الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ إشارَةً إلى دَلِيلِ الأنْفُسِ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] وإنَّما اخْتارَ مِن دَلائِلَ الآفاقِ ما في الأرْضِ لِظُهُورِها لِمَن عَلى ظُهُورِها فَإنَّ في أطْرافِها وأكْنافِها ما لا يُمْكِنُ عَدُّ أصْنافِها فَدَلِيلُ الأنْفُسِ في قَوْلِهِ: ﴿وفِي أنْفُسِكُمْ﴾ عامٌّ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ، وإنَّما أتى بِصِيغَةِ الخِطابِ لِأنَّها أظْهَرُ لِكَوْنِ عِلْمِ الإنْسانِ بِما في نَفْسِهِ أتَمَّ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفِي أنْفُسِكُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ وفِيكم، يُقالُ الحِجارَةُ في نَفْسِها صُلْبَةٌ ولا يُرادُ بِها النَّفْسُ الَّتِي هي مَنبَعُ الحَياةِ والحِسِّ والحَرَكاتِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ وفي نُفُوسِكُمُ الَّتِي بِها حَياتُكم آياتٌ وقَوْلُهُ: ﴿أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ بِالِاسْتِفْهامِ إشارَةٌ إلى ظُهُورِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ. أحَدُها: في السَّحابِ المَطَرُ. ثانِيها: ﴿وفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ﴾ مَكْتُوبٌ. ثالِثُها: تَقْدِيرُ الأرْزاقِ كُلِّها مِنَ السَّماءِ ولَوْلاهُ لَما حَصَلَ في الأرْضِ حَبَّةُ قُوتٍ، وفي الآياتِ الثَّلاثِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ لَهُ أُمُورٌ يَحْتاجُ إلَيْها لا بُدَّ مِن سَبْقِها حَتّى يُوجَدَ هو في نَفْسِهِ وأُمُورٌ تُقارِنُهُ في الوُجُودِ وأُمُورٌ تَلْحَقُهُ وتُوجَدُ بَعْدَهُ لِيَبْقى بِها، فالأرْضُ هي المَكانُ وإلَيْهِ يَحْتاجُ الإنْسانُ ولا بُدَّ مِن سَبْقِها فَقالَ: ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ﴾ ثُمَّ في نَفْسِ الإنْسانِ أُمُورٌ مِنَ الأجْسامِ والأعْراضِ فَقالَ: ﴿وفِي أنْفُسِكُمْ﴾ ثُمَّ بَقاؤُهُ بِالرِّزْقِ فَقالَ: ﴿وفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ﴾ ولَوْلا السَّماءُ لَما كانَ لِلنّاسِ البَقاءُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما تُوعَدُونَ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ. أحَدُها: الجَنَّةُ المَوْعُودُ بِها لِأنَّها في السَّماءِ. ثانِيها: هو مِنَ الإيعادِ لِأنَّ البِناءَ لِلْمَفْعُولِ مِن أوْعَدَ يُوعِدُ أيْ ﴿وما تُوعَدُونَ﴾ إمّا مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ﴾ فَيَكُونُ إيعادًا عامًّا، وإمّا مِنَ العَذابِ وحِينَئِذٍ يَكُونُ الخِطابُ مَعَ الكُفّارِ فَيَكُونُ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ كافِيَةٌ، وأمّا أنْتُمْ أيُّها الكافِرُونَ فَفي أنْفُسِكم آياتٌ هي أظْهَرُ الآياتِ وتَكْفُرُونَ بِها لِحُطامِ الدُّنْيا وحُبِّ الرِّياسَةِ، وفي السَّماءِ الأرْزاقُ، فَلَوْ نَظَرْتُمْ وتَأمَّلْتُمْ حَقَّ التَّأمُّلِ، لَما تَرَكْتُمُ الحَقَّ لِأجْلِ الرِّزْقِ، فَإنَّهُ واصِلٌ بِكُلِّ طَرِيقٍ ولاجْتَنَبْتُمُ الباطِلَ اتِّقاءً لِما تُوعِدُونَ مِنَ العَذابِ النّازِلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ . وفِي المُقْسَمِ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أحَدُها: ﴿وما تُوعَدُونَ﴾ أيْ ما تُوعَدُونَ لَحَقٌّ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ﴾ وعَلى هَذا يَعُودُ كُلُّ ما قُلْناهُ في وُجُوهِ ﴿وما تُوعَدُونَ﴾ إنْ قُلْنا إنَّ ذَلِكَ هو الجَنَّةُ فالمُقْسَمُ عَلَيْهِ هو هي. ثانِيها: الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى القُرْآنِ أيْ أنَّ القُرْآنَ حَقٌّ وفِيما ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾ دَلِيلُ هَذِهِ وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ مَعْناهُ تَكَلَّمَ بِهِ المَلَكُ النّازِلُ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِهِ مِثْلَ ما أنَّكم تَتَكَلَّمُونَ وسَنَذْكُرُهُ. ثالِثُها: أنَّهُ راجِعٌ إلى الدِّينِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ﴾ . رابِعُها: أنَّهُ راجِعٌ إلى اليَوْمِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿أيّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ وصْفُ اللَّهِ اليَوْمَ بِالحَقِّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ﴾ [النبأ: ٣٩] . خامِسُها: أنَّهُ راجِعٌ (p-١٨٠)إلى القَوْلِ الَّذِي يُقالُ: ﴿هَذا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وفي التَّفْسِيرِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: الفاءُ تَسْتَدْعِي تَعْقِيبَ أمْرٍ لِأمْرٍ فَما الأمْرُ المُتَقَدِّمُ ؟ نَقُولُ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: الدَّلِيلُ المُتَقَدِّمُ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿إنَّ ما تُوعَدُونَ﴾ لَحَقٌّ بِالبُرْهانِ المُبِينِ، ثُمَّ بِالقَسَمِ واليَمِينِ. ثانِيهِما: القَسَمُ المُتَقَدِّمُ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿والذّارِياتِ﴾ ثُمَّ ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ﴾ وعَلى هَذا يَكُونُ الفاءُ حَرْفَ عَطْفٍ أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفُ القَسَمِ كَما يُعادُ الفِعْلُ إذْ يَصِحُّ أنْ يُقالَ ومَرَرْتُ بِعَمْرٍو، فَقَوْلُهُ: ﴿والذّارِياتِ ذَرْوًا﴾ ﴿فالحامِلاتِ وِقْرًا﴾ عَطْفٌ مِن غَيْرِ إعادَةِ حَرْفِ القَسَمِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ﴾ مَعَ إعادَةِ حَرْفِهِ، والسَّبَبُ فِيهِ وُقُوعُ الفَصْلِ بَيْنَ القَسَمَيْنِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ الأمْرُ المُتَقَدِّمُ هو بَيانُ الثَّوابِ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ﴾ وفِيهِ فائِدَةٌ، وهو أنَّ الفاءَ تَكُونُ تَنْبِيهًا عَلى أنْ لا حاجَةَ إلى اليَمِينِ مَعَ ما تَقَدَّمَ مِنَ الكَشْفِ المُبِينِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ ورَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ، كَما يَقُولُ القائِلُ بَعْدَما يُظْهِرُ دَعْواهُ هَذا واللَّهِ إنَّ الأمْرَ كَما ذَكَرْتُ فَيُؤَكِّدُ قَوْلَهُ بِاليَمِينِ، ويُشِيرُ إلى ثُبُوتِهِ مِن غَيْرِ يَمِينٍ. البَحْثُ الثّانِي: أقْسَمَ مِن قَبْلُ بِالأُمُورِ الأرْضِيَّةِ وهي الرِّياحُ وبِالسَّماءِ في قَوْلِهِ: ﴿والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾ ولَمْ يُقْسِمْ بِرَبِّها، وهَهُنا أقْسَمَ بِرَبِّها نَقُولُ كَذَلِكَ التَّرْتِيبُ يُقْسِمُ المُتَكَلِّمُ أوَّلًا بِالأدْنى فَإنْ لَمْ يُصَدَّقْ بِهِ يَرْتَقِي إلى الأعْلى، ولِهَذا قالَ بَعْضُ النّاسِ إذا قالَ قائِلٌ وحَياتِكَ واللَّهِ لا يَكْفُرُ وإذا قالَ: واللَّهِ وحَياتِكَ لا شَكَّ يَكْفُرُ وهَذا اسْتِشْهادٌ، وإنْ كانَ الأمْرُ عَلى خِلافِ ما قالَهُ ذَلِكَ القائِلُ؛ لِأنَّ الكُفْرَ إمّا بِالقَلْبِ، أوْ بِاللَّفْظِ الظّاهِرِ في أمْرِ القَلْبِ، أوْ بِالفِعْلِ الظّاهِرِ، وما ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظاهِرٍ في تَعْظِيمِ جانِبِ غَيْرِ اللَّهِ، والعَجَبُ مِن ذَلِكَ القائِلِ أنَّهُ لا يَجْعَلُ التَّأْخِيرَ في الذِّكْرِ مُفِيدًا لِلتَّرْتِيبِ في الوُضُوءِ وغَيْرِهِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قُرِئَ ”مِثْلُ“ بِالرَّفْعِ وحِينَئِذٍ يَكُونُ وصْفًا لِقَوْلِهِ ”لَحَقٌّ“ ومِثْلُ وإنْ أُضِيفَ إلى المَعْرِفَةِ لا يُخْرِجُهُ عَنْ جَوازِ وصْفِ المُنْكَّرِ بِهِ، تَقُولُ رَأيْتُ رَجُلًا مِثْلَ عَمْرٍو؛ لِأنَّهُ لا يُفِيدُهُ تَعْرِيفًا لِأنَّهُ في غايَةِ الإبْهامِ وقُرِئَ:”مِثْلَ“ بِالنَّصْبِ، ويَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مَفْتُوحًا لِإضافَتِهِ إلى ما هو ضَعِيفٌ وإلّا جازَ أنْ يُقالَ زَيْدٌ قاتِلُ مَن يَعْرِفُهُ أوْ ضارِبُ مَن يَشْتُمُهُ. ثانِيهِما: أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى البَيانِ تَقْدِيرُهُ لَحَقٌّ حَقًّا مِثْلَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ إنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، ووَجْهُهُ أنّا دَلَّلَنا أنَّ المُرادَ مِنَ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ﴾ هو القُرْآنُ فَكَأنَّهُ قالَ إنَّ القُرْآنَ لَحَقٌّ نَطَقَ بِهِ المَلَكُ نُطْقًا ﴿مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ وما مَجْرُورٌ لا شَكَّ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب