّماواتِ ): أيْ لِلَّهِ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ وما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ؛ والمَعْنى أنَّ اللَّهَ مالِكٌ لِمَعْبُوداتِهِمْ لِكَوْنِها مِن جُمْلَةِ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ. ثُمَّ زادَ سُبْحانَهُ في تَأْكِيدِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ والدَّفْعِ لِأقْوالِهِمْ فَقالَ: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ أيْ ما يَتَّبِعُونَ يَقِينًا إنَّما يَتَّبِعُونَ ظَنًّا، والظَّنُّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ﴿إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ أيْ يُقَدِّرُونَ أنَّهم شُرَكاءُ تَقْدِيرًا باطِلًا وكَذِبًا بَحْتًا، وقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الأنْعامِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ طَرَفًا مِن آثارِ قُدْرَتِهِ مَعَ الِامْتِنانِ عَلى عِبادِهِ بِبَعْضِ نِعَمِهِ قالَ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا﴾ أيْ جَعَلَ لِعِبادِهِ الزَّمانَ مُنْقَسِمًا إلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما: مُظْلِمٌ وهو اللَّيْلُ لِأجْلِ يَسْكُنُ العِبادُ فِيهِ عَنِ الحَرَكَةِ والتَّعَبِ ويُرِيحُونَ أنْفُسَهم عَنِ الكَدِّ والكَسْبِ، والآخَرُ: مُبْصِرٌ لِأجْلِ يَسْعَوْنَ فِيهِ بِما يَعُودُ عَلى نَفْعِهِمْ وتَوْفِيرِ مَعايِشِهِمْ، ويُحَصِّلُونَ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ في وقْتٍ مُضِيءٍ مُنِيرٍ، لا يَخْفى عَلَيْهِمْ فِيهِ كَبِيرٌ ولا حَقِيرٌ، وجَعْلُهُ سُبْحانَهُ لِلنَّهارِ مُبْصِرًا مَجازٌ. والمَعْنى: أنَّهُ مُبْصِرٌ صاحِبُهُ كَقَوْلِهِمْ: نَهارُهُ صائِمٌ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: إنَّ في ذَلِكَ إلى الجَعْلِ المَذْكُورِ لَآياتٍ عَجِيبَةً كَثِيرَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أيْ يَسْمَعُونَ ما يُتْلى عَلَيْهِمْ مِنَ الآياتِ التِّنْزِيلِيَّةِ المُنَبِّهَةِ عَلى الآياتِ التَّكْوِينِيَّةِ مِمّا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ هاهُنا مِنها ومِن غَيْرِها مِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ، فَعِنْدَ السَّماعِ مِنهم لِذَلِكَ يَتَفَكَّرُونَ ويَعْتَبِرُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ أسْبابِ الإيمانِ. قَوْلُهُ: ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ﴾ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِن أباطِيلِ المُشْرِكِينَ الَّتِي كانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِها، وهو زَعْمُهم بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ اتَّخَذَ ولَدًا، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ﴾ فَتَنَزَّهَ جَلَّ وعَلا عَمّا نَسَبُوهُ إلَيْهِ مِن هَذا الباطِلِ البَيِّنِ، وبَيَّنَ أنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وأنَّ الوَلَدَ إنَّما يُطْلَبُ لِلْحاجَةِ، والغَنِيُّ المُطْلَقُ لا حاجَةَ لَهُ حَتّى يَكُونَ لَهُ ولَدٌ يَقْضِيها، وإذا انْتَفَتِ الحاجَةُ انْتَفى الوَلَدُ، وأيْضًا إنَّما يَحْتاجُ إلى الوَلَدِ مَن يَكُونُ بِصَدَدِ الِانْقِراضِ لِيَقُومَ الوَلَدُ مَقامَهُ، والأزَلِيُّ القَدِيمُ لا يَفْتَقِرُ إلى ذَلِكَ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الآيَةِ في البَقَرَةِ. ثُمَّ بالَغَ في الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِما هو كالبُرْهانِ، فَقالَ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾، وإذا كانَ الكُلُّ لَهُ وفي مُلْكِهِ، فَلا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمّا فِيهِما ولَدًا لَهُ لِلْمُنافاةِ بَيْنَ المُلْكِ والبُنُوَّةِ والأُبُوَّةِ. ثُمَّ زَيَّفَ دَعْواهُمُ الباطِلَةَ وبَيَّنَ أنَّها بِلا دَلِيلٍ فَقالَ: ﴿إنْ عِنْدَكم مِن سُلْطانٍ بِهَذا﴾ أيْ أعِنْدَكم مِن حُجَّةٍ وبُرْهانٍ بِهَذا القَوْلِ الَّذِي تُمْلُونُهُ، و( مِن ) في ﴿مِن سُلْطانٍ﴾ زائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، والجارُّ والمَجْرُورُ في بِهَذا مُتَعَلِّقٌ إمّا بِسُلْطانٍ لِأنَّهُ بِمَعْنى الحُجَّةِ والبُرْهانِ، أوْ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَكم لِما فِيهِ مِن مَعْنى الِاسْتِقْرارِ. ثُمَّ وبَّخَهم عَلى هَذا القَوْلِ العاطِلِ عَنِ الدَّلِيلِ الباطِلِ عِنْدَ العُقَلاءِ فَقالَ: ﴿أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، ويُسْتَفادُ مِن هَذا أنَّ كُلَّ قَوْلٍ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَيْسَ هو مِنَ العِلْمِ في شَيْءٍ، بَلْ مِنَ الجَهْلِ المَحْضِ. ثُمَّ أمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يَقُولَ لَهم: قَوْلًا يَدُلُّ عَلى أنَّ ما قالُوهُ كَذِبٌ، وأنَّ مَن كَذَبَ عَلى اللَّهِ لا يُفْلِحُ فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ أيْ كُلُّ مُفْتَرٍ هَذا شَأْنُهُ، ويَدْخُلُ فِيهِ هَؤُلاءِ دُخُولًا أوَّلِيًّا. وذِكْرُ الكَذِبِ مَعَ الِافْتِراءِ لِلتَّأْكِيدِ كَما سَبَقَ في مَواضِعَ مِنَ الكِتابِ العَزِيزِ. والمَعْنى: أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلى رَبِّهِمْ لا يَفُوزُونَ بِمَطْلَبٍ مِنَ المَطالِبِ. ﴿مَتاعٌ في الدُّنْيا ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ هَذا الِافْتِراءَ وإنْ فازَ صاحِبُهُ بِشَيْءٍ مِنَ المَطالِبِ العاجِلَةِ فَهو مَتاعٌ قَلِيلٌ في الدُّنْيا، ثُمَّ يَتَعَقَّبُهُ المَوْتُ والرُّجُوعُ إلى اللَّهِ، فَيُعَذِّبُ المُفْتَرِي عَذابًا مُؤَبَّدًا. فَيَكُونُ مَتاعٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ أنَّ ما يَحْصُلُ لِلْمُفْتَرِي بِافْتِرائِهِ لَيْسَ بِفائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِها، بَلْ هو مَتاعٌ يَسِيرٌ في الدُّنْيا يَتَعَقَّبُهُ العَذابُ الشَّدِيدُ بِسَبَبِ الكُفْرِ الحاصِلِ بِأسْبابٍ مِن جُمْلَتِها الكَذِبُ عَلى اللَّهِ. وقالَ الأخْفَشُ: إنَّ التَّقْدِيرَ لَهم مَتاعٌ في الدُّنْيا، فَيَكُونُ المَحْذُوفُ عَلى هَذا هو الخَبَرُ. وقالَ الكِسائِيُّ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ مَتاعٌ أوْ هو مَتاعٌ، فَيَكُونُ المَحْذُوفُ عَلى هَذا هو المُبْتَدَأ. وقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَحْزُنْكَ﴾ لَمّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِما جاءَهم مِنَ اللَّهِ وأقامُوا عَلى كُفْرِهِمْ كَبُرَ ذَلِكَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَجاءَهُ مِنَ اللَّهِ فِيما يُعاتِبُهُ ﴿ولا يَحْزُنْكَ قَوْلُهم إنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ يَسْمَعُ ما يَقُولُونَ ويَعْلَمُهُ، فَلَوْ شاءَ بِعِزَّتِهِ لانْتَصَرَ مِنهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿والنَّهارَ مُبْصِرًا﴾ قالَ: مُنِيرًا. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ عِنْدَكم مِن سُلْطانٍ بِهَذا﴾ يَقُولُ: ما عِنْدَكم سُلْطانٌ بِهَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب