لَمّا كانَ الجِهادُ ذِرْوَةَ سَنامِ الإسْلامِ وقُبَّتَهُ، ومَنازِلُ أهْلِهِ أعْلى المَنازِلِ في الجَنَّةِ، كَما لَهُمُ الرِّفْعَةُ في الدُّنْيا، فَهُمُ الأعْلَوْنَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الذِّرْوَةِ العُلْيا مِنهُ، واسْتَوْلى عَلى أنْواعِهِ كُلِّها فَجاهَدَ في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ بِالقَلْبِ والجِنانِ والدَّعْوَةِ والبَيانِ والسَّيْفِ والسِّنانِ، وكانَتْ ساعاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلى الجِهادِ بِقَلْبِهِ ولِسانِهِ ويَدِهِ. ولِهَذا كانَ أرْفَعَ العالَمِينَ ذِكْرًا، وأعْظَمَهم عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
وَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالجِهادِ مِن حِينِ بَعْثِهِ، وقالَ: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدْهم بِهِ جِهادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٢]، فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ أمَرَ فِيها بِجِهادِ الكُفّارِ بِالحُجَّةِ والبَيانِ وتَبْلِيغِ القُرْآنِ، وكَذَلِكَ جِهادُ المُنافِقِينَ إنَّما هو بِتَبْلِيغِ الحُجَّةِ، وإلّا فَهم تَحْتَ قَهْرِ أهْلِ الإسْلامِ، قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾
فَجِهادُ المُنافِقِينَ أصْعَبُ مِن جِهادِ الكُفّارِ، وهو جِهادُ خَواصِّ الأُمَّةِ ووَرَثَةِ الرُّسُلِ، والقائِمُونَ بِهِ أفْرادٌ في العالَمِ، والمُشارِكُونَ فِيهِ والمُعاوِنُونَ عَلَيْهِ وإنْ كانُوا هُمُ الأقَلِّينَ عَدَدًا فَهُمُ الأعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
وَلَمّا كانَ مِن أفْضَلِ الجِهادِ قَوْلُ الحَقِّ مَعَ شِدِّةِ المُعارِضِ، مِثْلَ أنْ تَتَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مَن تَخافُ سَطْوَتَهُ وأذاهُ، كانَ لِلرُّسُلِ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وسَلامُهُ - مِن ذَلِكَ الحَظُّ الأوْفَرُ، وكانَ لِنَبِيِّنا - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - مِن ذَلِكَ أكْمَلُ الجِهادِ وأتَمُّهُ.
وَلَمّا كانَ جِهادُ أعْداءِ اللَّهِ في الخارِجِ فَرْعًا عَلى جِهادِ العَبْدِ نَفْسَهُ في ذاتِ اللَّهِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نَفْسَهُ في طاعَةِ اللَّهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ»
كانَ جِهادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلى جِهادِ العَدُوِّ في الخارِجِ، وأصْلًا لَهُ، فَإنَّهُ ما لَمْ يُجاهِدْ نَفْسَهُ أوَّلًا لِتَفْعَلَ ما أُمِرَتْ بِهِ وتَتْرُكَ ما نُهِيَتْ عَنْهُ ويُحارِبُها في اللَّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهادُ عَدُوِّهِ في الخارِجِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهادُ عَدُوِّهِ والِانْتِصافُ مِنهُ وعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قاهِرٌ لَهُ مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجاهِدْهُ ولَمْ يُحارِبْهُ في اللَّهِ، بَلْ لا يُمْكِنُهُ الخُرُوجُ إلى عَدُوِّهِ حَتّى يُجاهِدَ نَفْسَهُ عَلى الخُرُوجِ.
فَهَذانِ عَدُوّانِ قَدِ امْتُحِنَ العَبْدُ بِجِهادِهِما، وبَيْنَهُما عَدُوٌّ ثالِثٌ لا يُمْكِنُهُ جِهادُهُما إلّا بِجِهادِهِ، وهو واقِفٌ بَيْنَهُما يُثَبِّطُ العَبْدَ عَنْ جِهادِهِما، ويُخَذِّلُهُ ويُرْجِفُ بِهِ، ولا يَزالُ يُخَيِّلُ لَهُ ما في جِهادِهِما مِنَ المَشاقِّ وتَرْكِ الحُظُوظِ وفَوْتِ اللَّذّاتِ والمُشْتَهَياتِ، ولا يُمْكِنُهُ أنْ يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العَدُوَّيْنِ إلّا بِجِهادِهِ، فَكانَ جِهادُهُ هو الأصْلَ لِجِهادِهِما، وهو الشَّيْطانُ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ لَكم عَدُوٌّ فاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: ٦]، والأمْرُ بِاتِّخاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلى اسْتِفْراغِ الوُسْعِ في مُحارَبَتِهِ، ومُجاهَدَتِهِ، كَأنَّهُ عَدُوٌّ لا يَفْتُرُ ولا يُقَصِّرُ عَنْ مُحارَبَةِ العَبْدِ عَلى عَدَدِ الأنْفاسِ.
فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أعْداءٍ، أُمِرَ العَبْدُ بِمُحارَبَتِها وجِهادِها، وقَدْ بُلِيَ بِمُحارَبَتِها في هَذِهِ الدّارِ، وسُلِّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وابْتِلاءً، فَأعْطى اللَّهُ العَبْدَ مَدَدًا وعُدَّةً وأعْوانًا وسِلاحًا لِهَذا الجِهادِ، وأعْطى أعْداءَهُ مَدَدًا وعُدَّةً وأعْوانًا وسِلاحًا، وبَلا أحَدَ الفَرِيقَيْنِ بِالآخَرِ، وجَعَلَ بَعْضَهم لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أخْبارَهُمْ، ويَمْتَحِنَ مَن يَتَوَلّاهُ ويَتَوَلّى رُسُلَهُ مِمَّنْ يَتَوَلّى الشَّيْطانَ وحِزْبَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ وكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠].
وَقالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهم ولَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكم بِبَعْضٍ﴾ [محمد: ٤] وقالَ تَعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكم حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصّابِرِينَ ونَبْلُوَ أخْبارَكُمْ﴾ [محمد: ٣١] فَأعْطى عِبادَهُ الأسْماعَ والأبْصارَ والعُقُولَ والقُوى، وأنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وأرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وأمَدَّهم بِمَلائِكَتِهِ وقالَ لَهُمْ: ﴿أنِّي مَعَكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: ١٢]، وأمَرَهم مِن أمْرِهِ بِما هو مِن أعْظَمِ العَوْنِ لَهم عَلى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ، وأخْبَرَهم أنَّهم إنِ امْتَثَلُوا ما أمَرَهم بِهِ لَمْ يَزالُوا مَنصُورِينَ عَلى عَدُوِّهِ وعَدُوِّهِمْ، وأنَّهُ إنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ ما أُمِرُوا بِهِ ولِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤَيِّسْهم ولَمْ يُقَنِّطْهُمْ، بَلْ أمَرَهم أنْ يَسْتَقْبِلُوا أمْرَهُمْ، ويُداوُوا جِراحَهُمْ، ويَعُودُوا إلى مُناهَضَةِ عَدُوِّهِمْ، فَيَنْصُرَهم عَلَيْهِ، ويُظَفِّرَهم بِهِمْ، فَأخْبَرَهم أنَّهُ مَعَ المُتَّقِينَ مِنهُمْ، ومَعَ المُحْسِنِينَ ومَعَ الصّابِرِينَ ومَعَ المُؤْمِنِينَ، وأنَّهُ يُدافِعُ عَنْ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ ما لا يُدافِعُونَ عَنْ أنْفُسِهِمْ، بَلْ بِدِفاعِهِ عَنْهُمُ انْتَصَرُوا عَلى عَدُوِّهِمْ، ولَوْلا دِفاعُهُ عَنْهم لَتَخَطَّفَهم عَدُوُّهم واجْتاحَهم.
وَهَذِهِ المُدافَعَةُ عَنْهم بِحَسْبِ إيمانِهِمْ وعَلى قَدْرِهِ، فَإنْ قَوِيَ الإيمانُ قَوِيَتِ المُدافَعَةُ، فَمَن وجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، ومَن وجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلّا نَفْسَهُ.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبُ جِهادِ الشَّيْطانِ]
وَأمّا جِهادُ الشَّيْطانِ فَمَرْتَبَتانِ، إحْداهُما: جِهادُهُ عَلى دَفْعِ ما يُلْقِي إلى العَبْدِ مِنَ الشُّبُهاتِ والشُّكُوكِ القادِحَةِ في الإيمانِ.
الثّانِيَةُ: جِهادُهُ عَلى دَفْعِ ما يُلْقِي إلَيْهِ مِنَ الإراداتِ الفاسِدَةِ والشَّهَواتِ، فالجِهادُ الأوَّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ اليَقِينُ، والثّانِي: يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ. قالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤]
فَأخْبَرَ أنَّ إمامَةَ الدِّينِ إنَّما تُنالُ بِالصَّبْرِ واليَقِينِ، فالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَواتِ والإراداتِ الفاسِدَةَ، واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهاتِ.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبُ جِهادِ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ]
وَأمّا جِهادُ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ فَأرْبَعُ مَراتِبَ: بِالقَلْبِ، واللِّسانِ، والمالِ، والنَّفْسِ، وجِهادُ الكُفّارِ أخَصُّ بِاليَدِ، وجِهادُ المُنافِقِينَ أخَصُّ بِاللِّسانِ.
* [فَصْلٌ: في جِهادُ أرْبابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَراتِ]
وَأمّا جِهادُ أرْبابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَراتِ فَثَلاثُ مَراتِبَ، الأُولى: بِاليَدِ إذا قَدَرَ، فَإنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلى اللِّسانِ، فَإنْ عَجَزَ جاهَدَ بِقَلْبِهِ، فَهَذِهِ ثَلاثَةَ عَشَرَ مَرْتَبَةً مِنَ الجِهادِ، و«مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ ولَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ ماتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفاقِ».
* [فَصْلٌ: في شَرْطُ الجِهادِ]
وَلا يَتِمُّ الجِهادُ إلّا بِالهِجْرَةِ، ولا الهِجْرَةُ والجِهادُ إلّا بِالإيمانِ، والرّاجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ قامُوا بِهَذِهِ الثَّلاثَةِ. قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨].
وَكَما أنَّ الإيمانَ فَرْضٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ هِجْرَتانِ في كُلِّ وقْتٍ: هِجْرَةٌ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِالتَّوْحِيدِ والإخْلاصِ والإنابَةِ والتَّوَكُّلِ والخَوْفِ والرَّجاءِ والمَحَبَّةِ والتَّوْبَةِ، وهِجْرَةٌ إلى رَسُولِهِ بِالمُتابَعَةِ والِانْقِيادِ لِأمْرِهِ، والتَّصْدِيقِ بِخَبَرِهِ، وتَقْدِيمِ أمْرِهِ وخَبَرِهِ عَلى أمْرِ غَيْرِهِ وخَبَرِهِ: «فَمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ». وفَرَضَ عَلَيْهِ جِهادَ نَفْسِهِ في ذاتِ اللَّهِ، وجِهادَ شَيْطانِهِ، فَهَذا كُلُّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لا يَنُوبُ فِيهِ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ.
وَأمّا جِهادُ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ فَقَدْ يُكْتَفى فِيهِ بِبَعْضِ الأُمَّةِ إذا حَصَلَ مِنهم مَقْصُودُ الجِهادِ.
((الجزء السابع))
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ جَـٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱغۡلُظۡ عَلَیۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ"}