﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُبَیِّنَ لَكُمۡ وَیَهۡدِیَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَیَتُوبَ عَلَیۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ ٢٦ وَٱللَّهُ یُرِیدُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡكُمۡ وَیُرِیدُ ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَ ٰتِ أَن تَمِیلُوا۟ مَیۡلًا عَظِیمࣰا ٢٧ یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا ٢٨﴾ [النساء ٢٦-٢٨]
وَقَدْ قالَ تَعالى عُقَيْبَ ذِكْرِهِ ما أُحِلَّ لَنا مِنَ النِّساءِ وما حُرِّمَ مِنهُنَّ:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم ويَتُوبَ عَلَيْكم واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - واللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكم ويُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا - يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٦-٢٨].
ذَكَرَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ: كانَ إذا نَظَرَ إلى النِّساءِ لَمْ يَصْبِرْ.
وَفِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«أنَّهُ رَأى امْرَأةً، فَأتى زَيْنَبَ فَقَضى حاجَتَهُ مِنها، وقالَ: إنَّ المَرْأةَ تُقْبِلُ في صُورَةِ شَيْطانٍ، وتُدْبِرُ في صُورَةِ شَيْطانٍ، فَإذا رَأى أحَدُكُمُ امْرَأةً فَأعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أهْلَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ ما في نَفْسِهِ»، فَفي هَذا الحَدِيثِ عِدَّةُ فَوائِدَ:
مِنها: الإرْشادُ إلى التَّسَلِّي عَنِ المَطْلُوبِ بِجِنْسِهِ، كَما يَقُومُ الطَّعامُ مَكانَ الطَّعامِ، والثَّوْبُ مَقامَ الثَّوْبِ.
وَمِنها: الأمْرُ بِمُداواةِ الإعْجابِ بِالمَرْأةِ المُوَرِّثِ لِشَهْوَتِها بِأنْفَعِ الأدْوِيَةِ، وهو قَضاءُ وطَرِهِ مِن أهْلِهِ، وذَلِكَ يَنْقُضُ شَهْوَتَهُ لَها، وهَذا كَما أرْشَدَ المُتَحابِّينَ إلى النِّكاحِ، كَما في سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ مَرْفُوعًا:
«لَمْ يُرَ لِلْمُتَحابِّينَ مِثْلُ النِّكاحِ».
فَنِكاحُ المَعْشُوقَةِ هو دَواءُ العِشْقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ دَواءً شَرْعًا، وقَدْ تَداوى بِهِ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يَرْتَكِبْ نَبِيُّ اللَّهِ مُحَرَّمًا، وإنَّما تَزَوَّجَ المَرْأةَ وضَمَّها إلى نِسائِهِ لِمَحَبَّتِهِ لَها، وكانَتْ تَوْبَتُهُ بِحَسَبِ مَنزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، ولا يَلِيقُ بِنا المَزِيدُ عَلى هَذا.
وَأمّا قِصَّةُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: فَزَيْدٌ كانَ قَدْ عَزَمَ عَلى طَلاقِها ولَمْ تُوافِقْهُ، وكانَ يَسْتَشِيرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في فِراقِها، وهو يَأْمُرُهُ بِإمْساكِها، فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ مُفارِقُها لا بُدَّ، فَأخْفى في نَفْسِهِ أنَّهُ يَتَزَوَّجُها إذا فارَقَها زَيْدٌ، وخَشِيَ مَقالَةَ النّاسِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ، فَإنَّهُ كانَ قَدْ تَبَنّى زَيْدًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، والرَّبُّ تَعالى يُرِيدُ أنْ يُشَرِّعَ شَرْعًا عامًّا فِيهِ مَصالِحُ عِبادِهِ، فَلَمّا طَلَّقَها زَيْدٌ، وانْقَضَتْ عِدَّتُها مِنهُ، أرْسَلَهُ إلَيْها يَخْطُبُها لِنَفْسِهِ، فَجاءَ زَيْدٌ واسْتَدْبَرَ البابَ بِظَهْرِهِ، وعَظُمَتْ في صَدْرِهِ لَمّا ذَكَرَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَناداها مِن وراءِ البابِ: يا زَيْنَبُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُكِ، فَقالَتْ: ما أنا بِصانِعَةٍ شَيْئًا حَتّى أُؤامِرَ رَبِّي، وقامَتْ إلى مِحْرابِها فَصَلَّتْ، فَتَوَلّى اللَّهُ عِزَّ وجَلَّ نِكاحَها مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِنَفْسِهِ، وعَقَدَ النِّكاحَ لَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، وجاءَ الوَحْيُ بِذَلِكَ:
﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها﴾ [الأحزاب: ٣٧].
فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِوَقْتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْها، فَكانَتْ تَفْخَرُ عَلى نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ، وتَقُولُ: أنْتُنَّ زَوَّجَكُنَّ أهالِيكُنَّ، وزَوَّجَنِي اللَّهُ مِن فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ، فَهَذِهِ قِصَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَ زَيْنَبَ.
وَلا رَيْبَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ قَدْ حُبِّبَ إلَيْهِ النِّساءُ، كَما في الصَّحِيحِ عَنْ أنَسٍ عَنْهُ ﷺ:
«حُبِّبَ إلَيَّ مِن دُنْياكُمُ النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ» هَذا لَفْظُ الحَدِيثِ، لا ما يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ:
«حُبِّبَ إلَيَّ مِن دُنْياكم ثَلاثٌ،» زادَ الإمامُ أحْمَدُ في كِتابِ الزُّهْدِ في هَذا الحَدِيثِ:
«أصْبِرُ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ ولا أصْبِرُ عَنْهُنَّ»، وقَدْ حَسَدَهُ أعْداءُ اللَّهِ اليَهُودُ عَلى ذَلِكَ فَقالُوا: ما هَمَّهُ إلّا النِّكاحُ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْ رَسُولِهِ ﷺ ونافَحَ عَنْهُ، فَقالَ:
﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤].
وَهَذا خَلِيلُ اللَّهِ إبْراهِيمُ كانَ عِنْدَهُ سارَّةُ أجْمَلُ نِساءِ العالَمِينَ، وأحَبَّ هاجَرَ وتَسَرّى بِها.
وَهَذا داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عِنْدَهُ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ امْرَأةً، فَأحَبَّ تِلْكَ المَرْأةَ وتَزَوَّجَها فَكَمَّلَ المِائَةَ، وهَذا سُلَيْمانُ ابْنُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَطُوفُ في اللَّيْلَةِ عَلى تِسْعِينَ امْرَأةً.
«وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أحَبِّ النّاسِ إلَيْهِ، فَقالَ: عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وقالَ عَنْ خَدِيجَةَ: إنِّي رُزِقْتُ حُبَّها».
فَمَحَبَّةُ النِّساءِ مِن كَمالِ الإنْسانِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أكْثَرُها نِساءً، وقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وقَعَ في سَهْمِهِ يَوْمَ جَلُولاءَ جارِيَةٌ كَأنَّ عُنُقَها إبْرِيقٌ مِن فِضَّةٍ، قالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَما صَبَرْتُ عَنْها أنْ قَبَّلْتُها والنّاسُ يَنْظُرُونَ، وبِهَذا احْتَجَّ الإمامُ أحْمَدُ عَلى جَوازِ الِاسْتِمْتاعِ مِنَ المَسْبِيَّةِ قَبْلَ الِاسْتِبْراءِ بِغَيْرِ الوَطْءِ، بِخِلافِ الأمَةِ المُشْتَراةِ.
والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ انْفِساخَ المِلْكِ لا يُتَوَهَّمُ في المَسْبِيَّةِ بِخِلافِ المُشْتَراةِ، فَقَدْ يَنْفَسِخُ فِيها المِلْكُ، فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِأمَةِ غَيْرِهِ.
وَقَدْ شَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِعاشِقٍ أنْ تُواصِلَهُ مَعْشُوقَتُهُ بِأنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ فَأبَتْ، وذَلِكَ في قِصَّةِ مُغِيثٍ وبَرِيرَةَ
«لَمّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ يَمْشِي خَلْفَها ودُمُوعُهُ تَجْرِي عَلى خَدَّيْهِ، فَقالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ راجَعْتِيهِ؟ فَقالَتْ: أتَأْمُرُنِي يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: لا، إنَّما أشْفَعُ، فَقالَتْ: لا حاجَةَ لِي بِهِ، فَقالَ لِعَمِّهِ: يا عَبّاسُ ألا تَعْجَبُ مِن حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيَرَةَ، ومِن بُغْضِها لَهُ، ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ حُبَّها، وإنْ كانَتْ قَدْ بانَتْ مِنهُ».
وَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يُساوِي بَيْنَ نِسائِهِ في القَسْمِ ويَقُولُ:
«اللَّهُمَّ هَذا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيما لا أمْلِكُ» يَعْنِي في الحُبِّ، وقَدْ قالَ تَعالى:
﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: ١٢٩]، يَعْنِي في الحُبِّ والجِماعِ.
وَلَمْ يَزَلِ الخُلَفاءُ الرّاشِدُونَ والرُّحَماءُ مِنَ النّاسِ يَشْفَعُونَ لِلْعُشّاقِ إلى مَعْشُوقِهِمُ الجائِزِ وصْلُهُنَّ، كَما تَقَدَّمَ مِن فِعْلِ أبِي بَكْرٍ وعُثْمانَ، وكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِغُلامٍ مِنَ العَرَبِ وُجِدَ في دارِ قَوْمٍ بِاللَّيْلِ، فَقالَ لَهُ: ما قِصَّتُكَ؟ قالَ: لَسْتُ بِسارِقٍ، ولَكِنِّي أصْدُقُكَ:
تَعَلَّقْتُ في دارِ الرِّياحِيِّ خُودَةً ∗∗∗ يَذِلُّ لَها مِن حُسْنِ مَنظَرِها البَدْرُ
لَها في بَناتِ الرُّومِ حُسْنٌ ومَنظَرُ ∗∗∗ إذا افْتَخَرَتْ بِالحُسْنِ خافَتْها الفَخْرُ
فَلَمّا طَرَقْتُ الدّارَ مِن حَرِّ مُهْجَتِي ∗∗∗ أبَيْتُ وفِيها مِن تَوَقُّدِها الجَمْرُ
تَبادَرَ أهْلُ الدّارِ بِي ثُمَّ صَيَّحُوا ∗∗∗ هو اللِّصُّ مَحْتُومًا لَهُ القَتْلُ والأسْرُ
فَلَمّا سَمِعَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شِعْرَهُ، رَقَّ لَهُ، وقالَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ رَباحٍ: اسْمَحْ لَهُ بِها، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، سَلْهُ مَن هُوَ؟ فَقالَ: النَّهّاسُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَقالَ: خُذْها فَهي لَكَ.
واشْتَرى مُعاوِيَةُ جارِيَةً فَأُعْجِبَ بِها إعْجابًا شَدِيدًا، فَسَمِعَها يَوْمًا تُنْشِدُ أبْياتًا مِنها:
وَفارَقْتُهُ كالغُصْنِ يَهْتَزُّ في الثَّرى ∗∗∗ طَرِيرًا وسِيمًا بَعْدَ ما طَرَّ شارِبُهُ
فَسَألَها، فَأخْبَرَتْهُ أنَّها تُحِبُّ سَيِّدَها، فَرَدَّها إلَيْهِ وفي قَلْبِهِ مِنها.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في رَبِيعَةَ أنَّ زُبَيْدَةَ قَرَأتْ في طَرِيقِ مَكَّةَ عَلى حائِطٍ:
أما في عِبادِ اللَّهِ أوْ في إمائِهِ ∗∗∗ كَرِيمٌ يُجْلِي الهَمَّ عَنْ ذاهِبِ العَقْلِ
لَهُ مُقْلَةٌ أمّا الأماقِي قَرِيحَةٌ ∗∗∗ وأمّا الحَشا فالنّارُ مِنهُ عَلى رِجْلِ
فَنَذَرَتْ أنْ تَحْتالَ لِقائِلِها إنْ عَرَفَتْهُ حَتّى تَجْمَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن يُحِبُّهُ، فَبَيْنا هي بِالمُزْدَلِفَةِ، إذْ سَمِعَتْ مَن يُنْشِدُهُما، فَطَلَبَتْهُ، فَزَعَمَ أنَّهُ قالَهُما في ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ نَذَرَ أهْلُها أنْ لا يُزَوِّجُوها مِنهُ، فَوَجَّهَتْ إلى الحَيِّ، وما زالَتْ تَبْذُلُ لَهُمُ المالَ حَتّى زَوَّجُوها مِنهُ، وإذا المَرْأةُ أعْشَقُ لَهُ مِنهُ لَها، فَكانَتْ تَعُدُّهُ مِن أعْظَمِ حَسَناتِها، وتَقُولُ: ما أنا بِشَيْءٍ أسَرَّ مِنِّي مِن جَمْعِي بَيْنَ ذَلِكَ الفَتى والفَتاةِ.
وَقالَ الخَرائِطِيُّ: وكانَ لِسُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ غُلامٌ وجارِيَةٌ يَتَحابّانِ، فَكَتَبَ الغُلامُ إلَيْها يَوْمًا:
وَلَقَدْ رَأيْتُكِ في المَنامِ كَأنَّما ∗∗∗ عاطَيْتِنِي مِن رِيقِ فِيكِ البارِدِ
وَكَأنَّ كَفَّكِ في يَدِي وكَأنَّنا ∗∗∗ بِتْنا جَمِيعًا في فِراشٍ واحِدِ
فَطَفِقْتُ يَوْمِي كُلَّهُ مُتَراقِدًا ∗∗∗ لِأراكِ في نَوْمِي ولَسْتُ بِراقِدِ
فَأجابَتْهُ الجارِيَةُ:
خَيْرًا رَأيْتَ وكُلُّ ما أبْصَرْتَهُ ∗∗∗ سَتَنالُهُ مِنِّي بِرَغْمِ الحاسِدِ
إنِّي لَأرْجُو أنْ تَكُونَ مُعانِقِي ∗∗∗ فَتَبِيتُ مِنِّي فَوْقَ ثَدْيٍ ناهِدِ
وَأراكَ بَيْنَ خَلاخِلِي ودَمالِجِي ∗∗∗ وأراكَ فَوْقَ تَرائِبِي ومَجاسِدِي
فَبَلَغَ سُلَيْمانَ ذَلِكَ فَأنْكَحَها الغُلامَ وأحْسَنَ حالَهُما عَلى فَرْطِ غَيْرَتِهِ.
وَقالَ جامِعُ بْنُ بِرْخِيَّةَ: سَألْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ مُفْتِي المَدِينَةِ: هَلْ في حُبٍّ دَهَمَنا مِن وِزْرٍ؟
فَقالَ سَعِيدٌ: إنَّما تُلامُ عَلى ما تَسْتَطِيعُ مِنَ الأمْرِ، فَقالَ سَعِيدٌ: واللَّهِ ما سَألَنِي أحَدٌ عَنْ هَذا، ولَوْ سَألَنِي ما كُنْتُ أُجِيبُ إلّا بِهِ.
أقْسامُ عِشْقِ النِّساءِ
فَعِشْقُ النِّساءِ ثَلاثَةُ أقْسامٍ: قِسْمٌ هو قُرْبَةٌ وطاعَةٌ، وهو عِشْقُ امْرَأتِهِ وجارِيَتِهِ، وهَذا العِشْقُ نافِعٌ؛ فَإنَّهُ أدْعى إلى المَقاصِدِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ لَها النِّكاحَ، وأكَفُّ لِلْبَصَرِ والقَلْبِ عَنِ التَّطَلُّعِ إلى غَيْرِ أهْلِهِ، ولِهَذا يُحْمَدُ هَذا العاشِقُ عِنْدَ اللَّهِ، وعِنْدَ النّاسِ.
وَعِشْقٌ: هو مَقْتٌ عِنْدَ اللَّهِ وبُعْدٌ مِن رَحْمَتِهِ، وهو أضَرُّ شَيْءٍ عَلى العَبْدِ في دِينِهِ ودُنْياهُ، وهو عِشْقُ المُرْدانِ، فَما ابْتُلِيَ بِهِ إلّا مَن سَقَطَ مِن عَيْنِ اللَّهِ، وطُرِدَ عَنْ بابِهِ، وأُبْعِدَ قَلْبُهُ عَنْهُ، وهو مِن أعْظَمِ الحُجُبِ القاطِعَةِ عَنِ اللَّهِ، كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذا سَقَطَ العَبْدُ مِن عَيْنِ اللَّهِ، ابْتَلاهُ بِمَحَبَّةِ المُرْدانِ، وهَذِهِ المَحَبَّةُ هي الَّتِي جَلَبَتْ عَلى قَوْمِ لُوطٍ ما جَلَبَتْ، فَما أُتُوا إلّا مِن هَذا العِشْقِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢].
وَدَواءُ هَذا الدّاءِ: الِاسْتِعانَةُ بِمُقَلِّبِ القُلُوبِ، وصِدْقُ اللَّجَأِ إلَيْهِ، والِاشْتِغالُ بِذِكْرِهِ، والتَّعْوِيضُ بِحُبِّهِ وقُرْبِهِ، والتَّفَكُّرُ في الألَمِ الَّذِي يُعْقِبُهُ هَذا العِشْقُ، واللَّذَّةُ الَّتِي تَفُوتُهُ بِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَواتُ أعْظَمِ مَحْبُوبٍ، وحُصُولُ أعْظَمِ مَكْرُوهٍ، فَإذا أقْدَمَتْ نَفْسُهُ عَلى هَذا وآثَرَتْهُ، فَلْيُكَبِّرْ عَلى نَفْسِهِ تَكْبِيرَ الجِنازَةِ، ولْيَعْلَمْ أنَّ البَلاءَ قَدْ أحاطَ بِهِ.
والقِسْمُ الثّالِثُ: العِشْقُ المُباحُ، وهو الواقِعُ مِن غَيْرِ قَصْدٍ، كَعِشْقِ مَن وُصِفَتْ لَهُ امْرَأةٌ جَمِيلَةٌ، أوْ رَآها فَجْأةً مِن غَيْرِ قَصْدٍ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِها، ولَمْ يُحْدِثْ لَهُ ذَلِكَ العِشْقُ مَعْصِيَةً، فَهَذا لا يُمْلَكُ ولا يُعاقَبُ، والأنْفَعُ لَهُ مُدافَعَتُهُ، والِاشْتِغالُ بِما هو أنْفَعُ لَهُ مِنهُ، ويَجِبُ الكَتْمُ والعِفَّةُ والصَّبْرُ فِيهِ عَلى البَلْوى، فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ، ويُعَوِّضُهُ عَلى صَبْرِهِ لِلَّهِ وعِفَّتِهِ، وتَرْكِهِ طاعَةَ هَواهُ، وإيثارِ مَرْضاةِ اللَّهِ وما عِنْدَهُ.