الباحث القرآني
فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا، ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم.
فهذا قبل مبعث النبي محمد ﷺ حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي ﷺ ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية: أضلوا أتباعهم والثالثة: أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي ﷺ لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله.
وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله ﷺ كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها، فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال.
* (فائدة)
كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى.
وهذا كما قالوا، فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر.
وأما من فسد من العُبّاد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله ﷺ وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الاتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر.
فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد، ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب.
* (فصل)
وَقَدْ نَهى اللَّهُ عَنِ الغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم غَيْرَ الحَقِّ﴾ [المائدة: ٧٧].
والغُلُوُّ نَوْعانِ: نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا. كَمَن زادَ في الصَّلاةِ رَكْعَةً، أوْ صامَ الدَّهْرَ مَعَ أيّامِ النَّهْيِ، أوْ رَمى الجَمَراتِ بِالصَّخْراتِ الكِبارِ الَّتِي يُرْمى بِها في المَنجَنِيقِ، أوْ سَعى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ عَشْرًا، أوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا.
وَغُلُوٌّ يُخافُ مِنهُ الِانْقِطاعُ والِاسْتِحْسارُ. كَقِيامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ. وسَرْدِ الصِّيامِ الدَّهْرَ أجْمَعَ. بِدُونِ صَوْمِ أيّامِ النَّهْيِ. والجَوْرِ عَلى النُّفُوسِ في العِباداتِ والأوْرادِ، الَّذِي قالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ هَذا الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وقارِبُوا ويَسِّرُوا. واسْتَعِينُوا بِالغُدْوَةِ والرَّوْحَةِ. وشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يَعْنِي اسْتَعِينُوا عَلى طاعَةِ اللَّهِ بِالأعْمالِ في هَذِهِ الأوْقاتِ الثَّلاثَةِ. فَإنَّ المُسافِرَ يَسْتَعِينُ عَلى قَطْعِ مَسافَةِ السَّفَرِ بِالسَّيْرِ فِيها.
وَقالَ ﷺ «لِيُصَلِّ أحَدُكم نَشاطَهُ. فَإذا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ» رَواهُما البُخارِيُّ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ - قالَها ثَلاثًا - وهُمُ المُتَعَمِّقُونَ المُتَشَدِّدُونَ».
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْهُ ﷺ «عَلَيْكم مِنَ الأعْمالِ ما تُطِيقُونَ، فَواللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتّى تَمَلُّوا».
وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ هَذا الدِّينَ مَتِينٌ. فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ. ولا تُبَغِّضَنَّ إلى نَفْسِكَ عِبادَةَ اللَّهِ». أوْ كَما قالَ.
وَقَوْلُهُ: ولا يُحْمَلا عَلى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيادَ.
يُرِيدُ: أنْ لا يَتَأوَّلَ في الأمْرِ والنَّهْيِ عِلَّةً تَعُودُ عَلَيْهِما بِالإبْطالِ، كَما تَأوَّلَ بَعْضُهم تَحْرِيمَ الخَمْرِ بِأنَّهُ مُعَلَّلٌ بِإيقاعِ العَداوَةِ والبَغْضاءِ، والتَّعَرُّضِ لِلْفَسادِ. فَإذا أمِنَ مِن هَذا المَحْذُورِ مِنهُ جازَ شُرْبُهُ. كَما قِيلَ:
؎أدِرْها فَما التَّحْرِيمُ فِيها لِذاتِها ∗∗∗ ولَكِنْ لِأسْبابٍ تَضَمَّنَّها السُّكْرُ
؎إذا لَمْ يَكُنْ سُكْرٌ يُضِلُّ عَنِ الهُدى ∗∗∗ فَسِيّانِ ماءٌ في الزُّجاجَةِ أوْ خَمْرُ
وَقَدْ بَلَغَ هَذا بِأقْوامٍ إلى الِانْسِلاخِ مِنَ الدِّينِ جُمْلَةً. وقَدْ حَمَلَ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ أنْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ ما عَدا شَرابِ خَمْرِ العِنَبِ مُعَلَّلًا بِالإسْكارِ. فَلَهُ أنْ يَشْرَبَ مِنهُ ما شاءَ، ما لَمْ يُسْكِرْ.
وَمِنَ العِلَلِ الَّتِي تُوهِنُ الِانْقِيادَ: أنْ يُعَلِّلَ الحُكْمَ بِعِلَّةٍ ضَعِيفَةٍ، لَمْ تَكُنْ هي الباعِثَةَ عَلَيْهِ في نَفْسِ الأمْرِ. فَيَضْعُفَ انْقِيادُ العَبْدِ إذا قامَ عِنْدَهُ أنَّ هَذِهِ هي عِلَّةُ الحَكَمِ. ولِهَذا كانَتْ طَرِيقَةُ القَوْمِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِعِلَلِ التَّكالِيفِ خَشْيَةَ هَذا المَحْذُورِ.
وَفِي بَعْضِ الآثارِ القَدِيمَةِ: يا بَنِي إسْرائِيلَ. لا تَقُولُوا: لِمَ أمَرَ رَبُّنا؟ ولَكِنْ قُولُوا: بِمَ أمَرَ رَبُّنا؟
وَأيْضًا فَإنَّهُ إذا لَمْ يَمْتَثِلِ الأمْرَ حَتّى تَظْهَرَ لَهُ عِلَّتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُنْقادًا لِلْأمْرِ.
وَأقَلُّ دَرَجاتِهِ: أنْ يَضْعُفَ انْقِيادُهُ لَهُ.
وَأيْضًا فَإنَّهُ إذا نَظَرَ إلى حِكَمِ العِباداتِ والتَّكالِيفِ مَثَلًا. وجَعَلَ العِلَّةَ فِيها هي جَمْعِيَّةَ القَلْبِ، والإقْبالَ بِهِ عَلى اللَّهِ. فَقالَ: أنا أشْتَغِلُ بِالمَقْصُودِ عَنِ الوَسِيلَةِ. فاشْتَغَلَ بِجَمْعِيَّتِهِ وخَلْوَتِهِ عَنْ أوْرادِ العِباراتِ فَعَطَّلَها، وتَرَكَ الِانْقِيادَ بِحَمْلِهِ الأمْرَ عَلى العِلَّةِ الَّتِي أذْهَبَتِ انْقِيادَهُ.
وَكُلُّ هَذا مِن تَرْكِ تَعَظُّمِ الأمْرِ والنَّهْيِ.
وَقَدْ دَخَلَ مِن هَذا الفَسادِ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الطَّوائِفِ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. فَما يَدْرِي ما أوْهَنَتِ العِلَلُ الفاسِدَةُ مِن الِانْقِيادِ إلّا اللَّهُ. فَكَمْ عَطَّلَتْ لِلَّهِ مِن أمْرٍ. وأباحَتْ مِن نَهْيٍ. وحَرَّمَتْ مِن مُباحٍ؟!
وَهِيَ الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ السَّلَفِ عَلى ذَمِّها.
{"ayah":"قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَ قَوۡمࣲ قَدۡ ضَلُّوا۟ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّوا۟ كَثِیرࣰا وَضَلُّوا۟ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق