الباحث القرآني

سُورَةُ الذّارِياتِ سِتُّونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ﴿والذّارِياتِ ذَرْوًا﴾ ﴿فالحامِلاتِ وِقْرًا﴾ ﴿فالجارِياتِ يُسْرًا﴾ ﴿فالمُقَسِّماتِ أمْرًا﴾ ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ ﴿وإنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ﴾ ﴿والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾ ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ﴾ ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ هم في غَمْرَةٍ ساهُونَ﴾ ﴿يَسْألُونَ أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكم هَذا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهم إنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ ﴿كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾ ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وفِي السَّماءِ رِزْقُكم وما تُوعَدُونَ﴾ ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْراهِيمَ المُكْرَمِينَ﴾ [الذاريات: ٢٤] ﴿إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الذاريات: ٢٥] ﴿فَراغَ إلى أهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ [الذاريات: ٢٦] ﴿فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قالَ ألا تَأْكُلُونَ﴾ [الذاريات: ٢٧] ﴿فَأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: ٢٨] ﴿فَأقْبَلَتِ امْرَأتُهُ في صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وجْهَها وقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ [الذاريات: ٢٩] ﴿قالُوا كَذَلِكَ قالَ رَبُّكِ إنَّهُ هو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾ [الذاريات: ٣٠] ﴿قالَ فَما خَطْبُكم أيُّها المُرْسَلُونَ﴾ [الذاريات: ٣١] ﴿قالُوا إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٢] ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن طِينٍ﴾ [الذاريات: ٣٣] ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ [الذاريات: ٣٤] ﴿فَأخْرَجْنا مَن كانَ فِيها مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٣٥] ﴿فَما وجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٦] ﴿وتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ العَذابَ الألِيمَ﴾ [الذاريات: ٣٧] ﴿وفِي مُوسى إذْ أرْسَلْناهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ [الذاريات: ٣٨] ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ وقالَ ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٣٩] ﴿فَأخَذْناهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْناهم في اليَمِّ وهو مُلِيمٌ﴾ [الذاريات: ٤٠] ﴿وفِي عادٍ إذْ أرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ﴾ [الذاريات: ٤١] ﴿ما تَذَرُ مِن شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ إلّا جَعَلَتْهُ كالرَّمِيمِ﴾ [الذاريات: ٤٢] ﴿وفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾ [الذاريات: ٤٣] ﴿فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وهم يَنْظُرُونَ﴾ [الذاريات: ٤٤] ﴿فَما اسْتَطاعُوا مِن قِيامٍ وما كانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ [الذاريات: ٤٥] ﴿وقَوْمَ نُوحٍ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ [الذاريات: ٤٦] ﴿والسَّماءَ بَنَيْناها بِأيْدٍ وإنّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: ٤٧] ﴿والأرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُونَ﴾ [الذاريات: ٤٨] ﴿ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: ٤٩] ﴿فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إنِّي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: ٥٠] ﴿ولا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إنِّي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: ٥١] ﴿كَذَلِكَ ما أتى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٥٢] ﴿أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ [الذاريات: ٥٣] ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم فَما أنْتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات: ٥٤] ﴿وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٥٥] ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] ﴿ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧] ﴿إنَّ اللَّهَ هو الرَّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٨] ﴿فَإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ [الذاريات: ٥٩] ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٦٠] ) (p-١٣٢)الحُبُكُ: الطَّرائِقُ، مِثْلُ حُبُكِ الرَّمْلِ والماءِ القائِمِ إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وكَذَلِكَ حُبُكُ الشَّعَرِ: آثارُ تَثَنِّيهِ وتَكَسُّرِهِ قالَ الشّاعِرُ: ؎مُكَلَّلٍ بِأُصُولِ النَّجْمِ يَنْسُجُهُ رِيحٌ خَرِيقٌ لِضاحِي مائِهِ حُبُكُ والدِّرْعُ مَحْبُوكَةٌ لِأنَّ حَلْقَها مُطْرَقٌ طَرائِقَ. وواحِدُها حَبِيكَةٌ، كَطَرِيقَةٍ وطُرُقٍ، أوْ حِباكٌ كَمِثالٍ ومُثُلٍ، قالَ الرّاجِزُ: ؎كَأنَّما حَلَّلَها الحَوّاكُ ∗∗∗ طَنْفَسَةً في وشْيِها حِباكُ ويُقالُ: حِباكٌ لِلظَّفِيرَةِ الَّتِي يَشُدُّ بِها خَطّارُ القَصَبِ بَكَرَهُ، وهي مُسْتَطِيلَةٌ تُصْنَعُ في تَرْحِيبِ الغَرّاساتِ المُصْطَفَّةِ. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيُّ: حَبَكْتُ الشَّيْءَ: أحْكَمْتُهُ وأحْسَنْتُ عَمَلَهُ. قالَ الفَرّاءُ: الحُبُكُ: تَكَسُّرُ كُلِّ شَيْءٍ. وقالَ غَيْرُهُ: المَحْبُوكُ: الشَّدِيدُ الخَلْقِ مِن فَرَسٍ وغَيْرِهِ. قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎قَدْ غَدا يَحْمِلُنِي في أنْفِهِ ∗∗∗ لاحِقُ الإطْلَيْنِ مَحْبُوكٌ مُمِرْ الهُجُوعُ: النَّوْمُ. السِّمَنُ: مَعْرُوفٌ، وهو امْتِلاءُ الجَسَدِ بِالشَّحْمِ واللَّحْمِ. يُقالُ: سَمِنَ سِمَنًا فَهو سَمِينٌ، شَذُّوا في المَصْدَرِ واسْمِ الفاعِلِ، والقِياسُ سَمِنَ وسَمَّنَ. وقالُوا: سامِنٌ، إذا حَدَثَ لَهُ السِّمَنُ. الذَّنُوبُ: الدَّلْوُ العَظِيمَةُ، قالَ الرّاجِزُ: ؎إنّا إذا نازَلَنا غَرِيبُ ؎لَهُ ذَنُوبٌ ولَنا ذَنُوبُ ∗∗∗ وإنْ أبَيْتُمْ فَلَنا القَلِيبُ وأنْشَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ؎لَنا ذَنُوبٌ ولَكم ذَنُوبُ ويُطْلَقُ، ويُرادُ بِهِ الحَظُّ والنَّصِيبُ، قالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: ؎وفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ∗∗∗ فَحَقٌّ لِشاسٍ مِن نَداكَ ذَنُوبُ ونَسَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِعَمْرِو بْنِ شاسٍ، وهو وهْمٌ في دِيوانِ عَلْقَمَةَ. وكانَ الحارِثُ بْنُ أبِي شِمْرٍ الغَسّانِيُّ أسَرَ شاسًا أخا عَلْقَمَةَ، فَدَخَلَ إلَيْهِ عَلْقَمَةُ، فَمَدَحَهُ بِالقَصِيدَةِ الَّتِي فِيها هَذا البَيْتُ، فَلَمّا وصَلَ إلى هَذا البَيْتِ في الإنْشادِ قالَ الحارِثُ: نَعَمْ وأذْنَبَهُ، وقالَ حَسّانُ: ؎لا يَبْعُدَنَّ رَبِيعَةُ بْنُ مُكَرَّمٍ ∗∗∗ وسَقى الغَوادِي قَبْرَهُ بِذَنُوبِ وقالَ آخَرُ: ؎لَعَمْرُكَ والمَنايا طارِقاتٌ ∗∗∗ لِكُلِّ بَنِي أبٍ مِنها ذَنُوبُ (p-١٣٣)﴿والذّارِياتِ ذَرْوًا﴾ ﴿فالحامِلاتِ وِقْرًا﴾ ﴿فالجارِياتِ يُسْرًا﴾ ﴿فالمُقَسِّماتِ أمْرًا﴾ ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ ﴿وإنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ﴾ ﴿والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾ ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ﴾ ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ هم في غَمْرَةٍ ساهُونَ﴾ ﴿يَسْألُونَ أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكم هَذا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿آخِذِينَ ما آتاهم رَبُّهم إنَّهم كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ ﴿كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾ ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وفِي السَّماءِ رِزْقُكم وما تُوعَدُونَ﴾ ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ ) . هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. ومُناسَبَتُها لِآخِرِ ما قَبْلَها أنَّهُ قالَ فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ. وقالَ أوَّلَ هَذِهِ بَعْدَ القَسَمِ: ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ ﴿وإنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ﴾ . ﴿والذّارِياتِ﴾: الرِّياحُ. ﴿فالحامِلاتِ﴾ السَّحابُ. ﴿فالجارِياتِ﴾ الفُلْكُ. ﴿فالمُقَسِّماتِ﴾: المَلائِكَةُ، هَذا تَفْسِيرُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ عَلى المِنبَرِ، وقَدْ سَألَهُ ابْنُ الكَوّاءِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: ﴿فالحامِلاتِ﴾ هي السُّفُنُ المُوَقَّرَةُ بِالنّاسِ وأمْتاعِهِمْ. وقِيلَ: الحَوامِلُ مِن جَمِيعِ الحَيَوانِ. وقِيلَ: الجارِياتُ: السَّحابُ بِالرِّياحِ. وقِيلَ: الجَوارِي مِنَ الكَواكِبِ، وأدْغَمَ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ ﴿والذّارِياتِ﴾ في ذالِ (ذَرْوًا)، وذَرْوُها: تَفْرِيقُها لِلْمَطَرِ أوْ لِلتُّرابِ. وقُرِئَ: بِفَتْحِ الواوِ تَسْمِيَةً لِلْمَحْمُولِ بِالمَصْدَرِ. ومَعْنى (يُسْرًا): جَرْيًا ذا يُسْرٍ، أيْ سُهُولَةٍ. فَيُسْرًا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، فَهو عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ في مَوْضِعِ الحالِ. (أمْرًا) تُقَسِّمُ الأُمُورَ مِنَ الأمْطارِ والأرْزاقِ وغَيْرِها، فَأمْرًا مَفْعُولٌ بِهِ. وقِيلَ: مَصْدَرٌ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ، أيْ مَأْمُورَةً، ومَفْعُولُ المُقَسِّماتِ مَحْذُوفٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَتَوَلّى أمْرَ العِبادِ جِبْرِيلُ لِلْغِلْظَةِ، ومِيكائِيلُ لِلرَّحْمَةِ، ومَلَكُ المَوْتِ لَقَبْضِ الأرْواحِ، وإسْرافِيلُ لِلنَّفْخِ. وجاءَ في المَلائِكَةِ: فالمُقَسِّماتِ عَلى مَعْنى الجَماعاتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ الرِّياحُ لا غَيْرُ، لِأنَّها تُنْشِئُ السَّحابَ وتُقِلُّهُ وتَصْرِفُهُ وتَجْرِي في الجَوِّ جَرْيًا سَهْلًا، وتُقَسِّمُ الأمْطارَ بِتَصْرِيفِ الرِّياحِ. انْتَهى. فَإذا كانَ المَدْلُولُ مُتَغايِرًا، فَتَكُونُ أقْسامًا مُتَعاقِبَةً. وإذا كانَ غَيْرَ مُتَغايِرٍ، فَهو قِسْمٌ واحِدٌ، وهو مِن عَطْفِ الصِّفاتِ، أيْ ذَرَتْ أوَّلَ هُبُوبِها التُّرابَ والحَصْباءَ، فَأقَلَّتِ السَّحابَ، فَجَرَتْ في الجَوِّ باسِطَةً لِلسَّحابِ، فَقَسَّمَتِ المَطَرَ. فَهَذا كَقَوْلِهِ:(p-١٣٤) ؎يا لَهْفَ زَيّابَةَ لِلْحارِثِ ∗∗∗ الصّابِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ أيِ: الَّذِي صَبَّحَ العَدُوَّ فَغَنِمَ مِنهم، فَآبَ إلى قَوْمِهِ سالِمًا غانِمًا. والجُمْلَةُ المُقْسَمُ عَلَيْها، وهي جَوابُ القَسَمِ، هي ﴿إنَّ ما تُوعَدُونَ﴾ [الأنعام: ١٣٤]، وما مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ تُوعَدُونَهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أيْ إنَّهُ وعْدُكم أوْ وعِيدُكم، إذْ يَحْتَمِلُ تُوعَدُونَ الأمْرَيْنِ أنْ يَكُونَ مُضارِعَ وعَدَ ومُضارِعَ أوْعَدَ، ويُناسِبُ أنْ يَكُونَ مُضارِعَ أوْعَدَ لِقَوْلِهِ: ﴿فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخافُ وعِيدِ﴾ [ق: ٤٥]، ولِأنَّ المَقْصُودَ التَّخْوِيفُ والتَّهْوِيلُ. ومَعْنى صِدْقِهِ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ، والمُتَّصِفُ بِالصِّدْقِ حَقِيقَةً هو المُخْبِرُ. وقالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ وعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: ٦٥]: أيْ مَصْدُوقٍ فِيهِ. وقِيلَ: (لَصادِقٌ)، ووَضَعَ اسْمَ الفاعِلِ مَوْضِعَ المَصْدَرِ، ولا حاجَةَ إلى هَذا التَّقْدِيرِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الأظْهَرُ أنَّ الآيَةَ في الكُفّارِ، وأنَّهُ وعِيدٌ مَحْضٌ. ﴿وإنَّ الدِّينَ﴾: أيِ الجَزاءَ، (لَواقِعٌ): أيْ صادِرٌ حَقِيقَةً عَلى المُكَلَّفِينَ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ. والظّاهِرُ في السَّماءِ أنَّهُ جِنْسٌ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ السَّماواتِ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ: هي السَّماءُ السّابِعَةُ. وقِيلَ: السَّحابُ الَّذِي يُظِلُّ الأرْضَ. ﴿ذاتِ الحُبُكِ﴾: أيْ ذاتِ الخَلْقِ المُسْتَوِي الجَيِّدِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ والرَّبِيعُ. وقالَ الحَسَنُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿ذاتِ الحُبُكِ﴾: أيِ الزِّينَةِ بِالنُّجُومِ. وقالَ الضَّحّاكُ: ذاتِ الطَّرائِقِ، يَعْنِي مِنَ المَجَرَّةِ الَّتِي في السَّماءِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذاتِ الشِّدَّةِ، لِقَوْلِهِ: ﴿سَبْعًا شِدادًا﴾ [النبإ: ١٢] . وقِيلَ: ذاتِ الصَّفاقَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: الحُبُكُ بِضَمَّتَيْنِ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ، وأبُو مالِكٍ الغِفارِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو السَّمّالِ، ونُعَيْمٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِإسْكانِ الباءِ، وعِكْرِمَةُ: بِفَتْحِها، جَمْعَ حَبْكَةٍ، مِثْلُ: طَرْفَةٍ وطُرَفٍ. وأبُو مالِكٍ الغِفارِيُّ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ، بِكَسْرِ الحاءِ والباءِ، وأبُو مالِكٍ الغِفارِيُّ، والحَسَنُ أيْضًا، وأبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الحاءِ وإسْكانِ الباءِ، وهو تَخْفِيفُ فِعِلٍ المَكْسُورِهِما وهو اسْمٌ مُفْرَدٌ لا جَمْعٌ، لِأنَّ فِعِلًا لَيْسَ مِن أبْنِيَةِ الجُمُوعِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُعَدَّ مَعَ إبِلٍ فِيما جاءَ مِنَ الأسْماءِ عَلى فِعِلٍ بِكَسْرِ الفاءِ والعَيْنِ، وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وأبُو مالِكٍ: بِفَتْحِهِما. قالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: فَهو جَمْعُ حَبَكَةٍ، مِثْلَ عَقَبَةٍ وعَقَبٍ. انْتَهى. والحَسَنُ أيْضًا: الحِبَكِ. بِكَسْرِ الحاءِ وفَتْحِ الباءِ، وقَرَأ أيْضًا كالجُمْهُورِ، فَصارَتْ قِراءَتُهُ خَمْسًا: الحُبُكِ، الحِبِكِ، الحُبْكِ، الحُبَكِ، الحَبَكِ. وقَرَأ أبُو مالِكٍ أيْضًا: الحِبُكِ بِكَسْرِ الحاءِ وضَمِّ الباءِ، وذَكَرَها ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الحَسَنِ، فَتَصِيرُ لَهُ سِتُّ قِراءاتٍ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ، وهو عَدِيمُ النَّظِيرِ في العَرَبِيَّةِ: في أبْنِيَتِها وأوْزانِها، ولا أدْرِي ما رَواهُ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي قِراءَةٌ شاذَّةٌ غَيْرُ مُتَوَجِّهَةٍ، وكَأنَّهُ أرادَ كَسْرَها، ثُمَّ تَوَهَّمَ ”الحِبُكِ“ قِراءَةَ الضَّمِّ بَعْدَ أنْ كَسَرَ الحاءَ وضَمَّ الباءَ، وهَذا عَلى تَداخُلِ اللُّغاتِ، ولَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ هَذا البِناءُ. انْتَهى. وعَلى هَذا تَأوَّلَ النُّحاةُ هَذِهِ القِراءاتِ، والأحْسَنُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ مِمّا اتَّبَعَ فِيهِ حَرَكَةُ الحاءِ لِحَرَكَةِ (ذاتِ) في الكَسْرَةِ، ولَمْ يُعْتَدَّ بِاللّامِ السّاكِنَةِ، لِأنَّ السّاكِنَ حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. وجَوابُ القَسَمِ: ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾، والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ عامٌّ لِلْمُسْلِمِ والكافِرِ، كَما أنَّ جَوابَ القَسَمِ السّابِقِ يَشْمَلُهُما، واخْتِلافُهم كَوْنُهم مُؤْمِنًا بِالرَّسُولِ ﷺ وكِتابِهِ وكافِرًا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: خِطابٌ لِلْكَفَرَةِ، فَيَقُولُونَ: ساحِرٌ شاعِرٌ كاهِنٌ مَجْنُونٌ، وقالَ الضَّحّاكُ: قَوْلُ الكَفَرَةِ لا يَكُونُ مُسْتَوِيًا، إنَّما يَكُونُ مُتَناقِضًا مُخْتَلِفًا. وقِيلَ: اخْتِلافُهم في الحَشْرِ، مِنهم مَن يَنْفِيهِ، ومِنهم مَن يَشُكُّ فِيهِ. وقِيلَ: اخْتِلافُهم: إقْرارُهم بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَدَهم وعِبادَتَهم غَيْرَهُ والأقْوالَ الَّتِي يَقُولُونَها في آلِهَتِهِمْ. (يُؤْفَكُ): أيْ يُصْرَفُ عَنْهُ، أيْ عَنِ القُرْآنِ والرَّسُولِ ﷺ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ. ﴿مَن أُفِكَ﴾: أيْ مَن صُرِفَ الصَّرْفَ الَّذِي لا صَرْفَ أشَدُّ مِنهُ وأعْظَمُ لِقَوْلِهِ: «لا يَهْلِكُ عَلى اللَّهِ إلّا هالِكٌ» . وقِيلَ: مَن صُرِفَ في سابِقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ مَأْفُوكٌ عَنِ الحَقِّ لا يَرْعَوِي. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِما تُوعَدُونَ، أوْ لِلَّذِي أقْسَمَ بِالسَّماءِ (p-١٣٥)عَلى أنَّهم في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في وُقُوعِهِ، فَمِنهم شاكٌّ ومِنهم جاحِدٌ. ثُمَّ قالَ: يُؤْفَكُ عَنِ الإقْرارِ بِأمْرِ القِيامَةِ مَن هو المَأْفُوكُ. وقِيلَ: المَأْفُوكُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ، وعَنْ هُنا لِلسَّبَبِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى ﴿قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾، أيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَن أرادَ الإسْلامَ بِأنْ يَقُولَ: هو سِحْرٌ هو كَهانَةٌ، حَكاهُ الزَّهْراوِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ، وأوْرَدَهُ عَلى عادَتِهِ في إبْداءِ ما هو مَحْكِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ أنَّهُ مُخْتَرِعُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى ﴿قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾، والمَعْنى: يُصْرَفُ عَنْهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إلى الإسْلامِ مَن غَلَبَتْ سَعادَتُهُ، وهَذا عَلى أنْ يَكُونَ في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ لِلْكُفّارِ، إلّا أنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمالِ في إفْكِهِ الصَّرْفُ مِن خَيْرٍ إلى شَرٍّ، فَلِذَلِكَ لا تَجِدُهُ إلّا في المَذْمُومِينَ. انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ وقَتادَةُ: مَن أفَكَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، أيْ مَن أفَكَ النّاسُ عَنْهُ، وهم قُرَيْشٌ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَأْفِكُ عَنْهُ مَن أفَكَ، أيْ يَصْرِفُ النّاسَ عَنْهُ مَن هو مَأْفُوكٌ في نَفْسِهِ. وعَنْهُ أيْضًا: يَأْفِكُ عَنْهُ مَن أفَكَ، أيْ يَصْرِفُ النّاسَ عَنْهُ مَن هو أفّاكٌ كَذّابٌ. وقُرِئَ: يُؤْفَنُ عَنْهُ مَن أفَنَ بِالنُّونِ فِيهِما، أيْ يُحْرَمُهُ مَن حُرِمَ. مِن أفَنَ الضَّرْعَ إذا نَهَكَهُ حَلْبًا. ﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾: أيْ قَتَلَ اللَّهُ الخَرّاصِينَ، وهُمُ المُقَدِّرُونَ ما لا يَصِحُّ. ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾: في جَهْلٍ يَغْمُرُهم، (ساهُونَ): غافِلُونَ عَنْ ما أُمِرُوا بِهِ. ﴿أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾: أيْ مَتى وقْتُ الجَزاءِ ؟ سُؤالُ تَكْذِيبٍ واسْتِهْزاءٍ، وتَقَدَّمَتْ قِراءَةُ مَن كَسَرَ الهَمْزَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أيّانَ مُرْساها﴾ [النازعات: ٤٢] و﴿أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾، فَيَكُونُ الظَّرْفُ مَحَلًّا لِلْمَصْدَرِ، وانْتَصَبَ يَوْمَهم بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: هو كائِنٌ، أيِ الجَزاءُ، قالَهُ الزَّجّاجُ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هو يَوْمُهم، والفَتْحَةُ فَتْحَةُ بِناءٍ لِإضافَتِهِ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وهي الجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ. ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ والزَّعْفَرانِيِّ: يَوْمُهم. بِالرَّفْعِ، وإذا كانَ ظَرْفًا جازَ أنْ تَكُونَ الحَرَكَةُ فِيهِ حَرَكَةَ إعْرابٍ وحَرَكَةَ بِناءٍ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى إضافَةِ الظَّرْفِ المُسْتَقْبَلِ إلى الجُمْلَةِ الإسْمِيَّةِ في غافِرٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ هم بارِزُونَ﴾ [غافر: ١٦] . وقالَ بَعْضُ النُّحاةِ: يَوْمُهم بَدَلٌ مِن (يَوْمُ الدِّينِ)، فَيَكُونُ هُنا حِكايَةً مِن كَلامِهِمْ عَلى المَعْنى، ويَقُولُونَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ. ولَوْ حَكى لَفْظَ قَوْلِهِمْ، لَكانَ التَّرْكِيبُ: يَوْمَ نَحْنُ عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ. ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾: أيْ يُقالُ لَهم ذُوقُوا. (هَذا الَّذِي): مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا بَدَلًا مِن (فِتْنَتَكم)، أيْ ذُوقُوا هَذا العَذابَ. انْتَهى، وفِيهِ بُعْدٌ، والِاسْتِقْلالُ خَيْرٌ مِنَ البَدَلِ. ومَعْنى تُفْتَنُونَ: تُعَذَّبُونَ في النّارِ. ولَمّا ذَكَرَ حالَ الكُفّارِ، ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ، وانْتَصَبَ آخِذِينَ عَلى الحالِ، أيْ قابِلِيهِ راضِينَ بِهِ، وذَلِكَ في الجَنَّةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (آخِذِينَ): أيْ في دُنْياهم، ﴿ما آتاهم رَبُّهُمْ﴾ مِن أوامِرِهِ ونَواهِيهِ وشَرْعِهِ، فالحالُ مَحْكِيَّةٌ لِتَقَدُّمِها في الزَّمانِ عَلى كَوْنِهِمْ في الجَنَّةِ. والظّاهِرُ أنَّ (قَلِيلًا) ظَرْفٌ، وهو في الأصْلِ صِفَةٌ، أيْ كانُوا في قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ كانُوا يَهْجَعُونَ هُجُوعًا قَلِيلًا، وما زائِدَةٌ في كِلا الإعْرابَيْنِ. وفَسَّرَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ ذَلِكَ فَقالَ: كانُوا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ، ولا يَدُلُّ لَفْظُ الآيَةِ عَلى الِاقْتِصارِ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: كانُوا يُصِيبُونَ مِنَ اللَّيْلِ حَظًّا. وقالَ مُطَرِّفٌ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ أبِي نُجَيْحٍ: قَلَّ لَيْلَةٌ أتَتْ عَلَيْهِمْ هُجُوعًا كُلُّها. وقالَ الحَسَنُ: كابَدُوا قِيامَ اللَّيْلِ لا يَنامُونَ مِنهُ إلّا قَلِيلًا. وقالَ الضَّحّاكُ: ﴿كانُوا قَلِيلًا﴾، أيْ في عَدَدِهِمْ، وثُمَّ خَبَرُ كانَ، ثُمَّ ابْتَدَأ ﴿مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ﴾، فَما نافِيَةٌ، وقَلِيلًا وقْفٌ حَسَنٌ، وهَذا القَوْلُ فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلامِ، وتَقَدَّمَ مَعْمُولُ العامِلِ المَنفِيِّ بِما عَلى عامِلِهِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، ولَوْ كانَ ظَرْفًا أوْ مَجْرُورًا. وقَدْ أجازَ ذَلِكَ بَعْضُهم، وجاءَ في الشِّعْرِ قَوْلُهُ: ؎إذا هي قامَتْ حاسِرًا مُشْمَعِلَّةً ∗∗∗ يَحْسَبُ الفُؤادُ رَأْسَها ما تُقَنَّعُ فَقَدَّمَ رَأْسَها عَلى ما تُقَنَّعُ، وهو مَنفِيٌّ بِما، وجَوَّزُوا أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقَلِيلًا، أيْ كانُوا قَلِيلًا هُجُوعُهم، وهو إعْرابٌ سَهْلٌ حَسَنٌ، وأنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، والعائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: (p-١٣٦)﴿كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ مِنَ الوَقْتِ الَّذِي يَهْجَعُونَ فِيهِ، وفِيهِ تَكَلُّفٌ. ومِنَ اللَّيْلِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم مَشْغُولُونَ بِالعِبادَةِ في أوْقاتِ الرّاحاتِ، وسُكُونِ الأنْفُسِ مِن مَشاقِّ النَّهارِ. ﴿وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾، فِيهِ ظُهُورٌ عَلى أنَّ تَهَجُّدَهم يَتَّصِلُ بِالأسْحارِ، فَيَأْخُذُونَ في الِاسْتِغْفارِ مِمّا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ فِيهِ تَقْصِيرٌ وكَأنَّهم أجْرَمُوا في تِلْكَ اللَّيالِي، والأسْحارُ مَظَنَّةُ الِاسْتِغْفارِ. وقالَ ابْنُ عَمْرٍو الضَّحّاكُ: يَسْتَغْفِرُونَ: يُصَلُّونَ. وقالَ الحَسَنُ: يَدْعُونَ في طَلَبِ المَغْفِرَةِ، والظّاهِرُ أنَّ قِيامَ اللَّيْلِ وهَذا الحَقُّ في المالِ هو مِنَ المَندُوباتِ، وأكْثَرُ ما تَقَعُ زِيادَةُ الثَّوابِ بِفِعْلِ المَندُوبِ. وقالَ القاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذا الحَقُّ هو الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ، وضَعُفَ بِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وفَرْضُ الزَّكاةِ بِالمَدِينَةِ. وقِيلَ: كانَ فَرْضًا، ثُمَّ نُسِخَ وضَعُفَ بِأنَّهُ تَعالى لَمْ يَشْرَعْ شَيْئًا بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ مِن أخْدِ الأمْوالِ. والسّائِلُ: الَّذِي يَسْتَعْطِي، والمَحْرُومُ: لُغَةً المَمْنُوعُ مِنَ الشَّيْءِ، قالَ عَلْقَمَةُ: ؎ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الغُنْمِ مُطْعَمُهُ ∗∗∗ أنّى تَوَجَّهَ والمَحْرُومُ مَحْرُومُ وأمّا في الآيَةِ، فالَّذِي يُحْسَبُ غَنِيًّا فَيُحْرَمُ الصَّدَقَةَ لِتَعَفُّفِهِ. وقِيلَ: الَّذِي تَبْعُدُ مِنهُ مُمَكِّناتُ الرِّزْقِ بَعْدَ قُرْبِها مِنهُ فَيَنالُهُ الحِرْمانُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُحارِبُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ في الإسْلامِ سَهْمُ مالٍ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: هو الَّذِي أُجِيحَتْ ثَمَرَتُهُ. وقِيلَ: الَّذِي ماتَتْ ماشِيَتُهُ. وقالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: هو الكَلْبُ. وقِيلَ: الَّذِي لا يُنْمى لَهُ مالٌ. وقِيلَ: المُحارَفُ الَّذِي لا يَكادُ يَكْسِبُ. وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لا التَّعْيِينِ، ويَجْمَعُها أنَّهُ الَّذِي لا مالَ لَهُ لِحِرْمانٍ أصابَهُ. ﴿وفي الأرْضِ آياتٌ﴾ تَدُلُّ عَلى الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ وتَدْبِيرِهِ مِن حَيْثُ هي كالبِساطِ لِما فَوْقَها، وفِيها الفِجاجُ لِلسُّلّاكِ، وهي مُتَجَزِّئَةٌ مِن سَهْلٍ ووَعْرٍ وبَحْرٍ وبَرٍّ، وقِطَعٍ مُتَجاوِراتٍ مِن صُلْبَةٍ ورَخْوَةٍ ومُنْبِتَةٍ وسَبِخَةٍ، وتُلَقَّحُ بِأنْواعِ النَّباتِ، وفِيها العُيُونُ والمَعادِنُ والدَّوابُّ المُنْبَثَّةُ في بَحْرِها وبَرِّها المُخْتَلِفَةُ الأشْكالِ. وقَرَأ قَتادَةُ: آيَةٌ. عَلى الإفْرادِ، (لِلْمُوقِنِينَ): وهُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ، وأداهم ذَلِكَ إلى إيقانِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَأيْقَنُوا لَمْ يَدْخُلْهم رَيْبٌ. ﴿وفِي أنْفُسِكُمْ﴾ حالَ ابْتِدائِها وانْتِقالِها مِن حالٍ إلى حالٍ، وما أوْدَعَ في شَكْلِ الإنْسانِ مِن لَطائِفِ الحَواسِّ، وما تَرَتَّبَ عَلى العَقْلِ الَّذِي أُوتِيهِ مِن بَدائِعِ العُلُومِ وغَرِيبِ الصَّنائِعِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يَنْحَصِرُ. ﴿وفي السَّماءِ رِزْقُكُمْ﴾، قالَ الضَّحّاكُ ومُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ: المَطَرُ والثَّلْجُ، لِأنَّهُ سَبَبَ الأقْواتِ، وكُلُّ عَيْنٍ دائِمَةٍ مِنَ الثَّلْجِ. وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا وواصِلٌ الأحْدَبُ: أرادَ القَضاءَ والقَدْرَ، أيِ الرِّزْقُ عِنْدَ اللَّهِ يَأْتِي بِهِ كَيْفَ شاءَ، ﴿وما تُوعَدُونَ﴾: الجَنَّةُ، أوْ هي النّارُ، أوْ أمْرُ السّاعَةِ، أوْ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، أوْ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ، أقْوالٌ المُرادُ بِها التَّمْثِيلُ لا التَّعْيِينُ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أرْزاقُكم عَلى الجَمْعِ، والضَّمِيرُ في إنَّهُ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أوْ إلى الدِّينِ الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ﴾، أوْ إلى اليَوْمِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾، أوْ إلى الرِّزْقِ، أوْ إلى اللَّهِ، أوْ إلى النَّبِيِّ ﷺ، أقْوالٌ مَنقُولَةٌ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الإخْبارِ السّابِقِ مِنَ اللَّهِ تَعالى فِيما تَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِن صِدْقِ المَوْعُودِ ووُقُوعِ الجَزاءِ وكَوْنِهِمْ في ﴿قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾، و﴿قُتِلَ الخَرّاصُونَ﴾، وكَيْنُونَةُ المُتَّقِينَ في الجَنَّةِ عَلى ما وصَفَ، وذَكَرَ أوْصافَهم وما ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ شُبِّهَ في الحَقِيقَةِ بِما يَصْدُرُ مِن نُطْقِ الإنْسانِ بِجامِعِ ما اشْتَرَكا فِيهِ مِنَ الكَلامِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ، والحَسَنُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، والأعْمَشُ: بِخِلافٍ عَنْ ثَلاثَتِهِمْ: مِثْلُ. بِالرَّفْعِ صِفَةً لِقَوْلِهِ: (لَحَقٌّ)، وباقِي السَّبْعَةِ، والجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ، وقِيلَ: هي فَتْحَةُ بِناءٍ، وهو نَعْتٌ كَحالِهِ في قِراءَةِ مَن رَفَعَ. ولَمّا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بُنِيَ، وما عَلى هَذا الإعْرابِ زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، والإضافَةُ هي إلى أنَّكم تَنْطِقُونَ. وقالَ المازِنِيُّ: بُنِيَ ”مِثْلَ“ لِأنَّهُ رُكِّبَ مَعَ ما، فَصارَ شَيْئًا واحِدًا، ومِثْلُهُ: ويْحَما وهَيَّما (p-١٣٧)وابْنَما، قالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: ؎ألا هَيَّما مِمّا لَقِيتُ وهَيَّما ∗∗∗ ووَيْحًا لِمَن لَمْ يَلْقَ مِنهُنَّ ويْحَما قالَ: فَلَوْلا البِناءُ لَكانَ مُنَوَّنًا، وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَأكْرِمْ بِنا أُمًّا وأكْرِمْ بِنا ابْنَما انْتَهى هَذا التَّخْرِيجُ. وابْنَما لَيْسَ ابْنًا بُنِيَ مَعَ ما، بَلْ هَذا مِن بابِ زِيادَةِ المِيمِ فِيهِ وإتْباعِ ما في الآخِرِ، إذْ جُعِلَ في المِيمِ الإعْرابُ. تَقُولُ: هَذا ابْنَمُ، ورِئْتُ ابْنَما، ومَرَرْتُ بِابْنَمِ، ولَيْسَتْ ما في الثَّلاثِ في ابْنَما مُرَكَّبَةً مَعَ ما، كَما قالَ: الفَتْحَةُ في ابْنَما حَرَكَةُ إعْرابٍ، وهو مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ، وأنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ في بِناءِ الِاسْمِ مَعَ الحَرْفِ قَوْلَ الرّاجِزِ: ؎أثَوْرٌ ما أصِيدُكم أوْ ثَوْرَيْنِ ∗∗∗ أمْ تِيكُمُ الجَمّاءُ ذاتُ القَرْنَيْنِ وقِيلَ: هو نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إنَّهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ ما أنَّكم، فَحَرَكَتُهُ حَرَكَةُ إعْرابٍ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى أنَّهُ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَسْتَكِنِّ في (لَحَقٌّ) . وقِيلَ: حالٌ مِن لَحَقٌّ، وإنْ كانَ نَكِرَةً، فَقَدْ أجازَ ذَلِكَ الجَرْمِيُّ وسِيبَوَيْهِ في مَواضِعَ مِن كِتابِهِ. والنُّطْقُ هُنا عِبارَةٌ عَنِ الكَلامِ بِالحُرُوفِ والأصْواتِ في تَرْتِيبِ المَعانِي. ويَقُولُ النّاسُ: هَذا حَقٌّ، كَما أنَّكَ هَهُنا، وهَذا حَقٌّ كَما أنَّكَ تَرى وتَسْمَعُ، وهَذا كَما في الآيَةِ. وما زائِدَةٌ بِنَصِّ الخَلِيلِ، ولا يُحْفَظُ حَذْفُها فَتَقُولَ: هَذا حَقٌّ كَأنَّكَ هاهُنا، والكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَ مِثْلًا مَحَلًّا، فَيَنْصِبُونَهُ عَلى الظَّرْفِ، ويُجِيزُونَ زَيْدٌ مِثْلَكَ. بِالنَّصْبِ، فَعَلى مَذْهَبِهِمْ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”مِثْلَ“ فِيها مَنصُوبًا عَلى الظَّرْفِ، واسْتِدْلالُهم والرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. ومِن كَلامِ بَعْضِ الأعْرابِ: مَن ذا الَّذِي أغْضَبَ الخَلِيلَ حَتّى حَلَفَ، لَمْ يُصَدِّقُوهُ بِقَوْلِهِ حَتّى ألْجَئُوهُ إلى اليَمِينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب