الباحث القرآني

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أي: قل يا محمد. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ أي: يا أصحاب الكتاب، والمراد بهم اليهود والنصارى، وبالكتاب التوراة والإنجيل، المراد الجنس، و(أل) هنا للعهد أي: الكتاب (...) الذي يعرفه المخاطب. ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ أي: في عبادتكم، والغلوُّ مجاوزة الحد، وذلك حيث قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وتشدد اليهود في أشياء لم تكن مكتوبة عليهم، وإن كان اليهود قد شُدِّد عليهم كما قال الله عز وجل: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النساء ١٦٠]. المهم أن المراد ﴿لَا تَغْلُوا﴾ أي: لا تجاوزوا الحد. ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ في عبادتكم. وقوله: ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أي غلوًّا غير الحق، والوصف هنا ليس للقيد؛ لأن الغلو كله ليس بحق لكنه بيان للواقع، ويُسَمِّي العلماء مثل هذا القيد الذي لبيان الواقع يسمونه: صفة كاشفة. وقوله: ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ الحق ما وافق الشرع، والباطل ما خالف الشرع. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾ ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ﴾ (الأهواء) جمع هوًى، والمراد بالهوى هنا ما خالف شريعة الله؛ لأن الأعمال إما هوى وإما هدى؛ فما وافق الشرع فهو هدى وما خالفه فهو هوى. وقوله: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾ يشير إلى علمائهم ورهبانهم الذين حرَّفوا دين الله فضلوا وأضلوا، والله سبحانه وتعالى يقول: اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا أهواء هؤلاء القوم الذين ضلوا من قبل. ﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ يعني ما (...) ضالين بأنفسهم كانوا أئمة في الضلال فأضلوا كثيرًا، كثيرا ممن؟ كثيرًا من الناس، فصاروا -والعياذ بالله- ضالين بأنفسهم مُضِلِّين لغيرهم عكس الصالحين المصلحين أو المهتدين الهادين. ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ هذا عطف للتوضيح والإيضاح؛ لأنه قال: ﴿ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ﴾ عن أيش؟ يُبَيِّنُه بقوله ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ أي: عن مستقيم السبيل، السواء يطلق على معان كثيرة؛ منها: الاستقامة، المعنى: عن السبيل المستقيم، فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها. * في هذه الآية الكريمة: أمرُ النبي ﷺ أمرًا خاصًّا أن يقول هذا القول، وقد بَيَّنَا في غير موضع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مأمور أن يبلغ القرآن كله، لكن أحيانًا يُوَجَّه إليه الخطاب بتبليغ شيء معين لماذا؟ للاعتناء به. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أهل الكتاب عندهم غلو، وهو واضح، فالنصارى يقولون: إن عيسى ابن الله، واليهود يقولون: إن عزيرًا ابن الله، وهم أيضًا يَتَّبِعُون أحبارهم ورهبانهم ويتخذونهم أربابًا (...). * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه إذا نُهِيَ أهل الكتاب عن الغلو -والغلو في ذاته مفسدة- فكذلك يُنْهَى غيرُهم؛ ولهذا حذَّر النبي ﷺ من الغلوِّ في الدين ومن الغلوِّ في نفسه «فكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن الغلو في الدين، فنهى الذين قالوا: إنا نصوم ولا نفطر، ونقوم ولا ننام، ولا نتزوج النساء، ولا نأكل اللحم»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٦٣)، ومسلم (١٤٠١ / ٥) من حديث أنس.]]، «وأخذ حصيات في حجة الوداع وجعل يقلبها في يده ويقول: «بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ والْغُلُوِّ فِي الدِّينِ»[[أخرجه النسائي (٣٠٥٧) وابن ماجه (٣٠٢٩) من حديث عبد الله بن عباس.]]، وسَمَّى الذين أرادوا المواصلة في الصوم سَمَّاهم الْمُتَعَمِّقِينَ تحذيرًا لفعلهم،« ودعا على المُتَنَطِّعِين في دينهم ثلاث مرات فقال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُون»[[أخرجه مسلم (٢٦٧٠ / ٧) من حديث عبد الله بن مسعود.]] والغالب أن الغالي الغالب أنه ينحرف نسأل الله العافية؛ لأن الغلو خلاف الفطرة فيكون الغلو هذا ظاهريًّا فقط ويكون قلبه خاليًا من حقيقة الإيمان؛ ولهذا «أخبر النبي ﷺ أن الخوارج: يحقِّر الصحابي صلاته عند صلاتهم وقراءته بقراءتهم ولكن إيمانهم لا يتجاوز حناجرهم»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٦١٠)، ومسلم (١٠٦٥ / ١٤٨) من حديث أبي سعيد الخدري.]]، والعياذ بالله. الغالب أن الغالي هكذا تجده قلبه يجول مع الناس وأفعال الناس وينتقدهم ويعترض عليهم، لكنه خالٍ من معرفة الله حق المعرفة ومن الرجوع إليه والإنابة إليه، فاحذر هذا، احذر هذا، كن مستقيمًا بين الغلو والتفريط. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الغلو خلاف الحق؛ لقوله: ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: النهي عن اتباع أهواء الضالين؛ لقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا﴾. * ومن فوائدها: أن الذي يحمل الإنسان على الضلال هو الهوى وإلَّا لو كان الإنسان يقول بالعدل ويحكم بالقسط ما ضلَّ عن الصراط المستقيم، لكن يَغْلِبُه هواه حتى يَضِلَّ؛ ولهذا قال: ﴿أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا﴾ ثم بَيَّن ضلالهم ﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذير من الإمامة في الضلال؛ لقوله: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية الذين قالوا: إن فعل الإنسان لا يُنسَب إليه وأنه مجبور عليه ولا اختيار له فيه؛ لأن الآية صريحة بأنهم ضلوا وأضلوا. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿وَأَضَلُّوا﴾ فإن هذا الإضلال ليس عن قوة وإجبار وإنكار، لكنه عن سبب يزينون به الباطل حتى يصير به الأقوى. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المضلِّين الضالِّين جمعوا بين سُوءَين؛ الأول: ضلالهم لأنفسهم، والثاني: إضلال غيرهم، وهل يمكن أن يقتصر الإنسان على واحدة كضلاله نفسه فقط؟ * طالب: لا. * طلبة: نعم. * الشيخ: يمكن، يمكن أن يكون ضالًّا ولا يدعو لضلال، لكنه إذا كان إمامًا في قومه صار ضلاله دعوة بالفعل، دعوة بالفعل؛ لأنه سوف يُتأَسَّى به و يُقْتَدى به، وهل يمكن أن يكون مضِلًّا وهو غير ضالٍّ؟ * طلبة: لا يمكن. * الشيخ: لا يمكن؛ لأن إضلاله يعتبر؟ * طلبة: ضلالًا. * الشيخ: ضلالًا، هو ربما يكون قائمًا بما أمر الله عليه من أفعاله الخاصة، لكن إذا كان يضل فهذا ضلال، إذن يمكن أن يكون الإنسان ضالًّا غير مضل ولا يمكن أن يكون؟ * طلبة: مضلًّا غير ضال. * الشيخ: مضلًّا غير ضال؛ لأننا نقول: مجرد كونه يُضِلُّ الناس هذا ضلال. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الدين الصحيح وسط بين الغالي فيه والجافي عنه؛ لقوله: ﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ أي: عن قَيِّم السبيل ووسط السبيل العدل الذي ليس فيه غلو ولا تفريط.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب