الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ ۝﴾ [التوبة: ٧٣]. تدُلُّ هذه الآيةُ على وجوبِ جهادِ المنافِقينَ، كما يَجِبُ جهادُ الكافرينَ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على وجوبِ جهادِ الكفّارِ في مواضعَ. وقد توجَّهَ الخطابُ إلى النبيِّ ﷺ بجهادِ المنافِقينَ، لأنّ جهادَهم أوْلى ما يقومُ به سُلْطانُ المُسلِمينَ وإمامُهم، لخفاءِ أمْرِهم ولِقُوَّةِ تأثيرِهِ عليهم، فهم يَهابونَ صاحبَ القُوَّةِ ويَخافونَهُ أكثَرَ مِن غيرِه، ولأنّ السُّلْطانَ والأميرَ والعالِمَ يَبْلُغُ خِطابُهُ ما لا يَبلُغُهُ غيرُهُ مِن العامَّةِ، وكلَّما عَلا الرَّجُلُ مَنزِلةً في الناسِ، كان خِطابُهُ في جهادِ النِّفاقِ والكفرِ أوْجَبَ. صُوَرُ جهادِ المُنافِقينَ: ولجهادِ المنافِقينَ صُوَرٌ قامَ بها النبيُّ ﷺ وأصحابُهُ، ومِن هذه الصُّوَرِ: الصورةُ الأُولى: دَفْعُهم عن مَوضِعِ العُلُوِّ والجاهِ في الناسِ، وعَزْلُهم عن مَنابِرِ الخَطابةِ والإعلامِ والتصدُّرِ، وعدمُ اتِّخاذِهم بِطانةً، وقد كان لعَبْدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ مَوضِعٌ يَخطُبُ فيه في مَسجِدِ النبيِّ ﷺ، ولمّا رجَعَ بالناسِ بعدَ أُحُدٍ، وخالَفَ أمْرَ رسولِ اللهِ ﷺ، مُنِعَ مِن الخَطابةِ في الناسِ، حتّى لا تَقْوى شوكتُهُ، ويَشُقَّ صَفَّ الناسِ بها. ومِن ذلك: عدَمُ اتِّخاذِهم مَوضِعَ شورى ووِلايةٍ وإمارةٍ. الصورةُ الثـانيةُ: التحذيرُ مِن أفعالِهم وأقوالِهم، بذِكْرِها وتِلاوةِ الآياتِ الواردةِ فيهم، ورَبْطِها بما يَبْدُو مِن أفعالِهم، كما كان النبيُّ ﷺ يتلو آياتِهم على المَلَأِ ليَسْمَعوها فيَحْذَرُوهم، فقد كان يَقرَأُ سورةَ (المنافِقونَ) يومَ الجُمُعةِ، فيَسْمَعُها الناسُ، ويَسمَعُ المنافِقونَ أوصافَهم، فيَهابُونَ ويَخافونَ، ويُدْفَعُ شرُّهم. الصورةُ الـثـا&#١٣٣،لـثـةُ: التغليظُ عليهم بالقولِ عندَ ظهورِ ما يُستنكَرُ منهم، وعدَمُ اللِّينِ والرِّفْقِ بهم، ما لم تَدْعُ الحاجةُ إلى ذلك، تأليفًا ودفعًا لشَرِّهم، وهذا ظاهرُ قولِهِ تعالى: ﴿واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۝﴾، يَعني: بالقَوْلِ، ولهذا فَسَّرَ جماعةٌ مِن الصَّحابةِ جِهادَهم في الآيةِ باللِّسانِ، كما قال ابنُ عبّاسٍ: «جهادُ الكفارِ بالسَّيْفِ، وجِهادُ المنافِقينَ باللِّسانِ»[[«تفسير الطبري» (١١/٥٦٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٤٢).]]. الصورةُ الرابعةُ: إقامةُ الحدودِ عليهم عندَ ظُهورِ معصيةٍ منهم كانتْ تَستوجِبُ حدًّا أو تعزيرًا، وعلى هذا حمَلَ جِهادَهُمْ في الآيةِ جماعةٌ مِن السلفِ، كالحَسَنِ وقتادَةَ وغيرِهما[[«تفسير الطبري» (١١/٥٦٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٤١).]]، ما لم تَقُمْ مصلَحةٌ ظاهرةٌ بالتغافُلِ عن زَلَّتِهم والعَفْوِ عنها، كما ترَكَ النبيُّ ﷺ قَتْلَ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ، خشيةَ أن يتحدَّثَ الناسُ أنّ محمدًا يقتُلُ أصحابَهُ[[أخرجه البخاري (٤٩٠٥)، ومسلم (٢٥٨٤).]]. وقد ذكَرَ غيرُ واحدٍ مِن العُلَماءِ: أنّ هذه الآيةَ: ﴿جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ﴾ ناسخةٌ لكلِّ آيةٍ فيها لِينٌ ورِفْقٌ بالمنافِقينَ، وعفوٌ وصفحٌ عنهم، وبهذا قال القرطبيُّ[[«تفسير القرطبي» (١٠/٣٠١).]]، وابنُ تيميَّةَ[[«الصارم المسلول» (ص٤١١، و٤٤١).]]، وذلك كقولِهِ تعالى: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ ودَعْ أذاهُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٨]، والأظهَرُ: أنّ اللهَ نسَخَ ذلك، لتغيُّرِ حالِ نبيِّه إلى قُوَّةٍ، وحالِ المُنافِقينَ إلى ضَعْفٍ، وإن كان في المُسلِمينَ مُشابَهةٌ لحالِ النبيِّ ﷺ الأُولى، فيُعمَلُ بآياتِ التعامُلِ معَ المنافِقينَ الأُولى، واللهُ أعلَمُ، وفي حالِ قُوَّةِ المُسلِمينَ والإسلامِ لا يجوزُ تغليبُ العفوِ والصفحِ واللِّينِ معهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب