الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿قُلْ أتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا نَفْعًا واللهُ هو السَمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عن سَواءِ السَبِيلِ﴾ ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾
أمَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يُوقِفَهم عَلى عِبادَتِهِمْ شَخْصًا مِنَ البَشَرِ؛ لا يَمْلِكُ أنْ يَضُرَّهُمْ؛ ولا أنْ يَنْفَعَهم.
و"مِن دُونِ"؛ و"دُونَ فُلانٍ"؛ وما جاءَ مِن هَذِهِ اللَفْظَةِ؛ فَإنَّما تُضافُ إلى مَن لَيْسَ في النازِلَةِ الَّتِي فِيها القَوْلُ؛ وتَفْسِيرُها بِـ "غَيْرُ" أمْرٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ.
والضَرُّ؛ بِفَتْحِ الضادِ؛ المَصْدَرُ؛ والضُرُّ؛ بِضَمِّها؛ الِاسْمُ؛ وهو عَدَمُ الخَيْرِ.
و"اَلسَّمِيعُ"؛ إشارَةٌ إلى تَحْصِيلِ أقْوالِهِمْ؛ و"اَلْعَلِيمُ"؛ بِنِيّاتِهِمْ؛ وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هاتانِ الصِفَتانِ مُنَبِّهَتانِ عَلى قُصُورِ البَشَرِ؛ أيْ: "واللهُ تَعالى هو السَمِيعُ العَلِيمُ بِالإطْلاقِ؛ لا عِيسى؛ ولا غَيْرُهُ"؛ وهم مُقِرُّونَ أنَّ عِيسى قَدْ كانَ مُدَّةً لا يَسْمَعُ؛ ولا يَعْلَمُ؛ وقالَ نَحْوَهُ مَكِّيٌّ.
(p-٢٢٧)ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا أنْ يَنْهاهم عَنِ الغُلُوِّ في دِينِهِمْ؛ والغُلُوُّ: تَجاوُزُ الحَدِّ؛ "غَلا السَهْمُ": إذا تَجاوَزَ الغَرَضَ المَقْصُودَ؛ واسْتَوْفى سَوْمَهُ مِنَ الِاطِّرادِ؛ وتِلْكَ المَسافَةُ هي غَلْوَتُهُ؛ وكَما كانَ قَوْلُهُ: "لا تَغْلُوا"؛ بِمَعْنى: "لا تَقُولُوا؛ ولا تَلْتَزِمُوا"؛ نُصِبَ "غَيْرَ"؛ ولَيْسَ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: "اِجْتَنِبُوا مِن دِينِكُمُ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ الغُلُوَّ"؛ وإنَّما مَعْناهُ: "فِي دِينِكُمُ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ دِينَكُمْ"؛ لِأنَّ كُلَّ إنْسانٍ فَهو مَطْلُوبٌ بِالدِينِ الحَقِّ؛ وحَرِيٌّ أنْ يَتَّبِعَهُ؛ ويَلْتَزِمَهُ؛ وهَذِهِ المُخاطَبَةُ هي لِلنَّصارى الَّذِينَ غَلَوْا في عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ والقَوْمُ الَّذِينَ نُهِيَ النَصارى عَنِ اتِّباعِ أهْوائِهِمْ: بَنُو إسْرائِيلَ؛ ومَعْنى الآيَةِ: "لا تَتَّبِعُوا أنْتُمْ أهْواءَكُمْ؛ كَما اتَّبَعَ أُولَئِكَ أهْواءَهُمْ"؛ فالمَعْنى: "لا تَتَّبِعُوا طَرائِقَهُمْ"؛ والَّذِي دَعا إلى هَذا التَأْوِيلِ أنَّ النَصارى في غُلُوِّهِمْ لَيْسُوا عَلى هَوى بَنِي إسْرائِيلَ؛ هم بِالضِدِّ في الأقْوالِ؛ وإنَّما اجْتَمَعُوا في اتِّباعِ نَوْعِ الهَوى؛ فالآيَةُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ لِمَن تَلُومُهُ عَلى عِوَجٍ: "هَذِهِ طَرِيقَةُ فُلانٍ"؛ تُمَثِّلُهُ بِآخَرَ قَدِ اعْوَجَّ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الِاعْوِجاجِ؛ وإنِ اخْتَلَفَتْ نَوازِلُهُ.
ووَصَفَ تَعالى اليَهُودَ بِأنَّهم ضَلُّوا قَدِيمًا؛ وأضَلُّوا كَثِيرًا مِن أتْباعِهِمْ؛ ثُمَّ أكَّدَ الأمْرَ بِتَكْرارِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَضَلُّوا عن سَواءِ السَبِيلِ﴾ ؛ وذَهَبَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ إلى أنَّ المَعْنى: "يا أهْلَ الكِتابِ مِنَ النَصارى؛ لا تَتَّبِعُوا أهْواءَ هَؤُلاءِ اليَهُودِ الَّذِينَ ضَلُّوا مِن قَبْلُ - أيْ: ضَلَّ أسْلافُهُمْ؛ وهم قَبْلَ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ وأضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ المُنافِقِينَ؛ وضَلُّوا عن سَواءِ السَبِيلِ الآنَ بَعْدَ وُضُوحِ الحَقِّ".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ قَدْ تَقَرَّرَ في غَيْرِ (p-٢٢٨)مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ ما جَرى في مُدَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - مِن كُفْرِ بَعْضِهِمْ؛ وعُتُوِّهِمْ؛ وكَذَلِكَ أمَرُهم مَعَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - كانَ مُشاهَدًا في وقْتِ نُزُولِ القُرْآنِ؛ فَخَصَّتْ هَذِهِ الآيَةُ داوُدَ؛ وعِيسى - عَلَيْهِما السَلامُ - إعْلامًا بِأنَّهم لُعِنُوا في الكُتُبِ الأرْبَعَةِ؛ وأنَّهم قَدْ لُعِنُوا عَلى لِسانِ غَيْرِ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ ومُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: لُعِنُوا بِكُلِّ لِسانٍ؛ لُعِنُوا عَلى عَهْدِ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - في التَوْراةِ؛ وعَلى عَهْدِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَلامُ - في الزَبُورِ؛ وعَلى عَهْدِ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - في الإنْجِيلِ؛ وعَلى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في القُرْآنِ.
ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ أنَّهُ اقْتَرَنَ بِلَعْنَتِهِمْ عَلى لِسانِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَلامُ - أنْ مُسِخُوا خَنازِيرَ؛ وذَلِكَ أنَّ داوُدَ - عَلَيْهِ السَلامُ - مَرَّ عَلى نَفَرٍ وهم في بَيْتٍ؛ فَقالَ: "مَن في البَيْتِ؟"؛ قالُوا: خَنازِيرُ؛ عَلى مَعْنى الِانْحِجابِ؛ قالَ: "اَللَّهُمَّ اجْعَلْهم خَنازِيرَ"؛ فَكانُوا خَنازِيرَ؛ ثُمَّ دَعا عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - عَلى مَنِ افْتَرى عَلَيْهِ عَلى أنْ يَكُونُوا قِرَدَةً؛ فَكانُوا قِرَدَةً.
وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: بَلْ مُسِخُوا في زَمَنِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَلامُ - قِرَدَةً؛ وفي زَمَنِ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - خَنازِيرَ؛ وحَكى الزَجّاجُ نَحْوَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وذِكْرُ المَسْخِ لَيْسَ مِمّا تُعْطِيهِ ألْفاظُ الآيَةِ؛ وإنَّما تُعْطِي ألْفاظُ الآيَةِ أنَّهم لَعَنَهُمُ اللهُ تَعالى وأبْعَدَهم مِن رَحْمَتِهِ؛ وأعْلَمَ بِذَلِكَ العِبادَ المُؤْمِنِينَ عَلى لِسانِ داوُدَ النَبِيَّ في زَمَنِهِ؛ وعَلى لِسانِ عِيسى في زَمَنِهِ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: لُعِنَ عَلى لِسانِ داوُدَ أصْحابُ السَبْتِ؛ وعَلى لِسانِ عِيسى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالمائِدَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "ذَلِكَ" إشارَةٌ إلى لَعْنَتِهِمْ؛ وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
{"ayahs_start":76,"ayahs":["قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرࣰّا وَلَا نَفۡعࣰاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ","قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَ قَوۡمࣲ قَدۡ ضَلُّوا۟ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّوا۟ كَثِیرࣰا وَضَلُّوا۟ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ","لُعِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۚ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ"],"ayah":"قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَ قَوۡمࣲ قَدۡ ضَلُّوا۟ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّوا۟ كَثِیرࣰا وَضَلُّوا۟ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق