الباحث القرآني

﴿وفي السَّماءِ رِزْقُكم وما تُوعَدُونَ﴾ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ دَلائِلَ الأرْضِ ودَلائِلَ الأنْفُسِ الَّتِي هم مِن عَلائِقِ الأرْضِ عَطَفَ ذِكْرَ السَّماءِ لِلْمُناسِبَةِ، وتَمْهِيدًا لِلْقَسَمِ الَّذِي بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [الذاريات: ٢٣] . ولِما في السَّماءِ مِن آيَةِ المَطَرِ الَّذِي بِهِ تُنْبِتُ الأرْضُ بَعْدَ الجَفافِ، فالمَعْنى: وفي السَّماءِ آيَةُ المَطَرِ، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ المَطَرِ إلى الرِّزْقِ إدْماجًا لِلِامْتِنانِ في الِاسْتِدْلالِ فَإنَّ الدَّلِيلَ في كَوْنِهِ مَطَرًا يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. وهَذا قِياسُ تَمْثِيلٍ لِلنَّبْتِ، أيْ في السَّماءِ المَطَرُ الَّذِي تُرْزَقُونَ بِسَبَبِهِ. فالرِّزْقُ: هو المَطَرُ الَّذِي تَحْمِلُهُ السُّحُبُ والسَّماءُ هُنا: طَبَقاتُ الجَوِّ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى مُتَعَلِّقِهِ لِلتَّشْوِيقِ ولِلِاهْتِمامِ بِالمَكانِ ولِلرَّدِّ عَلى الفاصِلَةِ. وعَطْفُ ”وما تُوعَدُونَ“ إدْماجٌ بَيْنَ أدِلَّةِ إثْباتِ البَعْثِ لِقَصْدِ المَوْعِظَةِ الشّامِلَةِ لِلْوَعِيدِ عَلى الإشْراكِ والوَعْدِ عَلى الإيمانِ إنْ آمَنُوا تَعْجِيلًا بِالمَوْعِظَةِ عِنْدَ سُنُوحِ فُرْصَتِها. وفِي إيثارِ صِيغَةِ ”تُوعَدُونَ“ خُصُوصِيَّةٌ مِن خَصائِصِ إعْجازِ القُرْآنِ، فَإنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ صالِحَةٌ لِأنْ تَكُونَ مَصُوغَةً مِنَ الوَعْدِ فَيَكُونُ وزْنُ ”تُوعَدُونَ“ تُفْعَلُونَ مُضارِعُ وعَدَ مَبْنِيًّا لِلنّائِبِ. وأصْلُهُ قَبْلَ البِناءِ لِلنّائِبِ تَعِدُونَ وأصْلُهُ تُوعِدُونَ، فَلَمّا بُنِيَ لِلنّائِبِ ضُمَّ حَرْفُ المُضارَعَةِ فَصارَتِ الواوُ السّاكِنَةُ مَدَّةً مُجانَسَةً لِلضَّمَّةِ فَصارَ: تُوعَدُونَ. وصالِحَةٌ لِأنْ تَكُونَ مِنَ الإيعادِ ووَزْنُهُ تَأفْعَلُونَ مِثْلَ تَصْرِيفِ أكْرَمَ يُكْرِمُ وبِذَلِكَ صارَ تُوعَدُونَ مِثْلَ تُكْرَمُونَ، فاحْتُمِلَتْ لِلْبِشارَةِ والإنْذارِ. (p-٣٥٥)وكَوْنُ ذَلِكَ في السَّماءِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّهُ مُحَقَّقٌ في عِلْمِ أهْلِ السَّماءِ، أيِ المَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِتَصْرِيفِهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّ مَكانَ حُصُولِهِ في السَّماءِ، مِن جَنَّةٍ أوْ جَهَنَّمَ بِناءً عَلى أنَّ الجَنَّةَ وجَهَنَّمَ مَوْجُودَتانِ مِن قَبْلِ يَوْمِ القِيامَةِ، وفي ذَلِكَ اخْتِلافٌ لا حاجَةَ إلى ذِكْرِهِ. وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ ما أُوعِدُوهُ يَأْتِيهِمْ مِن قِبَلِ السَّماءِ كَما قالَ تَعالى: ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الدخان: ١٠] . فَإنَّ ذَلِكَ الدُّخانَ كانَ في طَبَقاتِ الجَوِّ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الدُّخانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب