الباحث القرآني
أما الرزق ففسر بالمطر وفسر بالجنة وفسر برزق الدنيا والآخرة ولا ريب أن المطر من الرحمة وأن الجنة مستقر الرحمة فرزق الدارين في السماء التي هي في العلو وقوله تعالى: ﴿وما توعدون﴾ قال عطاء رضي الله عنه من الثواب والعقاب وقال الكلبي من الخير والشر وقال مجاهد من الجنة والنار وقال ابن سيرين من أمر الساعة
قلت كون الجنة والخير في السماء فلا إشكال فيه وكون النار في السماء وما يوعد به اهلها يحتاج إلى تبيين فإذا نظرت إلى أسباب الخير والشر وأسباب دخول الجنة والنار وافتراق الناس وانقسامهم إلى شقي وسعيد وجدت ذلك كله بقضاء الله وقدره النازل من السماء وذلك كله مثبت في السماء في صحف الملائكة وفي اللوح المحفوظ قبل العمل وبعده فالأمر كله من السماء وقول من قال من أمر الساعة يكشف عن هذا المعنى فإن أمر الساعة يأتي من السماء وهو الموعود بها فالجنة والنار الغاية التي لأجلها قامت الساعة فصح كل ما قال السلف في ذلك والله أعلم.
* (فصل)
ثم أقسم سبحانه أعظم قسم بأعظم مقسم به على أجل مقسم عليه وأكد الإخبار بهذا القسم ثم أكد بتشبيهه بالأمر المحقق الذي لا يشك فيه ذو حاسة سليمة فقال ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾
قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد إنه لحق واقع كما أنكم تنطقون وقال الفراء إنه لحق كما أن
الآدمي ناطق.
وقال الزجاج هذا كما تقول في الكلام: إن هذا لحق كما أنك هاهنا.
قلت وفي الحديث إنه لحق كما أنك هاهنا فشبه سبحانه تحقيق ما أخبر به بتحقيق نطق الآدمي ووجوده والواحد منا يعرف أنه ناطق ضرورة ولا يحتاج نطقه إلى الاستدلال على وجوده ولا يخالجه شك في أنه ناطق فكذلك ما أخبر الله عنه من أمر التوحيد والنبوة والمعاد وأسمائه وصفاته حق ثابت في نفس الأمر يشبه بثبوت نطقكم ووجوده وهذا باب يعرفه الناس في كلامهم يقول أحدهم هذا حق مثل الشمس وأفصح الشاعر عن هذا بقوله:
؎وليس يصح في الأذهان شيء ∗∗∗ إذا احتاج النهار إلى دليل
وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الرب تعالى شهد بصحة ما أخبر به وهو أصدق الصادقين وأقسم عليه وهو أبر المقسمين وأكده بتشبيهه بالواقع الذي لا يقبل الشك بوجه وأقام عليه من الأدلة العيانية والبرهانية ما جعله معاينًا مشاهدًا بالبصائر وإن لم يعاين بالأبصار ومع ذلك فأكثر النفوس في غفلة عنه لا تستعد له ولا تأخذ له أهبة والمستعد له الآخذ له أهبة لا يعطيه حقه منهم إلا الفرد بعد الفرد فأكثر الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار ولا يتفكرون في قلة مقامهم في دار الغرور ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها ولا إلى أين يرحلون وأين يستقرون قد ملكهم الحس وقل نصيبهم من العقل وشملتهم الغفلة وغرتهم الأماني التي هي كالسراب وخدعهم طول الأمل وكأن المقيم لا يرحل وكأن أحدهم لا يبعث ولا يسأل وكأن مع كل مقيم توقيع من الله لفلان بن فلان بالأمان من عذابه والفوز بجزيل ثوابه فأما اللذات الحسية والشهوات النفسية كيفما حصلت فإنهم حصلوها ومن أي وجه لاحت أخذوها غافلين عن المطالبة آمنين من العاقبة يسعون لما يدركون ويتركون ماهم به مطالبون ويعمرون ما هم عنه منتقلون ويخربون ما هم إليه صائرون وهم عن الآخرة هم غافلون ألهتهم شهوات نفوسهم فلا ينظرون في مصالحها ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهم أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾
والعجب كل العجب من غفلة من تعد علمه لحظاته وتحصى عليه أنفاسه ومطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يحمل ولا إلى أي منزل ينقل:
؎وكيف تنام العين وهي قريرة ∗∗∗ ولم تدر في أي المحلين تنزل
وإذا نزل بأحدهم الموت قلق لخراب ذاته وذهاب لذاته لا لما سبق من جناياته ولا لسوء منقلبه بعد مماته فإن خطرت على أحدهم خطرة من ذلك اعتمد العفو أو الرحمة وكان يتيقن أن ذلك نصيبه ولا بد فلو أن العاقل أحضر ذهنه ما استحضر عقله وسار بفكره وأمعن النظر وتأمل الآيات لفهم المراد من إيجاده ولنظرت عين الراحل إلى الطريق ولأخذ المسافر في التزود والمريض في التداوي والحازم ما يجوز أن يأتي فما الظن بأمر متيقن كما أنه لصدق إيمانه وقوة إيقانهم وكأنهم يعاينون الأمر فأضحت ربوع الإيمان من أهلها خالية ومعالمه على عروشها خاوية
قال ابن وهب أخبرني مسلم بن علي عن الأوزاعي قال كان السلف إذا طلع الفجر أو قبله كأنما على رؤسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حبيبا لأحدهما غاب عنه حينًا ثم قدم لما التفت إليه فلا يزالون كذلك إلى طلوع الشمس ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتخلفون بأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه ثم يأخذون في الفقه.
(فائدة: في إفراد السماء]
وتأمل كيف جاءت [السماء] مفردة في قوله: ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾
إرادة لهذين الجنسين.
أي رب كل ما علا وكل ما سفل فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم الشامل لكل ما يسمى سماء، وكل ما يسمى أرضا.
وهو أمر حقيقي لا يتبدل ولا يتغير.
وإن تبدلت عين السماء والأرض فانظر كيف جاءت مجموعة في قوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾
في جميع الصور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم، وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم.
وانظر كيف جاءت مفردة في قوله: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكم وما تُوعَدُونَ﴾
فالرزق المطر وما وعدنا به الجنة، وكلاهما في هذه الجهة، لا أنهما في كل واحدة واحدة من السماوات.
فكان لفظ الإفراد أليق بها.
* (موعظة)
فرغ خاطرك للهم بِما أمرت بِهِ ولا تشغله بِما ضمن لَك فَإن الرزق والأجَل قرينان مضمونان فَما دامَ الأجَل باقِيا كانَ الرزق آتِيا.
وَإذا سد عَلَيْك بِحِكْمَتِهِ طَرِيقا من طرقه فتح لَك برحمته طَرِيقا أنْفَع لَك مِنهُ.
فتأمّل حال الجَنِين يَأْتِيهِ غذاؤه وهو الدَّم من طَرِيق واحِدَة وهو السُّرَّة، فَلَمّا خرج من بطن الأُم وانقطعت تِلْكَ الطَّرِيق فتح لَهُ طَرِيقين اثْنَيْنِ، وأجرى لَهُ فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول لَبَنًا خالِصا سائغا، فَإذا تمت مُدَّة الرَّضاع وانقطعت الطريقان بالفطام فتح طرقًا أرْبَعَة أكمل مِنها طعامان وشرابان.
فالطعامان من الحَيَوان والنبات، والشرابان من المِياه والألبان، وما يُضاف إلَيْهِما من المَنافِع والملاذ.
فَإذا ماتَ انْقَطَعت عَنهُ هَذِه الطّرق الأرْبَعَة لكنه سُبْحانَهُ فتح لَهُ - إن كانَ سعيدا - طرقا ثَمانِيَة وهِي أبْواب الجنَّة الثَّمانِية يدْخل من أيها شاءَ.
فَهَكَذا الرب سُبْحانَهُ لا يمْنَع عَبده المُؤمن شَيْئا من الدُّنْيا إلّا ويؤتيه أفضل مِنهُ، وأنفع لَهُ ولَيْسَ ذَلِك لغير المُؤمن، فَإنَّهُ يمنعهُ الحَظ الأدْنى الخسيس، ولا يرضى لَهُ بِهِ ليعطيه الحَظ الأعْلى النفيس.
والعَبْد لجهله بمصالح نَفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التَّفاوُت بَين ما منع مِنهُ، وبَين ما ذخر لَهُ، بل هو مولع بحب العاجل وإن كانَ دنيئا، وبقلة الرَّغْبَة في الآجل وإن كانَ عليا.
وَلَو أنصف العَبْد ربه - وأنى لَهُ بذلك - لعلم أن فَضله عَلَيْهِ فِيما مَنعه من الدُّنْيا ولذاتها ونَعِيمها أعظم من فَضله عَلَيْهِ فِيما آتاهُ من ذَلِك، فَما مَنعه إلّا ليعطيه، ولا ابتلاه إلّا ليعافيه، ولا امتحنه إلّا ليصافيه، ولا أماتَهُ إلّا ليحييه، ولا أخرجه إلى هَذِه الدّار إلّا ليتأهب مِنها للقدوم عَلَيْهِ، وليسلك الطَّرِيق الموصلة إلَيْهِ فَـ ﴿جعل اللَّيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَن أرادَ أنْ يَذَّكَّرَ أوْ أرادَ شكُورًا﴾ و ﴿أبى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا﴾. والله المُسْتَعان.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["وَفِی ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ","فَوَرَبِّ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقࣱّ مِّثۡلَ مَاۤ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ"],"ayah":"وَفِی ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق